اسمحوا لي أن اتقاسم معكم نصا خاصا، كتبته على حسابي بالفايسبوك بمناسبة عيد الأم. نص مهدى لروح والدتي، التي فقدتها قبل أشهر من اليوم. نص أقدمه لصديقاتي وأصدقائي الدين لم يعرفوها في حياتها، في انتظار أن أتمكن من الكتابة عنها بما يليق بحياتها المليئة بالعطاء والنبل والصبر والدروس...
اليوم، بمناسبة عيد الأم سأكتب مختصرا عن أجمل وأحن وأعظم وأرق أم في العالم. أكتب عن الحاجة رحمة الشيخي تغمدها بواسع رحماته. والدتي التي اختارها الله بجواره قبل أشهر من اليوم. ما زال ألم الفراق يمنعني من الكتابة عنها بالتفصيل، لكن عيد الأم بدونها لا يمكن أن يمر دون أن أقدمها لمن لا يعرفها أو لم يعرفها.
لم تكن أما لي ولإخوتي فقط، بل كانت أما لجيل بل لأجيال من الشباب الذين عرفوها وعرفتهم. كان بيتها وقلبها هي ووالدنا رحمه الله مفتوحا للجميع، من شباب ومثقفين وفنانين وسياسيين ومسؤولين وعموم الناس.
أذكر دلك اليوم الذي دق فيه باب بيتنا شاب جاء من مدينة سوق الأربعاء إلى مدينة وزان لاجتياز امتحانات البكالوريا، ولم يكن له مكان يأويه مدة الامتحانات، دخل المدينة وسأل عمن يمكن أن يأويه وأين وكيف، فقال له من سألهم عليك ببيت عائلة حمضي، وكذلك كان. بل كان بالبيت غرفه في السطح مجهزة تبقى مفتوحة، بات بها أناس لم نعرفهم يوما ولا عرفنا أنهم باتوا بها مسبقا...
الحاجة كانت تربطها ببنتها الوحيدة وبأبنائها نحن وأحفادها علاقات خاصة مع كل واحد منا. تحيط كل واحد منا بحنانها وعطفها دون أن تفرض رأيها على أحد. لمدة تفوق خمسة وعشرين سنة كنت اتصل بها يوميا ولو لوقت قصير أطمئن عليها وأطمئنها عني. إذا سافرت تتصل لتتأكد من سلامة الوصول إلى بيتي بالعرائش، وكنت دائما أحرص على أن أصل مبكرا لبيتي حتى لا تبقى هي بوزان مشغولة البال من جهتي. لأني لا يمكن أن أكون مسافرا أو على الطريق وأخفي عنها ذلك حتى لا ينشغل بالها. الكذب ولو الكذب الأبيض خط أحمر.
يوم تعرضت للجلطة الدماغية وفقدت القدرة على النطق، كان ذلك أول معاناتي، كيف أكلمها هاتفيا مباشرة بدون وسيط؟
حتى معنا كانت تتأفف من أن تطلب منا ما قد تعتبره هي محرجا لنا. حين تريد أن تطلب منا تقديم مساعدة أو خدمة أو إيجاد فرصة عمل أو فرصة دراسة لأحد من الناس البسطاء الذين تعرفهم أو يتوسلون مساعدتها، كانت تقدم على ذلك بطريقة سلسة تجعلك أنت تفهم ما تريد دون أن تقول هي. ويا ما ساعدت الناس من العائلة أو من خارجها وهم الأكثرية في الكثير من المواقف.
قاومت إصابتها لمدة سنة ونصف قبل أن تسلم الروح إلى باريها، وكنت مع إخوتي بجانبها. هي إرادة الله لكن اليتم الحقيقي هو حين نفتقد الأم. كانت بيننا وتعوض عنا بحضورها ألم فراق الوالد قبلها بعدة سنوات. كان الوالد رحمه الله من أطيب خلق الله، نبع من العطف والحنان الحقيقي. شملنا بحنانه نحن أبناءه والعديد من الشباب الذين كان يساعدهم باستمرار، وما زالوا إلى اليوم يذكرونه ويذكرون ما فعل من أجلهم.
هده الرسالة نفسها حافظت عليها الحاجة رحمها الله إلى أن وافتها المنية.
على مدى ربع قرن، أقرأ كل صباح ما تيسر من القرآن في بالي وفي طريقي للعمل رحمة لوالدي ودعاء بالصحة لوالدتي ولي ولأسرتي الصغيرة. في كل صلاة كنت أدعو الله بشفائها من وعكتها. وجدت صعوبة للانتقال من الدعاء لها بالصحة والعافية إلى الدعاء لها بالرحمة والمغفرة. لا تفارق صورتها مخيلتي نهارا وليلا. أراها في كل ما هو جميل، في كل طبخ لذيذ، في كل عمل خير، في كل موقف نبيل.
مازلت غير قادر على تجميع أفكاري لأقدمها لمن لم يعرفها، ولكنني سأفعل يوما إن شاء الله. لكنها كانت امرأة استثنائية وعظيمة بكل المقاييس. كانت أما لشباب مناضل أيام كان النضال له ثمن وثمن غالٍ، تخاف على أبنائها بل مرعوبة من أجلهم دون أن تمنعهم من ممارسة قناعاتهم لأنها كانت مقتنعة بصفاء نيتنا وبصدقنا وبحبنا لبلدنا، وهكذا كانت تجيب دائما من يحاول لومها بسبب اختيارات أبنائها حتى وهي مرعوبة من أجلهم. كبرنا في ظلها وفي ظل والدنا ثابتين على فعل الخير والاستقامة وقول الحق وخدمة الصالح العام وخدمة بلدنا.
شكرا لك والدنا، شكرا لك والدتنا، رحمكما الله، نحن على العهد باقون كما ربيتمونا صغارا، في قلوبنا وأفئدتنا وفينا أنتم مستمرون.
عيد الأم مناسبة، والمناسبة... ليست شرطا: أنت معي كل يوم وكل لحظة يا أغلى أم.