الغد 24 خبر الغد تقرأه اليوم

الكاريكاتير المغربي بين الحظر والمرارة اللذيذة!

 
عبد الرحيم التوراني
 
برحيل رسام الكاريكاتير إبراهيم لمهادي قبل أسبوعين، أعيد فتح صفحة هامة من تاريخ الصحافة المغربية، إذ مثلت وفاته عن سن يناهز الثمانين حولا، لحظة لاسترجاع "سنوات الرقابة"، عندما تعرض لمهادي للاعتقال حول رسم له بصحيفة "المحرر" المعارضة.
 
في 1980، لعبت الصدفة دورها بتطابق خطاب للملك الحسن الثاني مع مضمون رسم لإبراهيم لمهادي، بل توافق معه في توقيت البث والنشر. ولولا الأقدار لواجه أقدم رواد المشهد الكاريكاتوري في المغرب مصيرا مجهولا. لكن الثمن كان هو اعتزاله الكاريكاتور 18 عاماً، ولم يعد رسام "المحرر" الممنوعة إلى ريشته الساخرة إلا بعد حلول العهد الجديد مع الملك محمد السادس.
 
انفتاح وتراجع
 
إثر توليه عرش المملكة في نهاية يوليو 1999، أنشأ الملك محمد السادس هيئة "الإنصاف والمصالحة"، بغاية طي صفحة ماضي الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان، التي عاشها المغرب ما بين 1956 و1999. وبالفعل شهدت السنتان الأوليتان، إلى حد ما، انفراجا سياسيا، ما بعث الآمال في النفوس. سُمح للمعارض الماركسي أبراهام السرفاتي بالعودة إلى وطنه، وكان أمضى 17 سنة في السجن قبل إبعاده خارج البلاد مع إسقاط الجنسية عنه. وبعد عقد من الأعوام، رُفعت الإقامة الجبرية عن الإسلامي عبد السلام ياسين مرشد "جماعة العدل والإحسان". وبالموازاة نشطت منظمات المجتمع المدني أكثر، واهتمت فئات أخرى، أغلبها من الشباب، بإصدار صحف ومطبوعات، سعت عبرها إلى استغلال بارقة الانفتاح.
 
بدا أن الإعلام في المغرب سيقوم بدوره المطلوب في التحول الديمقراطي بعد "سنوات الرصاص" المشؤومة. إذ تم إحياء فن الكاريكاتير، ساعد في ذلك ظهور جيل جديد من الرسامين الساخرين المتمكنين من مهارات جمالية، ولديهم نفَس أكثر جرأة. وانتعشت حرية التعبير مع قدوم شباب متحمس عبر عن نفسه لاحقا في "حركة 20 فبراير" 2011. وجازف مغنو الراب باختراق مواضيع كانت محظورة وحارقة.
 
لم تنقض سنتان وبضعة أشهر حتى انقلبت الأحوال، بعد أحداث الدارالبيضاء الإرهابية في ماي 2003. فتراجع الأمل المنشود، وتحركت آلية القمع والزجر، وبدأت الاعتقالات في صفوف المدافعين عن حقوق الإنسان، وبين المدونين والصحافيين ورسامي الكاريكاتير، وفناني موسيقى الراب، وأفراد "الألتراسات" المشجعين لأندية الكرة، والطلبة والتلاميذ.
 
حظر ملكي وتاريخ مهمل
 
في 1989، كشف الملك الحسن الثاني عن موقفه من الكاريكاتير، عندما استقبل مجموعة من ألمع الصحافيين الفرنسيين، يتقدمهم جان دانييل مؤسس مجلة "لونوفيل أوبسرفاتور"، ضمن برنامج "ساعة الحقيقة" على القناة الفرنسية (أنتين 2)، وجوابا على سؤال الصحافي ألان دوهاميل، قال الملك: "الكاريكاتير لدينا يكاد يكون محظورًا بالإجماع الوطني".
 
ورغم أن الكاريكاتير كان حاضرا بصحافة المغرب، ولا يستثني وجوه شخصيات السياسيين والوزراء، فإن التصريح الملكي زرع الخوف لدى أصحاب الصحف، وأدى بالرسامين إلى الانكماش. وكانت صحيفة Le Canard Enchaîné أيامها أغضبت الحسن الثاني وهو يطالع على صفحتها الأولى وجهه الكاريكاتوري، الذي رأته به أكبر صحيفة ساخرة في فرنسا.
 
