الغد 24 خبر الغد تقرأه اليوم

نحو تشكيل جبهة ديمقراطية للإنقاذ من أجل إيقاف النزيف الذي يعيشه المجتمع وإخراجه من النفق المظلم

 
عبد العلي اكميرة
 
يعيش الشارع المغربي، ومنذ سنوات، أزمة اجتماعية خانقة تتجلى تمظهراتها في مجموعة من الحركات الاحتجاجية المطالبة بالديمقراطية والتنمية، وهو المؤشر الذي يعكس حيوية ودينامية المجتمع المغربي. وفي حقيقة الأمر يمكن اعتبار هذه الاحتجاجات تراكما وثمرة لحركية نضالية ساهم فيها كل الفاعلين باختلاف انتماءاتهم تكثفت لتعطينا لحظة متميزة في التاريخ السياسي المغربي هي حركة 20 فبراير، لشباب إناثا وذكورا، رافضين للسياسة بصيغتها السائدة، وكذا للمؤسسات التي لا تجيب على انتظارات المغاربة ولا تعكس طموحاتهم، لكونها فاقدة للتمثيلية الحقيقية، الشيء الذي يستدعي من الإطارات الفاعلة والمناضلة طرح الأسئلة عن ماهية هذه الحركات، وكذا عن الأسباب الكامنة وراء عزوف هؤلاء الشباب للالتحاق بالهياكل التنظيمية للأحزاب، علما أن هذه الحركات يلتقي فيها الموضوعي والذاتي، مؤطرة ضمن رؤية عالمية (العولمة) بمختلف تأثيراتها على مستوى الحياة اليومية.
 
لكن ما أثار انتباهي وحرك بداخلي فضول التدقيق في بعض القضايا الاجتماعية، التي تعبر عن سلوك المجتمع، هو تلك الأحداث المتفرقة التي تحدث بين الفينة والأخرى، والتي تكون متفرقة في الزمان والمكان، تأخذ أشكالا مختلفة، وحول قضايا متعددة، لكن يجمعها قاسم مشترك، هو الرفض المعلن أو المستتر، لقرارات يتم التعبير عنها بكونها مجحفة وبيروقراطية وغير ديمقراطية وفي بعض الأحيان إقصائية، كتلك الأحداث التي وقعت في ملاعب كرة القدم، وفي تعامل قاطني دور الصفيح مع عملية إعادة إسكانهم، وفي الاحتفال بالمناسبات الدينية (عيد الأضحى، عاشوراء)، ورفض الحجر الصحي... هذه الأحداث التي تقع في مواجهة مع قوات الأمن غالبا ما يطغى عليها طابع العنف، على اعتبار أن الجهاز الأمني آلة توظف للقمع، وهو المسؤول بطريقة أو بأخرى عن الواقع بكل مآسيه، وهو تعبير عن رفض الشكل الذي يتم التعامل به مع فئات عريضة من المجتمع والذي يتسم بالحكرة، وبالتالي هو رفض للطريقة التي تدبر بها الدولة الشأن العام.
 
والذي يهمني في هذا الإطار هو ضرورة الإشارة إلى أن الدولة بمفهومها العام قد فقدت "هيبتها"، ولم تعد حاضرة في واقع فئات عريضة من الشعب المغربي، بحيث إن جزءا كبيرا منه لم يعد مقتنعا بأنه ينتمي لدولة أو تربطه بها روابط المواطنة والانتماء، انطلاقا وتأسيسا على منطلقات ومقاييس الدول الحديثة، مفهوم الدولة الاجتماعية، دولة الحق والقانون، دولة المواطنة... إلخ. بالفعل، إنه تعبير حقيقي وواقعي لتيه جيل بأكمله، جيل رافض لواقع الحكرة بكل تجلياتها. كل هذه القضايا الاجتماعية تسائلنا يوميا، خصوصا، ونحن نعيش كل مظاهر الحرمان والخصاص من الأشياء الجميلة، أقلها وأبسطها علاقاتنا الإنسانية بحميميتها، إنه الإحساس بالحرمان من العيش الكريم وحياة تسودها الطمأنينة والحرية، خلافا للقيود المفروضة علينا جراء إعمال تدابير الحجر الصحي وطريقة تدبير الدولة لمواجهة وباء كورونا المستجد كوفيد-19.
 
