الغد 24 خبر الغد تقرأه اليوم

"حُمَّى أمسية السبت" تحت نيران المُفرقعات

 
د. عبد السلام الصديقي
 
الأحداث الخطيرة التي وقعت السبت الماضي، خلال "الاحتفال بعاشوراء"، الذي كان ممنوعا أصلا، لا ينبغي أن تمر مرور الكِرام، أو اعتبارها حدثا عابرا. فلقد بلغت درجة من الخطورة تستوجب عقاب مرتكبيها في إطار القانون. لكن أيضا، يتعين استيعاب أبعادها والعمل على أن لا تتكرر مستقبلا.
 
أجل، إننا نتفهم حاجة الشباب إلى التسلية وكسر الروتين، إنما أن تصل الأمور إلى زرع الفوضى والتهجم العنيف على قوات الأمن، فهذا أمر لا يمكن قبوله بأي حال من الأحوال.
 
بالفعل، من المعلوم أن حالة الطوارئ الصحية، الجاري العمل بها في مجموع التراب الوطني، تفرض قيودا مضبوطة وتدابير احترازية يتعين احترامها حتى يتمكن كل فرد من حماية صحته وصحة الآخرين. ولهذا الغرض بادرت السلطات العمومية، في أكثر من مناسبة، إلى التذكير بالسلوك الواجب اتباعه وبالقواعد اللازم التقيد بها، بما في ذلك ما يتعلق بتخليد الحفل التقليدي لذكرى عاشوراء، والذي نعرف التجاوزات التي شابته نتيجة "الجنون البشري" لبعض الناس.
 
في ليلة عاشوراء، قام شباب بعملية تخريبية، بصورة هيستيرية، وتهجموا، بشكلٍ وحشي، على أفراد قوات الأمن، رغم تدخلها بطريقة سلمية وحضارية ومهنية، وهو ما يستحق التقدير والتضامن
 
فلقد تم منع أي طقس احتفالي بالمناسبة، ولكن، مع الأسف، كثيرٌ من الشباب واليافعين لم يستوعبوا هذا المنع، واختاروا تحدي القانون والنظام العام والسلطة العمومية، حيث تدفقت أمواج بشرية على بعض الأحياء في مدنٍ كبرى، كما شاهدنا ذلك في بعض مقاطع الفيديو المصورة التي تم تداولها عبر الشبكات والمواقع الاجتماعية. إذ تسلح هؤلاء الشباب بـ"السلاح الثقيل" المتكون غالبا من عجلات مطاطية مُعَدة للإحراق، ومفرقعات شديدة الاشتعال، ومعدات أخرى مختلفة لكنها تتقاطع في خطورتها البالغة.
 
وبصورة هيستيرية، قام هؤلاء الشباب بعملية تخريبية، وتهجموا، بشكلٍ وحشي، على أفراد قوات الأمن، رغم تدخلها بطريقة سلمية وحضارية ومهنية، وهو ما يستحق التقدير والتضامن. فكانت الحصيلة النهائية تسجيل جرح 17 شرطيا و11 فردا من القوات المساعدة، في حين تم إلقاء القبض على 157 شخصا من مُثيري الأحداث المذكور، بمن فيهم يافعون، وإحالتهم على القضاء بتهمة المشاركة المُشتبَهة في أعمال تخريبية وعصيان أوامر قوات الأمن وقطع الطريق العام.
 
تلكم هي الوقائع كما هي، وهي تُساءِلُنا بقوة. طبعا، القضاء سيقوم بمهمته، والمتهمون مدعوون لإثبات براءتهم. إلا أن كل ذلك يظل غير كافٍ لفهم الأسباب التي أفضت بنا إلى هذه الخطورة، خصوصا وأنها ليست المرة الأولى التي تقع فيها مثل هذه الأحداث. فلقد شهدنا في السابق أحداث شغب عنيفة مماثلة داخل الملاعب الرياضية أدت إلى إتلاف وتكسير التجهيزات، وأيضا أثناء مغادرة الملاعب ذاتها من خلال الاعتداء على ممتلكات الغير الخاصة والعامة، وعبر إتلاف وتهشيم كل ما يعترض سبيل المتسببين في هذه الأحداث.
 