في عهد الحماية الفرنسية، كانت الصحف الوطنية تتعمد كتابة عبارة "حذفته الرقابة" وسط مساحات بيضاء كان من المقرر أنها الحيز المخصص لمقالات منعها الرقيب. وبالأسلوب ذاته في الثمانينيات احتج الأديبان عبد الكريم غلاب وعبد الجبار السحيمي (مدير نشر ورئيس تحرير "العلم")، حين كان مكان رسم العربي الصبان يصدر فارغا بأعلى الصفحة الأخيرة من الجريدة.
 
ولا شكّ أن الخزانة الوطنية تفتقر لكتابات توثيقية علمية غير مبتسرة أو مختزلة، تؤرخ لفن الكاريكاتير في الصحافة بالمغرب. لذلك تنتشر بقع من العتمة ومن المغالطات والأخطاء والهنات، بخصوص هذا التعبير الفني، فأسماء عديدة لكاريكاتوريين تكاد لا تُذكر ولا يعرفها الجيل الحالي. وفي الحقيقة لم يحظ الكاريكاتير في الصحافة المغربية بمكانته اللائقة، حيث لم تهتم الصحف بتوظيف رسامين ضمن هيئات تحريرها، بل كان أغلب الرسامين هواة متطوعين، ينشرون من دون مقابل.
 
شيء من التاريخ
 
تاريخيا نمت الصحافة بالمغرب بخطوات بطيئة. فبعد تأسيس أولى الصحف والدوريات باللغات الفرنسية والإسبانية والإنجليزية في نهاية القرن الثامن عشر، ومستهل القرن التاسع عشر، تأخر ظهور الصحافة المغربية باللغة العربية، ولم تشرع في الانتعاش إلا بدءا من ثلاثينيات القرن العشرين على يد نخبة من الوطنيين من فاس وتطوان خاصة، كثفوا جهودهم في مقاومة المستعمر. رغم ذلك ظلت الصحافة الوطنية باللغة العربية تعاني من منافسة غير متكافئة مع الصحافة الفرنسية الصادرة بالدارالبيضاء، أساسا من مجموعة رجل الأعمال الفرنسي إيف ماس، الذي ظلت إصداراته الصحفية تصدر إلى حدود السبعينيات الماضية. لذلك كانت الأسماء الأولى لرسامي الكاريكاتير في المغرب تعود لفرنسيين. قبل أن تطل محاولات خجولة لبعض المغاربة لم يكتب لها الاستمرار.
 
مع بداية الستينيات، ظهرت صحف أسبوعية اعتمدت الرسم الكاريكاتوري والمواضيع القصيرة، منها الصحف التي أسسها مصطفى العلوي المدغري، مثل "أخبار الدنيا"، و"دنيا الأخبار"، و"الكواليس". وخاض الصحافي والكاتب السعيد الصديقي (شقيق الفنان المسرحي الطيب الصديقي) تجربة الصحافة الهزلية بإصداره لأسبوعية ساخرة باسم "جحا". كان يساعده في طباعتها الممثل أحمد الصعري. وعرف السعيد الصديقي في تلك الفترة من الستينيات بكتابته لزاوية ساخرة باللغة الدارجة على أعمدة أسبوعية "الطليعة"، التي كان يصدرها الاتحاد المغربي للشغل.
 
شيئا فشيئا انفتحت يومية "العلم" التابعة لحزب الاستقلال على الرسم الساخر، واحتضنت أعمالا لفنانين، مثل التشكيلي العربي بلقاضي، وأبو سيف (توقيع إبراهيم لمهادي في بداياته).
 
أما يومية الحزب اليساري الاتحاد الوطني للقوات الشعبية، فكانت تنشر ركنا ساخرا بالعامية بإمضاء "ولد جامع الفنا"، وهو اسم مستعار للصحافي عبد الله رشد. بالموازاة أخذت تظهر على أعمدة "التحرير" رسوم كاريكاتورية موقعة بحرف (ب)، وتعود لفنان سوري فلسطيني، كان في نفس الآن مسؤولا عن الصفحة الفنية، هو الفنان التشكيلي المعروف الراحل برهان كركوتلي، وقد سافر إلى المغرب بناء على دعوة أصدقاء له من الطلبة المغاربة الذين كانوا يدرسون بسوريا، ومن بينهم محمد عابد الجابري سكرتير صحيفة "التحرير"، التي كان يديرها الفقيه محمد البصري ويرأس تحريرها عبد الرحمان اليوسفي. وللراحل برهان كركوتلي دراسة رائدة حول الفن التشكيلي بالمغرب خلال تلك الفترة. وقد انتقل إلى ألمانيا سنة 1970 وعاش بها حتى وفاته سنة 2003.
 
