الغد 24 خبر الغد تقرأه اليوم

في الحاجة إلى التربية الإعلامية للوقاية من بؤر التشهير


حميد هيمة
 
يعلن الخطاب الجنائزي للإعلام الجديد، المحمول عبر الوسائط الرقمية، موت الإعلام التنويري الملتزم بالمعايير والقيم الأخلاقية للمهنة، نتيجة إصابته بالوباء المستجد. في مقابل هذا الموت المأساوي، ظهر كائن جديد، محكوم بدوافع الإثارة والربح، لقيادة مجتمع الإعلام الالكتروني. وفي غياب التربية الإعلامية، التي يمكن أن تساعد على وضع التعاقدات الاجتماعية، تحول الإنسان، في العالم الافتراضي، إلى ذئب لأخيه الإنسان، بتعبير توماس هوبز.
 
ظهر كائن جديد، محكوم بدوافع الإثارة والربح، لقيادة مجتمع الإعلام الالكتروني، وفي غياب التربية الإعلامية، التي يمكن أن تساعد على وضع التعاقدات الاجتماعية، تحوّل الإنسان، في العالم الافتراضي، إلى ذئب لأخيه الإنسان، بتعبير توماس هوبز
 
في ظل الفوضى، تغيب المبادئ الأخلاقية والمهنية، وهو ما يعني، بالنتيجة، أن الجميع مرشح(ة) لأن يكون ضحية لنيران التشهير على صفحات إلكترونية قذرة، تخضع، فقط، لنزعات سوقية وربحية (الرفع من عدد الإعجابات والزيارات)، لا تستحضر، بشكل مقصود، كلفة التدمير النفسي للضحايا.
 
وفي زمن كورونا المستجد، استجد وباء (إعلامي)، في منصات التواصل الاجتماعي، للفتك بالمسؤولية الأخلاقية والمهنية لوسائل النشر والإعلام إزاء الفرد والمجتمع. وبذلك أصبح الجميع، اليوم، أمام جائحتين: الأولى، بيولوجية تتسلل عبر الجهاز التنفسي، والثانية إعلامية تصيب مكونات الجهاز النفسي.
 
المدونون.. رسل العالم القديم
 
إلى عهد غير بعيد، في المرحلة التأسيسية للإعلام البديل بالمغرب، قاد المدونون، في العالم الافتراضي، حراكا إعلاميا للمطالبة بالديمقراطية وحقوق الإنسان، عبر مدونات شخصية أو جماعية ملتزمة بميثاق شرف التدوين.
 
كان العالم الافتراضي، قبل الربيع العربي، نخبويا يقتصر فيه التفاعل على الفئات التي حظيت بالتعليم والمعرفة، مما جعله فضاء خصبا لكل النقاشات والجدالات الفكرية والسياسية؛ التي لم يكن سقف (الهامش) الديمقراطي، للدولة ومعها التنظيمات غير الحكومية، قادرا على استيعابها في المغرب.
 
لم يكن المدونون المغاربة ملائكة، بل كانت مدوناتهم مرآة صادقة للانقسامات الفكرية والتجاذبات الحزبية والإيديولوجية التي تخترق المجتمع. لكن هذه التجربة، المأسوف على اندثارها، جسّدت الحالة الثقافية لمجتمع الإعلام المواطن، القائم على قواعد ومدونات أخلاقية تضمن (العيش المشترك) لكل المذاهب والتيارات النشيطة في العالم الافتراضي.
 
لم تنته تجربة التدوين بميلاد المنتديات الاجتماعية، لكنها اختنقت بعد رفض السلطة الترخيص بتأسيس جمعيات المدونين المغاربة، وهو ما فرض الانتقال الاضطراري من المدونات إلى الفايسبوك، وبالتالي الانتقال من المدون(ة)/ الكاتب(ة) إلى المؤثر(ة)/ صانع(ة) المحتوى. لكن بأي مضمون؟
 
الفايسبوك.. حائط زنقاوي!
 