الدولة بمفهومها العام فقدت "هيبتها"، ولم تعد حاضرة في واقع فئات عريضة من الشعب المغربي، بحيث إن جزءا كبيرا منه لم يعد مقتنعا بأنه ينتمي لدولة أو تربطه بها روابط المواطنة والانتماء، إنه تعبير حقيقي وواقعي لتيه جيل بأكمله
 
إن أقل ما يمكن أن يقال عن طريقة التدبير هاته إنها ارتجالية وتعكس محدودية رؤية الدولة والمؤسسات على حد سواء، وانعدام الانسجام بين مكونات حكومة مبلقنة ومنقسمة على بعضها لا يجمعها إلا الخنوع، تلتقي حول الريع كممارسة يومية في تدبير الشأن العام وتوزيع المناصب العليا على الزبائن، مما يطرح سؤال مصير "أيتام هذا الوطن" الرافضين لثقافة الولاء.
 
بغض النظر عما تم تناوله سلفا، فإن مشروعية السؤال السياسي تحضر بقوة وأن التغيير ما زال معلقا، ولعل الحظ المتعثر للشعب المغربي هو قدره السياسي ومآسيه اليومية التي أوصلته في لحظات معينة إلى فقدان الكرامة، مما يجعلنا نتساءل هل أصيب المجتمع بالعقم؟ ولماذا لم تعد أرضنا قادرة على إنجاب نساء ورجال يؤمنون بالتغيير ويضحون من أجله؟ كيف حصل، وبعد مرور أزيد من 50 سنة على خروج الاستعمار المباشر في إطار صفقة أطلق على تسميتها "إيكس ليبان"، أن تتحول القيم التي ضحت من أجلها العديد من الأجيال، لتأخذ مكانها قيم نقيضة وصلت إلى درجة هدم كل مقومات المجتمع والدولة على حد سواء، وأصبحت فئات قليلة تستأسد وتنغص علينا حياتنا اليومية، هاته الفئات التي تحولت مع مرور الزمن إلى ذئاب مفترسة؟
 
إن فهم هذا الواقع المستعصي يتطلب منا قراءة متأنية لتاريخنا وفهمه بالطريقة الصحيحة، تاريخ حركاتنا السياسية. وبالتأكيد، فإن ما عشناه من مآسي وجروح خلال سنوات الرصاص ما زالت انعكاساتها مستمرة وتلازمنا حتى اليوم، ليس فقط ما يتعلق منها بمجال القبضة الحديدية للنظام، والاعتقالات والتشريد، والاستشهاد أو التصفية الجسدية، ولكن كل ما صاحب ذلك من سياسات وإجراءات وفي كل الميادين، وعلى الخصوص، في مجال التعليم الذي عمل النظام على إفراغه من محتواه الفكري والمعرفي والنقدي، عاملا بذلك على ترويض السياسيين والمثقفين، وتغليب الفكر الغيبي والخرافي بجعله فكرا مهيمنا على المجتمع، بحيث عمل النظام على استيراد أساتذة وهابيين من مجموعة من الدول العربية لتكريس الجهل والتخلف، وبهذا الإجراء نجح النظام في هدم ركن أساسي من مقومات شعب ودولة. وما نعيشه اليوم من تدن وانحطاط وتزييف في مستوى الوعي هو نتاج لهذه السياسة.
 
نحن اليوم نحتاج، أكثر من أي وقت مضى، لأن نكون مغاربة فقط، ولن يتأتى لنا ذلك إلا بالرجوع إلى القيم التي راكمناها، تلك القيم التي تؤمن بالإنسان وبحقه في الحرية الفردية، وبالانفتاح على الآخر، حريصة على التعايش والاندماج، واحترام المسافة بين العقيدة والمعاملة، على أساس أن لا تكون عقيدتنا هي السبب في اغترابنا داخل وطننا.
 
كيف حصل أن تتحول القيم التي ضحت من أجلها العديد من الأجيال، لتأخذ مكانها قيم نقيضة تهدم كل مقومات المجتمع والدولة، وأصبحت فئات قليلة تستأسد وتنغص علينا حياتنا اليومية، لتتحول مع مر الزمن إلى ذئاب مفترسة؟
 
بالتأكيد، نحن متأثرون اليوم بعامل العولمة ومحكومون بما يقع في العالم من تحولات تؤثر فينا، وتلامس كل البنيات الفكرية والمعرفية وحتى الاقتصادية. لكن مع الأسف، نحن كمجتمع نبتعد بمسافة سنوات ضوئية عن المجتمعات التي ناضلت من أجل التحرر من الاستعمار، وأحدثت ثورة فكرية، أساسها اعتماد المنهج العلمي في التدبير والتسيير، مكنتها من الابتعاد عن "المسلمات"، وحققت بذلك التطور والتقدم المنشودين. والحقيقة أننا نتقاسم جشع الرأسمال والاستعباد ولكن بدرجات متفاوتة.
 
