فرضت جائحة كورونا توقّفًا لبرامج التّكوين التّعليميّ المدرسيّة والجامعيّة، طوال فترة الحجر الصّحيّ والطوارئ التي فرضها الوباء. وقد الْتَهَم التوقُّف هذا نصفَ العام الدّراسيّ إلاّ قليلاً، ناهيك بإحداثه الإرباك في جداول الامتحانات وتقديم البحوث والإشراف عليها ومناقشات الأطروحات... غير أنّ أعظم الإرباك إنّما كان في التّكوين عينِه؛ هذا الذي قَطَّعتِ الجائحةُ أوصالَه وأتَتْ عليه بعظيم الأضرار. ومعنى ذلك أنّ خسائر النّظام التّعليميّ المَهُولة لا تقِلّ فداحةً عن خسائر النّظام الاقتصاديّ والاجتماعيّ والصّحيّ في هذه الجائحة المدمّرة إن لم تكن آثارها أبعدَ في الزّمن وأشدَّ إيذاءً.
علينا أن نعترف، ابتداءً، بهوْل الخسارة الفادحة التي تلقّاها نظامُ التّكوين التّعليميّ بهذا التّوقُّف الاضطراريّ؛ وأن ندرِك أنّ حصيلة التّوقّف هذا هو انتزاع نصفِ عامٍ من حياة الطّالب العلميّة غيرِ قابلٍ للتّعويض أو للاستدراك؛ وأنَّ المنتَزَع هذا يؤثّر سلبًا في ما بعده: كالفِقرة المصابة في عمودٍ تؤثّر في الأخرى. والمشكلة في أنّ الدّول تقف إزاء هذه النّازلة أمام خياريْن كلّ منهما أسوأ من الآخر: أن تختار القرار المرّ فتعلن السّنة الدّراسيّة سنةً بيضاء فتأتي على التّلامذة والطّلبة بالعقاب على طارئٍ ثقيل لا ذنبَ لهم في ارتكابه؛ أو تختار المحاباة والمداهنة فتقبل بإقرار شرعيّة النّزر اليسير من العام الدّراسيّ، وبالامتحان فيه لتأتي، بذلك، على مستوى التّكوين بأوخم الأضرار والعقابيل غير آبهةٍ بما قد تكون نتائجُه على تكوين التّلميذ والطالب غدًا. ولقد حسمتِ الدّول تردُّدها فاختارت أن تسير في مسار الخيار الثّاني، لِتَكُفّ عن نفسها أثمانًا اجتماعيّة وأمنيّة تخشى أن تدفعها إنِ اختارت غيرَه.
وُجِدَ، وما زال يوجد، من يزعم أنّ البديل عن هذا التوقُّف الاضطراريَّ موفورٌ ومُتاح، وقد ينجح في تغطيّة فراغ التّكوين المباشر؛ وهو التّعليم "عن بعد". ولقد أنفقنا شطرًا من الوقت نسمع فيه خطابًا تبجيليًّا عن هذا "التّعليم عن بعد"، أو نتسقّط أخبارًا عن نجاحاته هنا وهناك، وعن استتباب أمْر العمل به في هذا البلد أو ذاك، في هذه المدرسة أو تلك الجامعة، حتّى وَقَر في نفوس كثيرٍ من النّاس أنّ نجاعَتَه مضمونة، وأنّ آفاقه مأمونة ونتائجه جزيلة. ثمّ ما لبث بعضُ الولِعين بالمستقبليّات أن بشّر بمشهدٍ تعليميّ قادم لن تحتاج فيه البشريّةُ إلى مدارسَ وجامعات وبنايات وتجهيزات ونفقات ثقيلة؛ حيثُ يكفي "التّعليم عن بعد" بأن يَجُبَّ ما قبلَه ممّا كان يلتهم موازنات الدّول أو يُنهِك الإنفاق الأُسْريّ عليه.
ولا مِرْيَةَ، عند كاتب هذه السّطور، في أن "التعليم عن بعد" أزعومةٌ شبيهةٌ – في بنائها الافتراضيّ الورديّ – بسابقتها "التّعليم الخاصّ" إنْ لم تكن أفْدَحَ وأفضح. وليس ذلك لأسباب تقنيّة فحسب، من جنسِ افتقار المعظِم السّاحق من تلامذة العالم وطلاّبه – وهم بمئات الملايين يُحْسَبون – إلى الإمكانيّات والوسائل لمتابعة الدّراسة "عن بعد"، وإنّما لأنّ العمليّة التعليميّة عمليّة تواصليّة، بالتّعريف، ولا تَقْبَلُ– بالتّالي – أن تكون افتراضيّة. والعمليّة التّواصليّة تفترض التّماسّ الفيزيقيّ والبصريّ والصّوتيّ ليقع به التّفاعلُ المباشر. من يتصوّر التّعليم على نحوٍ آخر، ليس من أهله وهو على عالمه متطفّل، بحيث يَحسَب الخطابَ المدرسيّ شكلاً آخر للخطاب الإعلاميّ والإشهاريّ البصريّ! قد ينجح التّكوين "عن بعد" في ميدان دروس محاربة الأميّة، أمّا في التّكوين والتّأهيل العلميّين فمستحيلٌ دورُه إلاّ إنِ اختارتِ البشريّة نوعًا من التّكوين على طريقة "الفاست فود"!
ما الذي يدفع المرءَ منّا إلى حضور مسرحيّةٍ أو كونشرتو موسيقيٍّ أو حفلٍ غنائيٍّ في مسرح، أو حضور لقاءٍ رياضيّ في ملعب، مع أنّ في وسعه أن يشاهد هذا وذاك وذلك "عن بعد"؟. وما الذي يدفع قارئًا إلى أن يحضر محاضرةَ مفكّرٍ أو ندوةَ باحثين إذا كان يملك أن يقرأ نصوص هؤلاء في كتبهم؟ إنّه هذا الذي لا يفهمه قائِلةُ "عن بعد": التّواصل المباشر، الذي به يحصُل التّلقّي المناسب والتّفاعُل.
لستُ أدافع عن خيارٍ بعينِه تجاه نصف العام الدّراسيّ الضّائع، لكنّي معنيٌّ بالردّ على مَزْعَمَةِ "التّعليم عن بعد" بوصفه بديلاً ناجعًا ودحْض دعواها. أفعل ذلك لأنّي كرجلِ تعليم – يُجِلّ مهنَة التّعليم ويحسبها أشرف المهن وأنبَلها – يُدرِك، على الحقيقة، معنى العمليّة التّعليميّة وكيف ينبغي أن تحصل على الوجه الأمثل الذي تكون منه الفائدة.