لم يرث الفايسبوك، في بدايته الطفولية، نخبوية النشطاء من عالم المدونات، ولكنه ورث منها، أيضا، النقاشات السياسية والإيديولوجية. وتحوّل إلى وسيلة ناجعة للدعاية ضد مظاهر السلطوية، أسهمت في انطلاق الإعلانات الأولى لانتفاضات (ربيع الشعوب).
 
في هذا السياق، توسع استعمال الفايسبوك والتويتر بشكل غير مسبوق، لمتابعة الأحداث التي التزم الإعلام الرسمي حيالها الصمت. غير أن تضخم أعداد نشطاء الفايسبوك، واقتحامه من طرف أجهزة الدول، الخائفة من زحف شرارة الانتفاضات، حمل معه أمراضا وأوبئة دمرت كل المكاسب (الديمقراطية) السابقة. في هذه المرحلة الانتقالية، اختفى المدوّن، الذي كان يفاخر برأسماله الثقافي والنضالي، وصعد إلى (النجومية) المؤثر الذي لا يتردد في إعلان محتويات التفاهة نظير تفعيل جرس الإعجاب والمتابعة لصفحته!
 
في زمن كورونا المستجد، استجد وباء (إعلامي)، في منصات التواصل الاجتماعي، للفتك بالمسؤولية الأخلاقية والمهنية لوسائل النشر والإعلام إزاء الفرد والمجتمع. وبذلك أصبح الجميع أمام جائحتين: الأولى، بيولوجية تتسلل عبر الجهاز التنفسي، والثانية إعلامية تصيب مكونات الجهاز النفسي
 
لم يكتف المؤثرون الجدد بإعادة إنتاج تجربة الجرائد الصفراء الورقية، والتي كانت تحتل هامشا ضيقا ومخفيا في الأكشاك، بل اجتهد المؤثرون في صفحات الفايسبوك وقنوات اليوتوب للاحتفال بالتفاهة كمنتوج مطلوب في سوق استهلاكية واسعة، ومتحررة من كل الحواجز الجغرافية والأخلاقية.
 
والحقيقة أن هذا التوجه، الذي يبدو عفويا، يندرج ضمن مرحلة صعود "نظام التفاهة" (آلان دونو، 2015)، بوصفها نظاما اجتماعيا تكون الطبقة المسيطرة فيه هي طبقة الأشخاص التافهين أو النظام الذي تتم فيه مكافأة التفاهة والرداءة. في مقابل ذلك، يلاحظ الانهيار الغريب لمنظومات القيم وانحدار الأذواق وإبعاد الكفاءات...الخ.
 
المؤلف ذاته، ينبه إلى أن الإعلام، في نهاية المطاف، صناعة، والصناعة يحركها دائما هاجسا المصلحة والتسويق، كما يظهر في صحافة التبلويد التي تهتم بموضوع الفضائح ونشر المواد التافهة.
 
وفي السياق ذاته، لم تعد الشبكات الاجتماعية ومواقع التواصل الاجتماعي مجرد مواقع لتبادل الآراء، بل أصبحت منابر يحتكرها الكثير من تافهي مشاهير السوشيال ميديا كنماذج ناجحة (ماديا)، وبتغييب مقصود لمعايير النجاح التي تعارفت عليها الإنسانية. يكفي أن نقارن هنا، على سبيل المثال، محدودية عدد المشاهدات لندوات فكرية تؤطرها أعلام أكاديمية وازنة مع العدد الغفير للمتابعين والمشاهدين للمسلسلات المبتذلة (روتيني اليومي).
 
اختفى المدوّن، الذي كان يفاخر برأسماله الثقافي والنضالي، وصعد إلى (النجومية) المؤثر الذي لا يتردد في إعلان محتويات التفاهة نظير تفعيل جرس الإعجاب والمتابعة لصفحته!
 
وفي النهاية، لم يعد الفايسبوك، ومعه باقي الفضاءات الثقافية في العالم المادي، مسارح للإنتاج والإبداع الفكري والفني، بل تحوّل الأول إلى حائط يقصده رواد التفاهة لقضاء حاجتهم. ولتفادي انبعاث الروائح الكريهة، سيضطر الناس إلى استنساخ العبارة المنقوشة على صدر جدران فضاءاتنا العمومية على غلاف صفحة الحساب الشخصي بالفايسبوك: (ممنوع التبول هنا، وشكرا!)
 