إن مجتمعنا اليوم يعيش رجة ثانية وبشكل مخيف وغريب، بفعل الاستقالة الجماعية التي تم الاعلان عنها بوعي أو بعدم وعي، وما يؤكد هذا الطرح، هو استقالة الدولة من جهة في لعب دورها الاجتماعي الضامن للمواطنة، كشرط أساسي تمليه ضرورة الانتماء لهذه الدولة ولهذا الوطن، ومن جهة أخرى، استقالة جل الفاعلين السياسيين والمثقفين والمجتمع المدني. وبخصوص هذه النقطة بالذات، لا أريد الوقوف على بعض المواقف والممارسات لبعض الفاعلين الذين يحاولون جاهدين التصدي لهذا الواقع المتعفن، انطلاقا من إيماني بكونها ممارسات هامشية ولا تأثير لها، وسوف لن يكون لها تأثير ما دامت أنها حالات معزولة غير مرتبطة بحركية الجماهير وكل القوى الحية في البلاد.
 
وبالفعل، إنها ممارسات ذات تأثير ضعيف في المشهد السياسي وفي عملية التغيير، أمام نظام مهيمن وأمام المد الأصولي المحافظ الذي يخترق المجتمع، على اعتبار أنها ممارسات لم تقطع مع التموقعات القديمة المرتبطة بالماضي السياسي، وتقف على خط التجذر أو الانبطاح، كتقييم لذواتنا وللآخر، مما يفرض علينا جميعا الاغتسال والتطهر من نهر التواضع، واستعمال النقد والنقد الذاتي، واعتبار فضاء الممارسة السياسة في أهدافها النبيلة مفتوحاً للجميع ويحتاجه الجميع.
 
نحن اليوم نحتاج، لأن نكون مغاربة فقط، ونرجع إلى القيم التي تؤمن بالإنسان وبحقه في الحرية الفردية، والانفتاح والتعايش، واحترام المسافة بين العقيدة والمعاملة، دون أن تكون عقيدتنا هي السبب في اغترابنا داخل وطننا
 
إن البحث عن الاختلاف وعملية الوقوف على أسبابه ومسبباته له ما يبرره، لكن التلاقي له مبررات عديدة. لذا، فالمطلوب هو البحث عن جسور التلاقي الهادف إلى تقارب وجهات النظر وانصهار الرؤى في ورش جماعي مشترك ومندمج من أجل بناء وطن الغد، الوطن المحتضن للجميع، مع ضمان الحفاظ على خصوصية كل مكون على رأيه حول السياسة في منظورها الشامل، وكذا بتميزه واختلافه إن كان ضروريا.
 
إن مهمة اليساريين وكل الديمقراطيين، وكذا كل الحداثيين، ليست سهلة وهينة، لكنها ممكنة. مدخلها الأساسي هو ضرورة إعمال المراجعات الفكرية بهدف البحث عن المشترك، في أفق تشكيل الجبهة الديمقراطية للإنقاذ شريطة أن تكون الاختيارات مؤسسة على أرضية الفعل والممكن، وكذا على برنامج يضمن الحد الأدنى الذي يمكن للجميع الاتفاق عليه مع توزيع الأدوار من أجل إيقاف هذا النزيف الذي يعيشه المجتمع ومحاولة إخراجه من النفق المظلم.
 
وعلى الرغم من مرارة هذه الحقيقة إلا أن الواجب يحتم الإقرار بها، حقيقة عجز الأحزاب عن القيام بالأدوار المنوطة بها، إن تحول القيم داخل المجتمع بشكل عام قد انتقل إلى الإطارات السياسية، وأصبح المجتمع بكل تناقضاته هو المؤطر للفاعل السياسي، وبالتالي أثرت القيم السائدة في المناضلات والمناضلين المنتمين للأحزاب السياسية، حيث أجهزت ثقافة الريع على جل الفاعلين السياسيين بل وصلت إلى درجة الفساد. وعلى هذا الأساس، فإن المعركة اليوم يجب أن ترتكز على محاربة ثقافة الريع واستئصال هذا الورم السرطاني من جسم الإطارات المناضلة حتى لا ينخر جسم المجتمع برمته. لذا فعلى الجميع أن يعلن حربا ضروسا على الفساد والمفسدين أينما وجدوا، حتى يتسنى لنا التأسيس لمفهوم المواطنة الحقة في كل امتداداتها، وذلك بتوفير كل الشروط الضامنة لتحقيقها.
 