في يوميتي "البيان" بالعربية والفرنسية، لسان حزب التقدم والاشتراكية، كان لافتا الجهد الذي قام به على مدى أعوام صحافي وناقد ورسام كاريكاتير لامع هو بلعيد بويميد.
 
وعندما تأسس التجمع الوطني للأحرار، أصدر الحزب يومية "الميثاق الوطني"، وانضم إلى هيئة تحريرها رسام تونسي يسمى الوسلاتي.
 
وبعد استئناف إصدار "المحرر"، انتقل لمهادي في 1975 من النشر في "العلم" إلى اليومية الاتحادية، وصار يوقع باسمه الصريح.
 
في نهاية السبعينيات، أقام الرسام المصري المرموق بهجت عثمان فترة بالمغرب، فكانت مناسبة نشر بها "بهجاتوس" عدة رسوم كاريكاتورية في "المحرر" مستوحاة من الأحداث الاجتماعية المغربية حينها.
 
أما المصري الآخر جورج بهجوري، فظل لسنوات ضيفا دائما على "موسم أصيلة الثقافي"، واستقبلته السيدة ليلى التازي صاحبة رواق "نظر للفن الحديث" بالدار البيضاء في معرض فني مزج فيه بأسلوبه المتميز ما بين التعبير الكاريكاتوري والتشكيل، وعرض لوحات لوجوه عازفين من أجواق موسيقى الأندلسية، أو "موسيقى الآلة" وفق تسمية المغاربة. كما عمل رسامو كاريكاتير فرنسيين وبلجيكيين وتونسيين بمجلات مغربية باللغة الفرنسية.
 
وكانت نشأة الفنان الجزائري العالمي رشيد قاسي في مدينة الجديدة (جنوب الدار البيضاء)، هناك تفتقت موهبته وبدأ خطواته في الرسم، قبل انتقاله إلى فرنسا واشتغاله بكبريات صحفها ومجلاتها.
 
في التسعينيات الماضية، أقام بالعاصمة المغربية رسام جزائري آخر، هو علي لمرابطين، المشهور بتوقيع "سْليم"، كرسام بمجلة "ضفاف"، التي كانت تصدر عن مؤسسة الحسن الثاني للمغاربة المقيمين بالخارج، وبعد حوالي سنتين، وبعدما رفض تجديد إقامته هاجر إلى فرنسا ليعمل بصحيفة "لومانيتي" الشيوعية، وظل لسنوات متعاونا من باريس مع أسبوعية "لافي إيكونوميك" التي تصدر بالدار البيضاء، وكانت رسومه تتصدر صفحتها الأولى.
 
في نهاية الستينيات، برز على صفحات يومية "لوبنيون" اللسان الفرنسي لحزب الاستقلال اسم الرسام محمد الفيلالي، في نفس الوقت الذي احتضنت فيه "العلم" أعمال الرسام العربي الصبان، وقد عملا معا على إصدار أسبوعية هزلية بعنوان "أخبار السوق"، وانضم إليهما الرسام حميد البوهالي، الذي كان ينشر بجرائد مختلفة. لكن التجربة تعرضت لجملة من المصاعب. وبعد أن استقطب البوهالي مجموعة من الساخرين، أصدر الأسبوعية الهزلية "التقشاب"، التي ضمت الرسامين أحمد موتاج وبوشعيب خيري ومحمد عليوات (حمودة) وشكري بهلوي وعبد الكبير العوام وعبد القادر حدوش وعبد اللطيف الكثيري ومحمد الأدغم، بمساهمة الشاعر محمد عرش، الذي يجهل كثيرون موهبته العالية في الكتابة الساخرة.
 
كان لافتا أن هذا الصنف من الإصدارات حطم أرقاما قياسية من حيث الانتشار والمبيعات، فحتى المرتجعات كانت تتم إعادة بيعها في محطات المسافرين، لاسيما وأنها صحافة تعتمد النكتة المرسومة واللهجة العامية الميسرة. وهذا الانتشار حفز فريق "التقشاب" على رفع وتيرة النقد الحاد، ليجد مديرها حميد البوهالي نفسه معتقلا في كوميسارية المعاريف ومهددا بالمتابعة القضائية، إلا أنه بعد 22 يوما من الاعتقال الاحتياطي أفرج عنه، لتنتهي مغامرة "التقشاب" بقرار المصادرة والمنع.
 
بعدها ظهرت عناوين أخرى اختفت سريعا ولم تحقق النجاح. ورغم انتشار الصفحات الساخرة بالصحف المغربية اليوم، فإن أغلب محتوياتها مليء بالفقاعات وبالتهكم والتهريج.
 
