في تقديم جميل للشاعر والكاتب محمد بنقدور الوهراني للشاعر محمد السكتاوي قبل أن ينشر ديوانه "الشرفات الأربعون" نقرأ:
"قلة من الناس يعرفون أن محمد السكتاوي، المدير العام لمنظمة العفو الدولية بالمغرب، يحمل داخله نبتة طيبة أخرى، هي نبتة الشاعر. قلة من الناس، كذلك، يعرفون أن محمد السكتاوي يسلك دروبا وعرة أخرى، هي دروب الإبداع الشعري. قلة من الناس يعرفون أن محمد السكتاوي شاعر، شاعر من طينة مختلفة، تحمل في عمقها الكثير من الدراية والإحاطة بعوالم الشعر ومتاهاته. محمد السكتاوي المناضل يكتب الشعر، بمعرفة ودراية وعلم وإتقان، الأمر الذي يجعل العارفين به يتساءلون، كيف يوفق هذا الحقوقي بين الشعر والنضال. أولى البديهيات هي أن محمد السكتاوي المناضل، غير محمد السكتاوي الشاعر، فشتان بين المحمدين. فإذا كان محمد السكتاوي المناضل واحد في حله وترحاله، معروف ومعلوم في مواجهاته ومواقفه ومناظراته، فإنه، في الشعر، مجهول الهوية، لا يمكّن أحدا من معرفة وجهه الشعري، ولا يسمح لأحد بالاطلاع على جوانب شخصيته الشعرية إلا لأهل الشعر من الندماء والأدباء والشعراء، وبانتقائية شديدة.
الشاعر والكاتب محمد بنقدور الوهراني
صحيح أن محمد السكتاوي لم ينشر ديوان شعر، ولم يطرق باب مصادر النشر الشعري لتقديم شخصيته الشاعرة، الورقية منها والإلكترونية، ولكنه ينشر بطريقة أخرى، هو يكتفي بصفحاته الفايسبوكية كمصدر وحيد للكتابة والاطلاع والنشر والتواصل. ولكن، لماذا لا يصرح محمد السكتاوي بهويته الشعرية؟ لماذا يصر محمد السكتاوي على الكتابة باسم مستعار، فيسمي نفسه، تارة، (بني خلاد)، وتارة (محمد خلاد)؟ هل تعوزه الشجاعة المعنوية لتقديم شخصيته الإبداعية في عالمه الحقوقي، الذي لا يؤمن بغير القرينة والبينة والحق والقانون؟ لماذا لا يستغل وضعه الاعتباري، المهني والحركي، لتسويق وجهه الشعري، خاصة وأنه يتوفر على كل شروط القول الشعري القويم؟
ربما الإجابة لها ارتباط بوازع نفسي يربأ بالذات الشاعرة الخوض في مستنقع ثقافي يرى الكثيرون أنه فاسد، أو ربما يرى محمد السكتاوي، بتواضع الشعراء، أنه لا يستحق صفة الشاعر، وأن كتاباته الشعرية هي تعبير عن هواية شخصية من الأفضل أن تبقى في حدود تواصلية تتحرك خارج منظومة الشعر، أو ربما، لا يُقَدّر محمد السكتاوي ثروته الشعرية، ويعتبر نفسه مجرد كاتب خواطر، لا يستحق صفة الشاعر، والانتساب لمملكة الشعراء. كيفما كان الحال، فالواقع الذي لا يرتفع هو أن الحائط الفايسبوكي لمحمد السكتاوي، بتمظهراته الإسمية الأخرى، (بني خلاد) و(محمد خلاد)، يفاجئ المتتبع بقصائد شعرية عديدة ومتنوعة، أقل ما يمكن أن يقال في حقها، إنها مدهشة، مدهشة من عدة جوانب: مدهشة من الجانب الكمي، بحيث يتفاجأ المتتبع بالكم الكبير للكتابات الشعرية التي يضمنها محمد السكتاوي حائطه الفايسبوكي، كتابة يمكن تشبيهها بالسيل الجارف الذي كان ينتظر المناسبة للانهمار والجريان في اتجاهات بلا حدود. مدهشة من حيث كيفية الاستواء الشعري، بحيث يمكن الجزم بأن هذه الكتابة تتوفر على كل شروط ومواصفات الكتابة الشعرية السليمة، من لغة وصورة شعرية ودلالة، وفي نفس الوقت من تقنيات القول الشعري، سواء من ناحية الإيقاع أو البلاغة. مدهشة من ناحية اعتمادها على التناص كمقوم شعري يعطي للكتابة الشعرية إحالاتها الحضارية والتاريخية والفنية التي تميزها من جهة، ومن جهة أخرى تجعلها كتابة تحقق مبدأ المقصدية التي تعتبرها نظرية التلقي أحد أهم تجليات الكتابة الشعرية الدالة على الجدوى من الكتابة الشعرية".