المواطنة الحقة مسؤولية مشتركة بين الدولة والفاعلين السياسيين
 
مسؤولية الدولة:
 
إن استمرار النظام في محاصرة الأصوات المعارضة، وفي ظل الحرب التي يتم شنها بالوكالة والتي تصل في بعض اللحظات إلى درجة الاجتثاث لا تخدم مصلحته، وبالتالي فإن تقزيمه لدور الأحزاب والاطارات الفاعلة يشل دور الوساطة ويؤدي به إلى التواجد في الواجهة ومواجهة المجتمع بمختلف حركاته الاحتجاجية، في ظل تنامي الشعور عند مجموعة كبيرة من الشعب المغربي بالإهانة وارتفاع درجة الحقد، الذي قد يؤدي إلى رفض أي مشروع حتى وإن كان جديا ولو من زاوية العصيان، الشيء الذي قد يؤدي إلى انزلاقات لا يمكن لأي أحد التنبؤ بعواقبها وقد تأتي على الأخضر واليابس، بحيث تجعل من عملية البناء والإصلاح صعبة المنال.
إن المنحى السائد والطريقة المعتمدة للنظام في تدبير الشأن العام، يسمح للفاسدين والمفسدين باحتلال كل الفضاءات والواجهات، ويمكن ممتهني الخطاب الشعبوي من تقلد المراكز السياسية العليا، يمعنون في قتل ما تبقى من القيم ويطبّعون المجتمع والحياة السياسية بثقافتهم التافهة والشاذة والفارغة من أي محتوى أو مضمون إلى درجة الضآلة، همهم الوحيد هو مراكمة الثروات خارج أي حس وطني. لذلك، وحتى نتمكن من ضمان استمرار مجتمعنا وقواه الحية، ينبغي رفع شعار رحيل المفسدين عن حياتنا وحياة الشعب المغربي، وهو الشعار الذي ينبغي أن يؤطر المرحلة القادمة ضمانا لمصلحة الجميع.
 
إن مهمة اليساريين وكل الديمقراطيين والحداثيين إعمال المراجعات الفكرية بهدف البحث عن المشترك، في أفق تشكيل الجبهة الديمقراطية للإنقاذ من أجل إيقاف هذا النزيف الذي يعيشه المجتمع ومحاولة إخراجه من النفق المظلم.
 
صحيح أن النظام وإلى حدود الآن قد نجح في تدبير المرحلة لكنه بهذه الطريقة لا يتوفر على ضمانات لتدبير المستقبل. هذا المستقبل الذي يظهر من خلال ما يدور ويقع حولنا سواء على المستوى الدولي أو الإقليمي أو المحلي أنه مظلم ويُنبِئ بالأزمة وانهيار الاقتصاديات. وبناء على هذا التحليل، فإن مصلحة النظام والحفاظ على استمراره تقتضي التخلي عن جزء من سلطاته واختصاصاته وتقاسمها مع ممثلي الشعب، داخل مؤسسات ديمقراطية نزيهة تتمتع بكامل سلطاتها، مؤسسات ذات شرعية من حيث التمثيلية والممارسة تعمل على أرضية البرامج وإنجاز الأهداف المسطرة وتخضع للمساءلة والمحاسبة. وعلى هذا الأساس، فلا شرعية خارج منطق شرعية الشعب ولا سيادة غير سيادة الشعب وكل الشرعيات الأخرى، سواء التاريخية أو الدينية، تبقى دون قيمة أمام سيادة دولة الحق والقانون، دولة الديمقراطية والكرامة والعدالة الاجتماعية.
 
مع الأسف، إن عملية تدوين تاريخنا لم تتم بالشكل المطلوب على اعتبار أن ما حدث فعلا في مختلف الحقب والأزمنة لم تتم كتابته بالنزاهة والحياد المطلوبين، ولو تمت هاته العملية في إطار الأمانة العلمية والأخلاقية لتجاوزنا رهانات كبيرة ساهمت بشكل أو آخر في عرقلة البناء الديمقراطي ولأسقطت الشرعيات التاريخية باعتبار أن التاريخ هو ما حدث وليس بالضرورة ما هو مكتوب، ولأسقطت الشرعيات الدينية على اعتبار أن "الدين لله والوطن للجميع".
 
