ما قام به فرد ينتمي إلى القبيلة بشرق أوروبا وافد على أراضي الجمهورية الخامسة هز أركان مؤسسات الجمهورية وامتداداتها أفقيا وعموديا..
الجريمة الشنعاء التي اقترفها فرد واحد قادم من قبيلة غارقة في ماضيها وترسباته تكون النقطة التي أفاضت الكأس المملوءة..
لم نفهم ولم يفهم الرأي العام مصدر هذه الطاقة التي وهبت للجاني الذي فتك بأستاذ باستعمال أداة حادة لقطع رأس الأستاذ والرمي به للتدحرج نهارا امام الملأ وفي واضحة النهار لسبب لا يعني شخص الجاني...
تداعيات الجريمة لم تتوقف عند حدود القانون الذي تدخلت باسمه النيابة العامة فوق مسرح الجريمة ومتابعة واعتقال المشتبه بهم في المشاركة والتحريض وإصدار الفتوى والتنفيذ..
مؤشرات عديدة ترجح أن السلطات العامة بفرنسا جعلت من الحدث مناسبة سياسية لمراجعة الأوراق وإعادة ترتيب السير على الجمر الذي كان سائدا تحت الأنظار قبل وقوع الجريمة الشنعاء التي تم توصيفها قانونا بجريمة الإرهاب بمناسبة الذكرى الخامسة لوقوع العملية الإرهابية ضد هيئة تحرير شارلي إيبدو في سياق مثول المنفذين أمام محكمة لاسين بباريز...
رغم صدور بلاغات وتصريحات رسمية من لدن جمعيات المساجد ومجلس المسلمين بفرنسا تدين كلها هذه الجريمة الشنعاء وتبريء غالبية المسلمين من هذا الفعل الجنائي البشع الذي يسيء لجميع المواطنين والمقيمين... لم يهدأ غضب الرأي العام ولم يطمئن السلطات العمومية على إمكانية الحد من التداعيات...
رئيس الجمهورية الفرنسية الذي سبق له أن تدخل يوم اقتراف الجريمة وتدخل يوم الزيارة للثانوية التي كان يدرس بها الأستاذ صامويل باتي... سيتدخل للمرة الثالثة برحاب جامعة السوربون تجاوبا مع اليوم الوطني لتكريم روح الأستاذ الراحل وتأكيد الالتزام بأن الحرية لا تسمح بالاعتداء على العلمانية، ولا تسمح بالتدخل العنيف في حرية المعلمين والأساتذة في تفكيك كل الطابوهات وكل الجمل والكتابات التي تضخم في قداسة أصحابها داخل فضاء منظم يميز منهجا وتدريسا ومضمونا ما بين للكنيسة وتاريخها الملتبس مع الجمهورية وركائزها الدنيوية من مساواة وحرية وأخوية، وبين ضرورات وحاجيات مدارس الجمهورية لتربية مواطن الغد المؤهل لحماية قيم الجمهورية الفرنسية وفكر بناتها الأولين منذ الجمهورية الأولى إلى الجمهورية الخامسة بمناسبة صدور دستور اكتوبر 1958..
قد ينجح العقل الجماعي الفرنسي في تجاوز الأزمة والتوتر، وتستطيع تفعيل القانون في مساءلة ومتابعة الأفراد الذين تطاولوا على القانون وشكلوا جيوبا للتطرف والتشدد، التي تغذي بعض المليشيات خارج فرنسا، والتي جرت تحت الأنظار وأساءت لقيم الجمهورية وللعلاقات مع الجيران من البلدان المتوسطية.. وكان بلدي من ضحايا هذه الأعمال الإرهابية في عملية الاعتداء على نزلاء فندق أسني بمراكش في منتصف سنة 1994، والتي مازالت تداعياتها ممتدة إلى يومنا، وتحولت إلى جدار هلامي في وجه الحدود البرية المغربية الجزائرية منذ صيف 1994..
مؤشرات تفيد أن الإسلام بفرنسا ليس في حاجة إلى توافد المرشدين والقيمين الدينيين من خارج فرنسا..
لم تعد الجمهورية تقبل بتنظيم مساجدها صلوات جماعية وتحويلها إلى دعوات ضد قيم الجمهورية القائمة قبل قيام المساجد هناك.. مؤشرات ومنابر إعلامية تفيد أن فرنسا مقبلة على فتح صفحة جديدة من تاريخها مع الأديان التي تحترم الدولة المدنية العلمانية الفرنسية.
إقامة مراسم التكريم الوطني واختيار مدرجات برحاب جامعة السوربون الواقعة جوار البانتيون (مقبرة عظماء فرنسا) بالحي اللاتيني بباريز وتحت الرئاسة الفعلية لرئيس الجمهورية الفرنسية تشكل رسالة واضحة الى من يهمهم الأمر أن العلم والمعرفة وفكر الأنوار تراكم وتألق بفضل الحرية.. ولا يمكن الاستمرار في التألق دون تكريم الحرية والحد من أنشطة المجموعات الدينية المتطرفة فوق أراضي الجمهورية...
العارفون بالوقائع والأحداث التاريخية المكثفة التي عرفتها الأمكنة المتقاربة داخل الحي اللاتيني وداخل منطقة l'île de France من بلدية باريز وساحة الباستيل وأوبيراتها الجديدة، مرورا بكنيسة السيدة العذراء ومسرح أوديون، وصعودا إلى مسجد باريز وعودة إلى حي سيتي ماري وبيعتها المقدسة عند أتباع سيدنا موسى، وفي اتجاه ساحة لاكونكورد مرورا بمتحف اللوفر على الجانب الأيسر لنهر السين.. العارفون وما أكثرهم من النخبة المغربية العابرة من هناك قد تفهم رسالة باريز اليوم إلى بلدنا المتوسطي الذي تعنيه الوقائع وعليه أن يستخلص ما يراه مناسبا ومفيدا له ولأبنائه ولمغاربة العالم هناك..
نتمنى أن تتوفق مؤسسات الدولة الفرنسية في حل مشاكلها الداخلية مع تداعيات سياساتها العمومية وآليات تنظيم وتمثيل أديان المؤمنين والمؤمنات من مواطني ومواطنات جمهوريتها... كما نتمنى أن لا تنزلق السياسة إلى التعويم في تحديد الإشكال الحقيقي دون الانزياح إلى البحث عن عدو هلامي خارج تراب الجمهورية...
الواقعية السياسية تحثُّ القادة على التدقيق في توصيف الخصم أو العدو... قد يكون من السهل التواصل مع البابوية بروما، لكن من الصعب اختزال الموضوع بالنسبة لديانة كتابية لا مكان للرهبانية في عقيدتها...
ننحاز إلى إدانة الإرهاب مهما كان مصدره ونتضامن مع الضحايا في جميع بقاع العالم لكن ننزاح إلى الفصل بين أفعال الأفراد العدوانية الإرهابية وبين سماحة دين العالمين وغالبية المؤمنين والمؤمنات بالتعارف والتعاون والتعايش والتبادل في بناء مشترك للأمور الدنيوية التي تضمن الحرية والكرامة والتضامن لمواجهة كل الظواهر التي تهدد السلم والقانون الدولي لحقوق الإنسان والميثاق العالمي لحقوق الإنسان الذي احتضنت باريس أشغال الجمعية العامة للأمم المتحدة بقصر شايو بباريز لاعتماده في 10 دجنبر 1948.