ورغم سيطرة (نظام التفاهة)، على المحتوى المشاع في المنتديات الاجتماعية، إلا أنه لا يمكن إلغاء الإشراقات التثقيفية والتربوية والفنية، التي تهدف إلى تنمية الوعي الاجتماعي والجمالي للجمهور. لكن هذه الجهود تبقى محدودة أمام تفشي جائحة (الإعلام) الذي يتغذى بنشر الفضائح واحتراف التشهير، كخط تحريري رسمي، للحط من كرامة الأشخاص وانتهاك حياتهم الخاصة.
 
بؤر التشهير أو القتل المعنوي
 
في سياق تفشي وباء كورونا المستجد، استباح (المؤثرون)، الهواة كما المحترفون، كل المعايير والقيم الأخلاقية للإعلام والنشر، من خلال تصوير ونشر وتقاسم صور لأشخاص ذنبهم الوحيد زيارة سيارة تحمل رقم كوفيد-19 إلى مكان الإقامة لإجراء تحاليل الكشف عن الإصابة بهذا المرض. لقد أصبحنا، اليوم، بالفعل، أمام جائحتين، الأولى بيولوجية تتسلل عبر الجهاز التنفسي، والثانية إعلامية تصيب مكونات الجهاز النفسي.
 
لم تعد الشبكات الاجتماعية ومواقع التواصل الاجتماعي مجرد مواقع لتبادل الآراء، بل أصبحت منابر يحتكرها الكثير من تافهي مشاهير السوشيال ميديا كنماذج ناجحة (ماديا)، وبتغييب مقصود لمعايير النجاح التي تعارفت عليها الإنسانية
 
ونتيجة استئساد إعلام التشهير، الذي يتغذى على (الفضيحة) بمعناها الاجتماعي، سيتفادى المشتبه في إصابتهم بالوباء الاتصال بالمصالح الصحية لاعتبارات نفسية واجتماعية. وبالتالي، فإن هذا (الإعلام)، غير المؤهل لتنمية الوعي الجماعي بمخاطر المرض وسبل الوقاية منه، يتحول إلى بؤر للتشهير بالمرضى وعائلاتهم، في تجاوز سافر للأطر القانونية والقيمية للإعلام والنشر الإلكتروني.
إلى اليوم، ما تزال السلطات، المعنية بإنفاذ القانون، (غير منتبهة)، في هذه الظرفية الصحية الاستثنائية، للتعديات التي تطال حق الخصوصية للمرضى والتشهير بعائلاتهم والمس بكرامتهم، مما سيؤدي إلى اعتلال صحتهم النفسية، وخاصة الفئات الهشة كالأطفال.
 
في الحاجة إلى التربية الإعلامية
 
لا يمكن مقاومة تفشي بؤر التشهير، في وسائل النشر الإلكتروني، دون إدماج المدرسة باعتبارها الوسيلة الأساسية لتمرير التربية الإعلامية التي ستمكن أجيال المستقبل من الأدوات التحليلية والنقدية اللازمة لمقاومة سلطة الصوت والصورة، وبهدف استعادة الإعلام الإلكتروني لمساره في تعزيز قيم المواطنة (الإعلام المواطن).
 
ولأن الإعلام حاجة مجتمعية لا يمكن الاستغناء عن خدماته، وبوصفه أحد مقومات النظام الديمقراطي، فإن الحاجة ملحة، اليوم، لتأطير المجتمع، في زمن الثورة الرقمية وما تعنيه من تدفق الأخبار والمعلومات ومشاعية حيازة وسائل التواصل الحديثة- التكنولوجية، بتنمية ذكاء الإنسان(ة) المستهلك(ة) للتعامل النقدي مع المحتوى الرقمي الرائج، والتعاقد على مدونة أخلاقية في إنتاج المحتويات الرقمية أو تقاسمها.
 
أستاذ، عضو منظمة حريات الإعلام والتعبير (حاتم)