الغد 24 خبر الغد تقرأه اليوم
غلاف الرواية

"الشّجرة الهُلامية".. رواية جديدة للكاتب والناشط السياسي والمدني والحقوقي عبد السلام بوطيب

 
صدرت للكاتب والناشط السياسي والمدني والحقوقي عبد السلام بوطيب رواية جديدة عن دار التوحيدي، بعنوان "الشجرة الهلامية".
الرواية عبارة عن "حوارات مع شجرة"، حين كان في باريس، ليجد نفسه محاصرا بحجر صحي دام أربعة أشهر متواصلة، وكانت الشجرة جارته في ذلك الحجر القسري، ففتح معها حوارا، تناول عدة قضايا، اجتماعية وسياسية وفكرية وفلسفية وإبداعية... أو هي بالأحرى نوع من المناجاة، تتمظهر بالهدوء والدعة، فيما هي تتلظى بشظايا اللغة على أهبة الانفجار في تضاريس الجسد والروح، كما تعكس ذلك الكلمة، التي نجدها على الغلاف الأخير، والتي تداري اللغة لتقترب من هذا الكائن، الذي لا يكف، بقصد أو بغيره، عن صناعة الأمل:
 
الكاتب عبد السلام بوطيب
 
أنا ابن جراحي وأحلامي!
أنا جسرٌ بين هذه وتلك: وُلدت في أرضٍ يعبد بعض أهلها الشّجرة الهُلاميّة التي سبق أن حدّثتك عنها، هاجسهم الأكبر هو أن يأكلوا من ثمرتها الخرافية، وأن يغنّوا تحت ظلّها أغاني تمجّدها، حتّى إن ضجرَتْ من أصواتهم المبحوحة دعت عليهم ساخطةً بالهجرة..
في العاشرة من عمري عرفت أرض ميلاد والديّ، وهي أرضٌ محاذيةٌ لمدينةٍ مجاورةٍ محصّنةٍ بسياجٍ حديديٍّ، قيل لي: إنّها مدينة أخذها منّا الإسبان في سالف الأزمان، بعضهم قال لي ذلك بحسرةٍ، وأغلبهم قالوا ذلك وهم يبتسمون ابتسامةً صفراء.
وحين زرت قبر جدّي المدفون على مقربةٍ منها. كانت المدينة تبدو لي جميلةً وممتدّةً إلى غاية البحر. وعندما أردت دخولها لأوّل مرّة مُنعتُ من ذلك، فألححت على الشّرطي الإسباني الذي أصرّ على الرّفض. وعندما هممت بالانصراف سألني: لماذا تريد الدّخول إلى مدينتنا؟ فأجبته: أبواي وُلدا هنا، وجدّي مدفونٌ في تلك المقبرة (وأشرت بيدي نحوها وكانت على بعد خطواتٍ منه)، فقال لي: اُدخل، ستصل حافلة "معنان كرانتشا" بعد دقائق، هل معك نقودٌ إسبانيةٌ لتركبها؟ أجبته خائفاً، وأنا أتحسّس المائة بسّيطة الإسبانية التي في جيب سروالي الخلفي: لا، ليس معي نقود إسبانية. كذبت لأنّني خفتُ أن يأخذ منّي كلّ ما معي من بسّيطات مثلما كانت تفعل الجمارك المغربية آنذاك. ولكنّه، وخلافاً لما اعتقدت، تكرّم عليّ ببضع بسّيطاتٍ قائلاً بأمازيغية أهل الرّيف: خذ! ومنذ ذلك الوقت وأنا أكره مدن الحائط، لأنّها تفصل بين البشر بالأسلاك والحيطان العالية..
وغير بعيدٍ عن تلك الأيّام، بدأت تسكنني الهموم -في نفس الوقت تقريباً الذي تعرّفتُ فيه على بلدة عبَدَة الشّجرة الهُلاميّة- وصرت أحملها في دفاتري المدرسية وفي مقلمتي الجميلة التي كلّما فتحتها تذكّرتُ والدي لأنّه هو الذي أهداها لي في أحد أعياد ميلادي، والدي الذي كان يشغل بالي كثيراً بسبب اشتغاله سائقاً لحافلةٍ كان يتعارك بها يومياً مع المنعرجات الخطيرة التي يمرّ بها. ولهذا كنت في العشية، وبعد خروجي من المدرسة مباشرةً، أركض نحو ساحة "افْلوريدو" حيث محطّة الحافلات لأنتظر وصوله من الوجهة التي قصدها فجراً. بينما يذهب أقراني للّعب بكُرَة القدم، ولا أعود إليهم إلاّ عندما تبدو لي الحافلة الحمراء المهترئة التي يسوقها والدي قد وصلت، فأتيقّن حينئذٍ أنّه بخير وأنّ الطرقات الوعرة لم تَخُن مهارته في السّياقة. لكنّني كنت أجد رفاقي قد انقسموا إلى فريقين ولا مكان لي بينهم. وحتّى حينما كنت أعرض عليهم لعب دور الحكم، كانوا يرفضون عرضي باستعلاءٍ وتهكّمٍ، ذلك أنّهم كانوا في معظمهم من أبناء القبائل المحيطة بالشّجرة الهُلاميّة، وهُم لا يقبلون بالحكّام ولا يثقون فيهم، إذ كانت لهم قواعدهم الخاصّة التي غالباً ما يفرضونها بسلاطة اللسان أو بالقوّة إن اقتضى الحال.
وهكذا كنت أعود إلى المنزل وأنا أجرّ خيبتي وقلّة حيلتي، وكبرتُ مع الأيّام على هذا المنوال إلى أن شاءت الدّولة أن تُلقي عليّ القبض إبّان انتفاضة الخبز سنة 1984 وتُضيفني إلى ضحايا همجيتها، مُتّهمةً إياي بأنّني من "المشاغبين الكبار" الذين أشعلوا نار الفتنة، فزجّت بي في غياهب السّجن لسنواتٍ، أنا الذي كنت شابّاً هادئاً، غارقاً في أحزاني، وحالماً بالانتصار على فقري وضيق حالي.
ورغم قسوة الحياة وقتذاك لم أفقد بسمتي وتفاؤلي، ومكثتُ مسالماً ودوداً حتّى في أحلك الظّروف، إلى أن شاءت غباوة الزّمن البليد أن أخطئ طريقي واُصْبِح "يسارياً عروبياً" شبه متطرّفٍ، فتحوّلتُ رغماً عنّي إلى حطبٍ نبيلٍ في صراعٍ لم تنكشف لي تفاصيله إلاّ حينما ضيّع كلّ واحدٍ من طرفَيْه موعده مع التّاريخ. ولم يبق لهما بعدئذٍ من بديلٍ إلاّ الاستعانة بالعدالة الانتقالية والتّمسّك بالإنصاف والمصالحة كخيارٍ استراتيجيٍّ لا مَحيد عنه، رغبةً منهما في تصحيح المسار واختصار المسافة نحو ذلك المستقبل المأمول الذي أخلفا معه الوعد. وهو ما فتح لي آفاقاً واسعةً أعادت لي البسمة من جديدٍ.. وكيف لا، ومهنتي هي زراعة الأمل!