معركة اليوم هي محاربة ثقافة الريع واستئصال هذا الورم السرطاني من جسم الإطارات المناضلة حتى لا ينخر جسم المجتمع برمته، وعلى الجميع أن يعلن حربا ضروسا على الفساد والمفسدين أينما وجدوا
 
وعلاوة على كل ما سبق ذكره، يمكن الجزم أن النظام في المرحلة الراهنة قد استرد المبادرة، لكن عليه أن يستحضر أنه قد جرب كل السيناريوهات وربما قد استنفد كل التجارب منذ خروج الاستعمار المباشر، مرورا بحكومة التناوب/التوافق التي لم يكتب لها الاستمرار ولم يرد لها أن تراكم إيجابيات هذه التجربة لأجل استمرار تصورها الطامح للتغيير، لتعطينا في الأخير كائنات سياسية نسيت أو تناست أدوارها وانساقت وراء الاهتمام بالمواقع والتطلع إلى الغنى وتحقيق الثراء، ولو على حساب تاريخ هذه التجربة نفسها، وصولا إلى تجربة حزب العدالة والتنمية (PJD)، وهي بالمناسبة أقبح وأسوأ سيناريو في تاريخ الحياة السياسية المغربية، على اعتبار أن مريدي هذا الحزب هم كائنات توظف الدين كأداة وآلية للضغط، وتنحى بالمجتمع إلى التشبع بثقافة الخنوع، وذلك لتحقيق رغباتهم الدفينة والانغماس في ملذات الحياة والعيش الرغيد، وإشباع الجشع والجوع التاريخي، يتميزون ببعض الدهاء في تقمص شخصية الفاعل المستميت في الدفاع على قضايا الوطن والمواطنين، يتقاسمون الأدوار، وينعدم لديهم الحس الوطني ويفتقدون لإرادة الفاعل السياسي الذي يتوق للممارسة الديمقراطية ويبتغي التغيير، يحلمون بدولة الخلافة ويتحينون الوقت المناسب لتحقيقها، استطاعوا وبمنطق "التقية" اختراق المجتمع ومؤسسات الدولة، وتنصيب مريديهم وأتباعهم في مواقع المسؤولية وفي كل الادارات العمومية والجماعات الترابية، من أجل الظفر بأكبر عدد من حيث المقاعد التمثيلية، وكذا بهدف الحصول على أكبر قوة سياسية خلال الاستحقاقات الانتخابية لسنة 2021. كل هذه المؤشرات لا تصب في مصلحة النظام ولا في مصلحة الديمقراطيين أينما كانت مواقعهم. إن هذه الكائنات في حقيقة الأمر تشكل العدو المشترك. إنها بالفعل كائنات تشكل خطرا محدقا على الديمقراطية، تؤمن بالفكر الشمولي وتتغذى من مناهل الإقصاء، وتغلّب مصلحة الجماعة والأتباع. فمسؤولية الجميع تقتضي التصدي لهذا المد الأصولي ولمشروع هذه القوى الظلامية والوقوف بحزم ضد أسلمة الدولة وأخونة المجتمع. فالمرحلة تتطلب البحث عن أوجه التلاقي بين كل الحالمين بالتغيير وكل المؤمنين بدولة الحق والقانون، دولة المستقبل، الدولة الحاضنة للجميع.
 
مسؤولية الفاعلين السياسيين:
 
في هذا المجال يجب الإقرار بحقيقة موجعة تتمثل في فشل جميع الفاعلين السياسيين وتقبل اقتسام المسؤولية على قدم المساواة، على الرغم من أن المنطق يفرض التمييز بين هؤلاء الفاعلين سواء من حيث الخطاب أو الممارسة أو التموقع إما في خانة الحركات المعبرة عن آمال الشعب أو التوافق والتماهي مع النظام.
 