الشاعر والناقد والسفير الفلسطيني الدكتور عبد الرحمن بسيسو
وفي حوار شاعر مع شاعر، تتسربل الصورة الشعرية بينهما، نسمع خرير ماء وديان وسواق تمر في شرايين أرض هناك وراء القضبان وأرض هنا يخنقها وباء أسود، وبوجدان متدفق يكشف الشاعر محمد السكتاوي عن تلك الأرض التي تبحث عن ربيع قائلا: "في حوار درجْتُ عليه مع صديقي الفلسطيني الشاعر الأنيق والناقد البارز والسفير الفلسطيني المناضل الدكتور عبد الرحمن بسيسو علق على قصائدي التي جمعتها في ديواني الصادر حديثا عن دار التوحيدي والموسوم بعنوان (الشرفات الأربعون) بعبارات بهية جاء فيها: "ما أبدعك وما أعلاك وما أصفى رؤاك أيها الشاعر الشاعر...". فكان ردي على هذه الالتفاتة الطيبة من شاعر غزة المحاصرة وابن بيت الشعر المقاوم: "أنت َ الذي حرضتني على ارتكاب جرم الشعر فانتهكتُ حقوق الكلمات...".
لم أرم عليه الورد، فقد كان يتابع بكثير من العناية ما أنشره من نصوص في صفحتي علَى الفايسبوك سواء تلك التي لاحقت بها الفراشات في بساتين الزيتون بقريتي بني خلاد، أو تلك التي كنت أؤنس بها عُزلتي في شرفة بيتي المطلة على زرقة المحيط في الرباط خلال فترة الحجر جراء جائحة كورونا. هكذا كل مرة كان يحثني على تجميع تلك القصائد في ديوان واحد، واقترح علي أن يكون بعنوان "شرفات شعرية". ولذلك اعتبرته هو من أوائل صديقاتي وأصدقائي الكتاب والنقاد من حرضني على جرم البوح بأوجاع العزلة وانتهاك حقوق الكَلِمات التي كنت أقضي معها خَلْوتي بحرمانها من حريتها وسجنها بين دفتي كتاب. غير أنه عاكسني في هذا الوصف لحرية الكلمات بلطف جميل محاولا سلَّ لَثْغ الحروف من فمِي ودفعي لفتح شرفاتي لكل الرياح قائلاً: "بل حاورتَها (يعني الكلماتِ)، فتفاعلت معك وأسهمتَ، بذكاء متبادل، في تشكيل عالم شعري متفرد! لا أجاملك، يا توأمي، بل أصدقك القول، فلنصوصك، المفعمة بالجمال، ذائقة فريدة، وأريج لا يُعثر عليه إلا حيث شرفاتك المفتوحة على سهول بني خلاد، والمغرب، والعالم الذي تبصره، بعينيك وعينيّ لغتك، من علوها الخفيض!".
لم أعرف ماذا فعل بي، فقد منحني صفة من صفات سلالته الشعرية يعز امتلاكها، وألقى على عاتقي مسؤولية لا طاقة لي بها، فقد جعلني توأما له، فكيف لي أن أمسك الحجر وأصعد جبل الكرمل وأركب مع الصيادين بحْرَ غزة تحت النار، وأحمل الصليب في طريق الآلام الطويل، وأحرك الرياح لتدفع شراعي دائما اتجاه باب المغاربة في القدس. قلتُ: فليكن... وكانت "إطلالة من شرفة آخر العالم" النص الأربعون، فرنَّ صوت في أذني بلهجته الغزاوية وبداوة الشام المضمخة بثقل التاريخ ورائحة تراب فلسطين: "آه... أهيَ آخر الشرفات؟! إنها تقول أجمل الرؤى وأبهاها مبثوثة على شبكة دلالات آخر متتاليات القصيدة... نص مدهش".
الشاعرة والكاتبة السورية يسرا إبراهيم
وكأنَّ الشاعرة والكاتبة السورية يسرا إبراهيم كانت تتابع هذا الحوار في اللاذقية تحت ضوء "المصابيح الزُّرق"، فتدخلت مخاطبة الشاعر: "من الصرخة الأولى والصرخة الأربعين من شرفتك نُعلن لهذا العالم معنى كينونته". ومَهَرَت قراءتها بالقول: "أنا هنا لا أتمدّح ولا أتكسّب في كلامي، بل ينساب الكلام بعفوية وتلقائية، مدفوعا بسيل من الإعجاب الشديد بلغة هذا الشاعر الإنسان التي تطاوعه في رسم أي صورة شاء وأي تركيب مجازي اختاره، فلا تجد تعسفا او تعقيدا ولا إسفافا او استخفافا بصياغة ما يرسم وينحت فأنت أمام نتاج مشحون بالرؤى والاحاسيس المتدفقة بلا انقطاع لا تكاد تقع على واحدة منها، حتى يفوتك الباقي، فتلحق بها حتى أنك تخرج من نصه الشعري مبهوتا من الصور المرتسمة أمامك، منبهرا من وهجها الداخل إليك كأنفاس الصبح"... وفي تحية للشاعر ختمت قائلة: "مبارك لك هذا الإنجاز المضيء في عالم القصيدة النثرية الشاعر الإنسان"...
المناضل الحجقوقي والكاتب والشاعر محمد السكتاوي
وتجدر الإشارة إلى أن ديوان "الشرفات الأربعون"، صدر عن دار التوحيدي بالرباط، في 144 صفحة من القطع المتوسط، يقدمها الشاعر بهذه العبارة: "أربعون قصيدة تستشعر دبيب الحياة الصامت وتحولات من الكائن الإنساني كما عشتها منعزلا في شرفتي، أطل على قارة بعيدة ضربها وباء أسود".