قبل سنوات قليلة، لم يكن أحد يعرف مناسبة تدعى "سان فلنتان" أو "عيد الحب".. واليوم فإن ثلثي شعوب العالم تحتفل به، على ذمة ما كتبته صحيفة لوموند الفرنسية.. وإن كان المؤكد أننا مع بقية الشعوب الباقية التي لا يعنيها هذا اليوم، ولا ما يوزع خلاله من رسائل الحب بين رفقاء الدرب، ولا إكراهات الهدايا التي تصنف العشاق بين مبتدئين في الحب أو غارقين فيه إلى العنق...
المغاربة لا يعنيهم سان فلنتان، إلا ما نذر، لأنهم يعتقدون أن الحب مجرد "وَلفْ"، أو كما يقول الغارقون في ويلاته "جرة مثقوبة".. أو لأن المغاربة لم يكن لهم علم بهذا الفلتان أو فلنتان، وإن كان البعض ما زال يعتقد بغلبة بركة مولاي إبراهيم، الولي الصالح بضواحي مدينة مراكش، التي تبدأ بلقاء العشاق من "نوافذ الكِيرَانْ"، ويمكن أن تنتهي بالزواج، وإن كان الأرجح، أنها تبقى أبعد منه، وأقرب إلى "تَاصُوبيِّصْت"، أو لأن المغربي ما زال يعتقد بمأساة قيس بن الملوّح، الذي أشهر حبه المجنون على ليلى، فذهب بكبريائه، وجر النحس والعار على قبيلته.. أما المرأة فما زالت تحبس حبها وراء سبعة أبواب وتغلق عليه بالشمع الأحمر، كي لا يحط من أنفتها، ويظهرها بمظهر المهلوكة.. وأمثلة الاتعاظ والحذر من الحب، أكثر من أمثلة الإفصاح عنه، حتى إذا قيل للمغربي "لهلا إطِيَّح حبك على حجرة"، تمنى لنفسه الهروب، وسلك مسلك الخارج تحت جنح الظلام، سائلا الله الوقاية من ذله، وضعفه وهوانه، وشدة بأسه وسقمه، ونكرانه وهلاكه، ثم لا يتبين له من "تجرجير" العشاق إلا ما آل إليه "الراقدون تحت التراب" في أغنية الموسيقار محمد عبد الوهاب..
وقد كتب الكاتب عبد الوهاب المؤدب أن العرب جميعا معجبون بألف ليلة وليلة، لأنها تعني لهم الانتصار على الحب، عكس ما كتبه لوي ماسينيون عن كتاب الليالي، بأنه معركة الحب الحقيقي بين المرأة والرجل، لأنهما انهزما فيه معا وانتصرا فيه معا..."، وهذا هو الفرق بين من يحتفلون بعيد الحب، لأنه معركة ضرورية تنتهي بصلح ووئام ضروريين، وبين من يعتبرونه أشبه بمعركة يعرب بن قحطان، لا تنتهي إلا لتبدأ، ولا تبرد إلا بعد أن تسقط فيها المرأة بالضربة القاضية.. أما الرجل فخرج ولم يعد..
وطبعا، فإن المغاربة، يجدون التعبير عن الحب، مجرد فائض في المشاعر، وأكثرهم يعتبره نبتة لا تنبت في حقول الأزمة، لأن الحب عنوان كبير للاستقرار، وثقة المواطن في وضعه الاقتصادي والاجتماعي، له علاقة بارتفاع الأسعار، ووقفات العاطلين عن العمل، ومستوى الديمقراطية في البلاد، وأعداد المقاطعين للانتخابات، وألوان الحكومة السياسية، وعقلانية التصريح الحكومي.. ومن يقودون الحكومة..
الحب في علاقات المغاربة ممزوج برائحة الأزمة.. فما إن يلتقي الحبيب بحبيبته والزوج بزوجته إلا وكانت حكومة عبد الإله بنكيران أو سعد الدين العثماني ثالثهما، لأن طريق الحب عادة تؤدي إلى بيت يضمن الاستقرار، و عملا يُغْني عن الانتظار، ودون ذلك يتحول الحب إلى معارضة وكراهية للسياسة والحكومة والانتخابات، وانقلاب أحوال الطقس والدخول إلى مرحلة السكون والبوار..
وفي كل عام، يبقى الحال على حاله، ويصبح الحب والزواج من المواضيع العالقة والمؤجلة، يتحول من المراهقة إلى الإرهاق، فلا يجد المغربي ما يبعث به إلى زوجته المؤجلة، غير قصيدة الشاعر نزار قباني "كل عام وأنت حبيبتي"، لكن "الله غالب"، متمنيا لنفسه أن يتحول إلى هارب ولاجئ ومتسلل عبر الحدود، أو طائر بأجنحة من خيال، أو طابع بريد، ملصق على ظهر رسالة، يصل إلى هناك، ويتمنى أن لا يعود مطرودا إلى الوطن...
واليوم تكاد تكون علاقات الحب مقفلة بالأزمة، شيئا آخرا ليس هو الحب، أو هو حب بلا محبين، محاصر بدكتاتورية الانتظارات والإكراهات، وبقواعد لا تيسر الروابط ولا تطورها إلى استقرار وزواج..
في عيد الحب، الذي احتفل به المحبون هذا اليوم (14 فبراير)، كان من بين الهدايا التي تبادلها المحبون "كتاب الحب لسان فلنتان" وهو مجموعة قصائد، يقال إنها للقس فلنتان، ويقال إنها من وضع شعراء كثيرين، لأن فلنتان لم يكتب شعرا في حياته. تقول إحدى قصائد الكتاب "لنا كل الوقت لكي نحب"، لكن أين يمكن أن يحدث هذا، قطعا ليس في بلادنا أو في بقية البلدان التي ما زالت تنفق كل وقتها لإيفاء حاجياتها من ضرورات البقاء.. وكأن نموذج الإمبراطور الروماني كلود فيس ما زال يكرر نداءه إلى قادة جنوده: "امنعوا عنهم الخبز كي ينسوا عشيقاتهم".. لكن قادته بالغوا في الإخلاص له، فمنعوا الخبز، ومنعوا الزواج على جنودهم، كي لا يشغلهم ذلك عن الحروب، لكن فلنتان القس المسيحي تحدى الإمبراطور وراح يزوّج الجنود خِفية، فأمر الإمبراطور بإعدامه في 14 فبراير من عام 270 ميلادية، ولما أصبحت روما مسيحية، أطلقوا على هذا اليوم، يوم شهيد الحب، لكن لم يطل الاحتفال به كثيرا، فقد تم إبطاله في روما، باعتبارها مدينة المسيحيين المقدسة.
ويقال إن الإنجليز أول من احتفل به في القرن الخامس عشر، فيما المؤكد أن الاحتفال بعيد العشاق لم يبدأ الاحتفال به إلا في السنة الموالية لانتهاء الحرب العالمية الثانية.. أما آخر الأخبار المغربية فتقول إن كتاب الحب لسان فلنتان، بدأ يشاهد خلال الأيام الأخيرة في العديد من المكتبات المغربية.. ليكن، لكن من يضمن للمغاربة، سواء قرأوا الكتاب أم لم يقرأوه، سواء آمنوا بعيد الحب أو كفروا به، أن لهم كامل الوقت لكي يحبوا...
المؤكد أن الزمن المغربي ما زال مأسورا بالأزمة، لم يتخلص من سطوة الانتظار أو الشهريار .. ولم تتيسر له سبل ومسالك الحب...