إن استمرار النظام في محاصرة الأصوات المعارضة، وفي ظل تنامي الشعور عند مجموعة كبيرة من الشعب المغربي بالإهانة وارتفاع درجة الحقد، قد يؤدي إلى انزلاقات لا يمكن لأي أحد التنبؤ بعواقبها وقد تأتي على الأخضر واليابس
 
خلاصة القول، إن النظام الانتخابي المعمول به يفرز نخبا في معظمها بعيدة عن تمثل الفعل السياسي، وإن الإطارات السياسية بصورتها الحالية بعيدة عن تمثيل الشعب ولا تتكلم نفس لغته، ومن هنا نقف على صعوبة دخول الاستحقاقات الانتخابية بالصيغة المعتمدة حاليا، كما نلتمس العذر كذلك لجزء كبير من الشعب المغربي الرافض للمشاركة في هذه الاستحقاقات، خصوصا، في مرحلة تمكن فيها النظام من استرجاع المبادرة بشكل يجعله في موقف قوة بينما توجد القوى الديمقراطية في موقف ضعف. إن الوعي بضعف القوى الديمقراطية يشكل، في نظري المتواضع، المدخل السليم للتحليل السياسي، الشيء الذي يستدعي، بإلحاح مبالغ فيه، البحث عن القواسم المشتركة مع الآخر، من أجل مواجهة هذا الواقع ومحاولة إيجاد الأجوبة الحقيقية التي تطرحها الأسئلة المحرقة لهذه المرحلة.
 
تجربة البيجيدي هي أقبح وأسوأ سيناريو في تاريخ الحياة السياسية المغربية، فهم كائنات توظف الدين للضغط، وتنحى بالمجتمع إلى التشبع بثقافة الخنوع، لتحقيق رغباتهم الدفينة وإشباع الجشع والجوع التاريخي
 
الكل يعلم أن المشهد السياسي المغربي مبلقن، وقد عمل النظام وبمختلف الوسائل وعلى مرّ الأزمنة، على تبخيس الفعل السياسي عبر تشجيع الانشقاقات داخل الأحزاب بهدف تفريخ أحزاب إدارية لا تحمل مشاريع مجتمعية، بل خلقت من أجل تبني مشروع الدولة، فيكون النظام بذلك قد ساهم في إنتاج مشهد سياسي بئيس وفقير رغم كثرة الألوان والزخرفة والمساحيق التي يراد من ورائها إخفاء تجاعيد الزمن التاريخي لهذه الاطارات الحزبية المتجاوزة، ومع الأسف، حتى تلك الإطارات التي كانت تحسب على الصف الديمقراطي، لم تعد تلعب دورها وأصبحت عاجزة عن مسايرة الأحداث، وعن الجواب على احتياجات الوطن والمواطنين، وعن إنتاج الفكر، وضمان تأهيل وتكوين المناضلين الشرفاء الحاملين لهموم وقضايا هذا الوطن. فإذا كان للفاعل السياسي الحق في امتلاك مشاريع سياسية حزبية، فمن حق المواطن والمجتمع عليه أيضا أن يخلخل هذا الواقع، وذلك عبر تسطير برنامج نضالي مع الآخر يضمن الحد الأدنى من القضايا المشتركة لإنقاذ المجتمع من الإصابة بالسكتة القلبية.
 
المسؤولية الجماعية المشتركة من أجل عقد اجتماعي بديل
 
إن موضوع المسؤولية الجماعية جدير بالاهتمام ويحيلنا إلى طرح السؤال الفلسفي حول دور الإنسان في الحياة وما يمكن أن يقدمه كقيمة مضافة، سواء على مستوى القيم، والفكر، والتضحية، والنضال... إلخ، من أجل المساهمة في بناء مجتمع سوي وسليم. ومن هنا تأتي أهمية وضرورة العمل على إرجاع نبل العمل الحزبي والنقابي والمدني، على اعتبار كونه الحاضنة (Pépinière) للتأطير على المواطنة والنضال من أجل التغيير. لذلك، يجب إعادة الاعتبار لمفهوم النضال الذي يمزج بين صدق الخطاب والممارسة على أرض الواقع بهدف إقناع الجميع أن معادلة الريع والامتيازات هي معادلة غير سوية ومدمرة تكتنف الانتهازية والوصولية، مع العمل على فرض عقد اجتماعي بديل بين النظام وكل الفاعلين يقترح مخارج أخرى من شأنها تمكين البلاد من تجاوز الأزمة البنيوية والهيكلية التي تعيشها، وجعل المواطن والمجتمع يدركان حجم التحولات السريعة التي يعرفها العالم، وتمكينهما من الاستفادة من خيرات البلاد، ضمن متغيرات سياسية واقتصادية وفكرية، تمكن من التأهيل إلى الالتحاق بركب الدول المتقدمة، وكل هذا رهين بعودة المثقفين إلى القيام بالأدوار المنوطة بهم وانتشالهم من براثين هذا الواقع الذي تطغى عليه معالم البؤس والابتذال والميوعة، وانتزاعهم من أحضان النظام وجعلهم في خانة المعارضين لأجل تأطير المجتمع والقيام بتصحيح المسار التاريخي.
 