تجارب و"سْكَفْكَفْ"!
 
في مجلة "لوميساج دو لاناسيون" التي أصدرها حزب الاتحاد الدستوري، وكان يديرها عبد الله الستوكي ورأست تحريرها نادية برادلي، ظهر رسام كاريكاتير مبدع هو محمد بكري (الكاف جيم مصرية)، مع الرسام محمد الزناكي.
 
في 1983، صدرت أسبوعية "الهدهد" الهزلية باسم أحمد السنوسي، كوميدي كان مهرجا في جلسات الملك الحسن الثاني وصبحيات لأطفال القصر يتقدمهم ولي العهد (الملك الحالي). وبعدما أغدق عليه الحسن الثاني رخص نقل وعقارات، تحول إلى "معارض". كان رسام "الهدهد" هو محمد الأدغم، أما محررها الوحيد فكان الصحافي حسن عمر العلوي المشهور بين الزملاء باسم "فريموس". بعد أسابيع من صدور "الهدهد" تعرضت للرقابة بسبب خبر يخص تهريب العملة الصعبة منسوب لوزير المالية عبد الكامل الرغاي، أما مصدر الخبر فكان أسبوعية "البلاغ المغربي"، التي تم الإفراج عن صاحبها محمد بنيحيى، بعد التحقيق معه لساعات، ليستأنف إصدار صحيفته بشكل طبيعي، فيما توقفت تجربة "الهدهد" تلقائيا عند عددها رقم 13.
 
في 2007، أصدر عبد الرحيم التوراني أسبوعية هزلية باسم "الانتهازي"، وكانت هيئة التحرير مكونة من الرسامين إبراهيم لمهادي وسعد جلال وعبد اللطيف الصيباري، بمساهمة من أحمد موتاج، ومن الكاتب الساخر والرسام إبراهيم مبشور، وهشام المنصوري الذي كان يراسل من الصويرة أو أغادير. وتوقفت الجريدة بسبب التضييق البوليسي، وبعدما أبلغ صاحبها من مدير شركة التوزيع "سريس" محمد عبد الرحمان برادة بأنه "على حافة ما لا تحمد عقباه"، حسب ما تناهى إلى سمعه، خاصة وأن "الانتهازي" بنهجها الدونكيشوطي المحارب للطواحين، لم توفر أي جهة من اليمين واليسار أو كبار المسؤولين.
 
توالت التجارب في الصحافة الهزلية، منها تجربة العربي الصبان في "المقلاع"، وتجربة الصحافي علي المرابط في "دومان"، وقد صدر في حقه حكم قراقوشي قضى بمنعه من الكتابة لمدة عشر سنوات. والرسام خالد كدار الذي توبع مع مدير صحيفة "أخبار اليوم" توفيق بوعشرين بسبب رسم كاريكاتوري، وحكم عليهما بأربع سنوات، لحسن الحظ غير نافذة.
 
في الضفة الأخرى، حيث السجون والمعتقلات السرية، سيعمد فنانون من السجناء السياسيين، للتعبير بالريشة وبالكاريكاتير، منهم عبد اللطيف الدرقاوي وعبد القادر الشاوي ومحمد النضراني وعبد العزيز مريد الذي برع في رسم "الباند ديسيني" (القصص المصورة) المتعثر تطورها بالمغرب.
 
أسماء رسامي الكاريكاتير يصعب حصرهم في هذا المقال. لكن نكتفي هنا بالإشارة إلى تجربة تكاد تكون شبه مغمورة لمجموعة من الشباب من الجنسين، أشرفوا على إصدار مجلة ورقية باسم "السْكَفْكَفْ" (وجبة سريعة تعد من أحشاء وبقايا اللحم)، تعمدوا أن ينشروها من دون ترخيص قانوني، ووضعوا لها شعار: "خانز وبنين"، وهو اسم السندويتش الذي يتناوله مشجعو كرة القدم أمام ملاعب الدارالبيضاء، ويتكون من شطيرة خبز بها جزر وبطاطس مسلوقين. والكلمة تعني بالفصحى (نتن ولذيذ). وهم يتواجدون في شبكة الإنترنيت التي صارت تزخر بحسابات ومدونات وفيديوهات ساخرة مغربية. حيث أتاحت وسائل التواصل الرقمي تفاعل الراغبين في طرح الآراء والمطالب بكل حرية، بعيدا عن قيود الرقابة والتأطير المحسوب للهيئات الحزبية والنقابية وغيرها.