الآن، وقد كُلّف رئيس الحكومة ببدء المشاورات لتشكيل حكومته، تتجه الأنظار، بدون شك، إلى التحالفات المحتملة لتشكيل الأغلبية. ومن خلال ما نقرأه من توقعات، وما نسمعه من تصريحات لبعض قادة الأحزاب التي تحتل مواقع لا بأس بها في الترتيب الانتخابي، يبدو أن الجميع يفكر في احتمال واحد هو الانتماء إلى تحالف الأغلبية. هذا أمر مشروع وطبيعي.
غير أنني، أنا الذي لا رهان لدي بصفة شخصية في التحالفات كيف ما كانت، أجدني أفكر في الوجه الآخر للعملة: المعارضة. أي معارضة ستبقى بين أيدينا بعد أن تتشكل الأغلبية؟ هل سنحظى بمعارضة قوية قادرة على الحفاظ على التوازن المطلوب، في وجه تحالف المال والأعمال، الذي سيشكل الحكومة، ويقبض على زمام تدبير وتخطيط الشأن العام في السنوات المقبلة؟ هل سنحظى بمعارضة سياسية قادرة على إنتاج الخطاب البديل الذي يواجه خطاب الأغلبية ويكشف حدوده، ويدفعه إلى التخفيف من الغلواء كلما دعت الضرورة إلى ذلك؟ هل سنحظى بنقاش سياسي رفيع يضع بوضوح الفرق بين الأولويات، ويسهم في فرز الرهانات التي تستقطب القوى الاجتماعية في تباين مصالحها وأولوياتها والتحكيم بين مطالبها وانتظاراتها، ويعيد للنقاش البرلماني وهجه الذي افتقده منذ أكثر من عقدين؟ هل سنحظى بمعارضة تنشئ لجان التحقيق، وتطرح قضايا الفساد وشبهاته كلما ظهر شيء منها وتقيم الدنيا ولا تقعدها حتى تأخذ العدالة مجراها؟ أم أننا، على العكس من كل هذا، سنمنى بمعارضة باهتة ضعيفة الصوت والحجة، على الشاكلة التي كانت عليها معارضة الولايتين السابقتين، مع استثناءات محدودة الأثر.
مكون المعارضة مكون جدي في الديمقراطيات الحية. ولذلك لا نرى كتلا نيابية تستنكف عن هذا الدور وتسعى للتشبث بالأغلبية بالرغم من الأثمنة الباهظة التي تؤديها من أجل الوصول إلى هذه الغاية. على الأحزاب التي تحترم نفسها، إذا أرادت أن تعيد للعمل البرلماني اعتباره، وأن تجعله في محور الفضاء السياسي ببلادنا، أن تفكر بجد في أهمية واستراتيجية موقع المعارضة، وألاّ تستبعده كخيار مطروح بكل سلاسة خلال مشاورات تشكيل الحكومة.
أظن أنه من الناحية العددية، لن يواجه رئيس الحكومة المكلف مشكلة في تكوين أغلبيته بسهولة ووضوح سياسي. وأتمنى منه أن يكون حاسما في بناء برنامجه، بعيدا عن التسويات والهجنة التي كانت تفرضها الخارطة السياسية في الولايات الانتدابية السابقة، وأن يعمل على تقليص الحقائب إلى أقل عدد ممكن، من خلال تبني هندسة قطاعية تتكامل مع مخرجات مشروع النموذج التنموي الجديد، حتى لا نضطر مرة أخرى إلى البدء من الصفر في كل شيء.
من المفروض أن يكون العمل الحكومي وعمل المعارضة خلال الانتداب القادم ورشا مفتوحا لبلورة ملامح النموذج التنموي المنشود، من خلال نقاش برلماني نفترض أن يكون مثمرا، بين اقتراحات الحكومة وتفنيدات المعارضة وتصحيحاتها حجة بحجة.
من المفروض أن يسهم العمل النيابي، خلال هذا الانتداب، في فرز التقاطبات السياسية وتوضيحها، وفي الكشف عن أولويات وطموحات جديدة ونقاط خلاف عويصة يتطلب حلها تفكيرا بناء من كلا الجانبين.
آمل أن تتبين القوى السياسية، التي ظلت تعتبر نفسها جادة ومسؤولة، طيلة المعركة الانتخابية، بوضوح، الموقع الذي أعطته لها نتائج الانتخابات، وتتصرف على ذلك الأساس أثناء مفاوضات تشكيل الحكومة. فالمغرب اليوم، وأكثر من أي وقت مضى، يحتاج إلى معارضة تليق بهذا النعت، وتستطيع أن تعصر زيت الحكومة في البرلمان وفي ساحات النضال...