بعض المقترحات للبرنامج المشترك من أجل تأسيس الجبهة الديمقراطية للإنقاذ
 
إن خيار النضال الديمقراطي لا يستقيم إلا بإعمال خطوات وإجراءات واقتحام فضاءات ومجالات متعددة. وبالتأكيد إن الخطوة الأولى مؤسساتية وتتطلب فرض نوع من الضغط في أفق أجرأة بنود دستور سنة 2011، والنضال من أجل تعديله والرقي به ليعكس على أرض الواقع دولة الحق والقانون، واحترام الحريات الفردية والجماعية، وتحقيق العدالة الاجتماعية، وضمان حرية التعبير، واستقلال القضاء، والحق في التنظيم، والتنصيص على أن السيادة للشعب، وضمان حق كل المواطنين في تعليم عمومي ديمقراطي، وخدمات صحية ذات جودة عالية، وشغل ضامن للكرامة، والسكن والحماية الاجتماعية والتقاعد، وضمان حق الجميع في الثروة التي تنتجها البلاد، والنضال من أجل انتزاع بعض المطالب التي تعتبر الرافعة الأساسية لإحداث التغيير في المجتمع.
 
يجب الإقرار بفشل جميع الفاعلين السياسيين وتقبل اقتسام المسؤولية على قدم المساواة، رغم التمايز بينهم من حيث الخطاب والممارسة والتموقع إما في خانة الحركات المعبرة عن آمال الشعب أو التوافق والتماهي مع النظام
 
قطاع التعليم
 
المدخل الأساس مرتبط بضمان تعليم عمومي ديمقراطي للجميع بمناهج ومقررات موحدة، غايتها تمكين النشأ من المعرفة والتحصيل العلمي، وذلك بهدف تذويب الطبقية وتحقيق المساواة بين عموم أبناء الشعب المغربي. لذا، ينبغي العمل على رد الاعتبار إلى المدرسة العمومية للعب دورها الأساسي وإحداث ثورة على مستوى البرامج والمفاهيم، والقطع مع الفكر الغيبي والخرافي وربط التعليم بالمعرفة والتكنولوجيا والاقتصاد، مع السماح للقطاع الخاص، وفي الحدود الدنيا، أن يزاول مهامه تحت مراقبة الوزارة المكلفة بالتربية والتعليم، إن على مستوى البرامج أو المقررات أو نوعية المدرسين، مع تحديد الأسعار المطبقة في هذه المدارس وضرورة تحمل الدولة لجزء منها، على أساس أن التعليم الخصوصي يشكل استثناء وليس القاعدة.
 
المشهد السياسي المغربي مبلقن، وحتى الإطارات التي كانت تحسب على الصف الديمقراطي، أصبحت عاجزة عن الجواب على احتياجات الوطن والمواطنين، وإنتاج الفكر، وتأهيل المناضلين الحاملين لهموم وقضايا هذا الوطن
 
قطاع الصحة:
 
إن الحق في ضمان خدمات صحية ذات جودة عالية لجميع المواطنين يعتبر حقا مقدسا في العديد من الدساتير والأنظمة، وهو ما يدعوا إلى النضال من أجل رد الاعتبار للمستشفى العمومي، وإرجاع السؤال المتعلق بالصحة العمومية إلى الواجهة. وهذا المطلب لن يتم تحقيقه إلا بفرض الضغط من أجل القيام باستثمارات كبرى تروم ترميم وتشييد البنيات التحتية الصحية والمستشفيات والمستوصفات وكذا الاستثمار في العنصر البشري تحقيقا لنظام صحي في خدمة عموم المواطنين، خارج منطق المركز والهامش واستبعاد الرأسمال الخاص من هذا المجال.
 
البحث العلمي:
 
لا يخفى على أحد الدور الهام الذي يلعبه البحث العلمي في تقدم وتطور المجتمعات والرقي بها، ومن هنا تأتي مشروعية النضال من أجل تخصيص ميزانية كبيرة إسوة بالعديد من الدول، وذلك بهدف تشجيع البحث العلمي والباحثين على الابتكار والابداع، على اعتبار أن البحث العلمي هو تأشيرة العبور إلى العصر من بابه الواسع، مع ضمان تحفيز الكفاءات الوطنية والمحلية.
 