شهدنا في السابق أحداث شغب عنيفة مماثلة داخل الملاعب الرياضية وخارجها أدت إلى إتلاف وتكسير التجهيزات والاعتداء على الممتلكات وحتى داخل مؤسسات تعليمية، حيث تعرض بعض الأساتذة إلى اعتداءات جسدية
 
كما سجلنا أحداثا مماثلة، ويا لها من مفارقة! على مستوى مؤسسات تعليمية، حيث تعرض بعض الأساتذة إلى اللكم من طرف تلامذتهم، لدرجة أن أي أستاذ لم يعد يجرؤ على منح تلميذ نقطة أقل من المعدل قبل أن يتهيأ جيدا لذلك من خلال "وضع خوذة واقية على رأسه أو ارتداء سترة مضادة للسلاح"...!!
 
فلمن يعود الخطأ يا ترى؟ ومن المسؤول سياسيا؟ فالمثل الذي يقول: "من يزرع الريح يحصد العاصفة"، له دلالته في هذه النازلة، حيث لمدة سنوات متتالية، تم إهمال وضعية الشباب والأطفال، ولا أحد، بالكاد، اهتم بمشاكلهم.
 
فالأسر لم تعد كما كانت في الماضي، تعنى بأطفالها على مستوى التأطير والتتبع، ولقد رأينا ذلك خلال تلك الأمسية المشؤومة، حيث تَوَاجَدَ أطفالٌ ضمن تلك الحشود البشرية، مما يجعلنا نتساءل: هل حقا لهؤلاء الأطفال مِنْ أسر تتكفل بهم فعلا؟!
 
كما أن المدرسة بدورها تراجعت ولم تعد تقوم بدورها التربوي والتأطيري، كما كان عليه الأمر من قبل، بما في ذلك تربية المتعلمين على القيم الأساسية من قبيل المواطنة والوطنية والتسامح والمسؤولية. ويبدو لنا كما لو أن المدرسة صارت موجودة فقط لـ"قتل الزمن"، مثلما يُقال.
 
الأحزاب السياسية لها أيضا نصيبها من المسؤولية، إذ إن الجمعيات الشبابية التابعة لها لا تبذل ما يكفي من جهد في تأطير الشباب وتعبئتهم حول الإشكالات التي تتعلق مباشرة بمعيشهم اليومي ومصيرهم.
 
في الوقت الذي كان ذاك الشاب الجَانِح والمُهمش يلعب بالمفرقعات ويهاجم قوات الأمن، كان هناك شباب آخر بدوره في الميدان، ولكن للقيام بعمل وطني من خلال المساهمة في مواجهة جائحة كوفيد-19، والمشاركة في حملات تحسيسية وتوزيع الكمامات على المعوزين
 
أخيرا، وليس آخرا: الدولة التي تتحمل الجزء الأكبر من المسؤولية، من خلال إهمالها للمشاكل الحقيقية للطفولة والشباب، بما يضمن الحد الأدنى المطلوب على صعيد التكوين، وخلق فرص الشغل الموجهة للشباب، وتوفير قاعاتٍ للرياضة والترفيه، ومَكتبات الأحياء، وقاعات المسرح، ومعاهد الموسيقى، وتعليم عمومي ذي جودة عالية، وقطاعات مختلفة للتسلية والإبداع... ففي الواقع، هذا الشباب تخلت عنه الدولة، بمفهومها الواسع، وسلمته للشارع وللمسجد!!
 
ليس في الأمر أيُّ لُغز... فكلما توفرت الشروط الموضوعية والذاتية، يتمكن شبابنا من تحقيق العجائب والمعجزات. ومن حسن الحظ أن مثل هكذا شباب موجود في الساحة، إذ في الوقت الذي كان ذاك الشاب الجَانِح والمُهمش يلعب بالمفرقعات ويشن هجوما على قوات الأمن، كان هناك شباب آخر بدوره في الميدان، ولكن لخدمة بلده والقيام بعمل وطني من خلال المساهمة في مواجهة جائحة كوفيد-19، والمشاركة في حملات تحسيسية وتوزيع الكمامات على المعوزين.
 
هناك فرق بسيط، ولكنه بليغ، يميز بين هذه الشريحتين من الشباب: هو الالتزام المبكر بالنشاط الجمعوي والسياسي. فبفضل هذا الالتزام استطاع هؤلاء الشباب أن يكتسبوا المناعة ضد كل أشكال الانحراف وضد الميول نحو العنف. حيث يمكن أن نتصورهم ثائرين وغاضبين، بل وحتى متشددين فكريا، ولكن لن يكونوا أبدا مُخربين أو خارجين عن القانون. لذلك لم يكن صدفة ولا عبثا أن عَرَّفَ الفيلسوفُ اليوناني أرسطو الإنسان بكونه "حيوان سياسي".
 
اقتصادي وأستاذ جامعي ووزير سابق