الاقتصاد:
 
خلق مناخ أعمال شفاف والقطع مع هيمنة الشركات الدولية، أو الشركات ذات الولاءات، والتي تتملص أغلبها من أداء المستحقات المترتبة على الضرائب، مع العمل على تشجيع الرأسمال الوطني وجعله يلعب دوره الريادي في الاقلاع الاقتصادي بما يضمن حقوق الطبقة العاملة مع جعل ثروات البلاد البحرية والفلاحية والمعدنية من مناجم وفوسفاط... إلخ، توظف في خدمة المواطن المغربي وتحريك عجلة الاقتصاد الوطني.
 
يجب إعادة الاعتبار لمفهوم النضال الذي يمزج بين صدق الخطاب والممارسة على أرض الواقع بهدف إقناع الجميع أن معادلة الريع والامتيازات هي معادلة غير سوية ومدمرة تكتنف الانتهازية والوصولية
 
القضاء:
 
النضال من أجل استقلال القضاء وجعل المواطنين سواسية أمام القانون، وذلك بجعل العدل هو القاعدة الأساسية في هذا المجال وتهييء كل الظروف حتى يتسنى للقضاة أن يبقوا مستقلين وبعيدين عن كل تأثير.
 
الإعلام:
 
ضمان استقلالية وحرية هذا القطاع عن مراكز القرار، وجعله قطاعا يساهم في تنوير المجتمع، والقاطرة التي يمكن من خلالها الرفع من مستوى وعي الشعب وتهذيب ذوقه.
 
الطرق والماء والكهرباء والتطهير:
 
اعتبارا لكوننا ننتمي لوطن واحد ينبغي إتاحة الامكانية لكل مدينة أو قرية من أن تستفيد من التنمية الاقتصادية، وذلك عبر تمكين الساكنة من التوفر على الطرق وكذا ضمان حق المواطن في التنقل إلى أية وجهة يشاء. وعلى هذا الأساس، يتحتم علينا النضال من أجل بناء وتشييد طرق جديدة لفك العزلة على مجموعة من المناطق مع ضمان التزويد بالكهرباء والماء والتطهير.
 
السكن:
 
بالنظر إلى مافيات العقار وقدرتها على بسط اليد على العديد من العقارات يتحتم خوض معارك ضد هذه اللوبيات وجعل الوعاء العقاري هو المدخل للدولة لتخفيض أثمنة العقار بهدف ضمان سكن لائق للجميع مع العمل على تنظيم هذا القطاع وضمان حضور الدولة كمستثمر ومراقب.
 
الشغل:
 
يعتبر الشغل الركيزة الأساسية لكل مواطن على اعتبار أنه الضامن للاستقرار النفسي والوظيفي والمحافظ على كرامة الانسان. لذا، يجب على المشاريع التنموية أن تأخذ بعين الاعتبار المكون البشري كهدف وطموح لأنه العنصر الوحيد الكفيل بإنتاج الثروة.
 
دور الشباب:
 
العمل على إعادة الاعتبار لدور الشباب وإيلاءها العناية اللازمة لإتاحة الفرصة لها لتلعب الدور المنوط بها في تأطير وتكوين وصقل المواهب، واعتبارا لكونها الفضاء الرحب الذي يوفر الترفيه والتسلية، ويساهم في التحصيل والدراسة، ويربي الأجيال على قبول الاختلاف والتنوع والقدرة على التعايش، إضافة إلى تنظيم الورشات المتعلقة بالتربية على القيم والمواطنة.
 
تلكم بعض المقترحات البسيطة التي حاولت جاهدا أن ألخصها في هذه السطور، متمنيا أن يتم إغناؤها والتفاعل معها. إنها مساهمة أبتغي بها الدفاع عن المجتمع الذي أنتمي إليه وأعيش فيه، أملي صادقا في المساهمة إلى جانب كل الديمقراطيين الغيورين الحالمين ببناء دولة مغربية قوية شعارها "دولة الحق والقانون" والتي في حقيقة الأمر لا نريدها أن تكون استثناء كما يوهمنا الغرب وكل القوى الاستعمارية، بل نريدها دولة مغربية قادرة على دخول التاريخ بثقافة شعبها وبنضالات بناتها وأبنائها.
الرباط بتاريخ:
15 شتنبر 2020
______________________________
الكاتب العام للكونفدرالية العامة للشغل وفاعل يساري