الغد 24 خبر الغد تقرأه اليوم
#

نوازل/الجائحة.. الحياة العارية


نور الدين العوفي
 
زمن الجائحة ينقسم إلى ثلاثة أزمنة، متلاحقة، متداخلة، متشابكة، ومتفاعلة.
 
في الزمن القصير، "اقتصاد الحرب" هو السمة البارزة لحياتنا في المدة الآنية، لا خيار. لا شيء ينبغي أن يعلو فوق المعركة، أو لا شيء ينبغي أن يُغْني عن الحرب الشاملة ضد الجائحة، حتى الاجتثاث الكامل للفيروس الظاهر الغابر.
 
في الزمن القصير والمتوسط، نحن في حاجة إلى ما يسميه جاك أتالي "اقتصاد البقاء"، أو بالأحرى الإبقاء على الحياة بالنسبة للأنشطة الاقتصادية الهشة، التي ليس بمقدورها الصمود أمام الإعصار. وهي نوعان: في جزء منها، أنشطة شكلية ومُنتجة في إطار المقاولات الصغيرة جداً، أو المقاولات الذاتية (أقل من 5 أشخاص، برقم معاملات يقل عن 3 ملايين درهم، وهي تمثل أزيد من نصف المقاولات المقيدة في السجل التجاري المركزي). وفي جزء آخر منها هي مقاولات غير شكلية، ومُدرَّة للدخل بالنسبة إلى شرائح واسعة من الفئات الفقيرة. ما قامت به الدولة من مساعدة لهذه الفئة، في إطار الصندوق الخاص بتدبير الجائحة، هو من صميم الواجب، الذي على الدولة الاضطلاع به في مثل هذه الأزمات الطارئة، غير المحسوبة. مساعدة ذات بعد اقتصادي واجتماعي في آن. لا خيار هنا أيضا سوى حَشدُ الموارد الضرورية، بسرعة ودون أدنى تردد، لإنقاذ ما يمكن، وما ينبغي إنقاذه.
 
في الزمن القصير والمتوسط، نحن في حاجة إلى ما يسميه جاك أتالي "اقتصاد البقاء" أو بالأحرى الإبقاء على الحياة بالنسبة للأنشطة الاقتصادية الهشة، التي ليس بمقدورها الصمود أمام الإعصار
 
"اقتصاد البقاء" يهم أيضا الأسر المعوزة، التي فقدت، تحت شروط الحجر الصحي، أسباب عيشها اليومي، والتي لا مُعيل لها سوى الدولة وما تتيحه العلاقة التضامنية، العضوية والأفقية، بين الموطنين، أفراداً ومجتمعاً مدنياً. هذا التدخل العمودي هو من أدوار الدولة الحامية، الذي لا يقل أهمية عن الوظائف الأخرى في الضبط الاقتصادي، وفي التخطيط الاستراتيجي. مبدأ الحماية والوقاية هو من الحقوق الثابتة للمجتمع التي على الدولة استيفاؤُها من الموارد العمومية، الجبائية بالخصوص. هي، من ثمة، ليست هبة ولا منَّة من أحد.
 
"اقتصاد البقاء"، مثله مثل "اقتصاد الحرب"، يتطلب، في ما يتطلب، شروطاً سياسية تَحُدُّ، إن قليلاً أو كثيراً، من الحريات المعتادة، كما يتطلب حضوراً أكثف، وانتشاراً أوسع لأجهزة الدولة عموماً، وللأجهزة الأمنية على وجه الخصوص. في الدرجات القصوى من "حالة الاستثناء" (كارل شميت، Carl Schmitt)، قد تتقلص "الحياة السياسية"، وتتحول إلى ما يسمُه الفيلسوف الإيطالي جورجيو أغامبين (Giorgio Agamben, Homo Sacer) بـ"الحياة العارية"، التي تكون أقرب من الوضعية الدنيا، البيولوجية، البدائية التي يصير فيها المواطن كائناً مجرداً من أبعاده الأخرى، كائناً بلا حقوق.
 
في الزمن المتوسط والطويل هناك حاجة ماسَّة إلى خطة للإنعاش الاقتصادي لكي يسترجع الاقتصاد عافيته ونشاطه ويستعيد "الكائن العاري" حقوقه السياسية والمدنية وتعود الحياة إلى مجراها
 
في الزمن المتوسط والطويل، هناك حاجة ماسَّة إلى خطة متوسطة المدى للإنعاش الاقتصادي تقوم على الطلب الفعَّال (الاستثمار + الاستهلاك) لكي يسترجع الاقتصاد عافيته ونشاطه، ويستعيد، من ثمة، "الكائن العاري" حقوقه السياسية، والمدنية، وتعود الحياة إلى مجراها. كما أن هناك حاجة أمَسُّ إلى خطة طويلة المدى، خطة استراتيجية من أهدافها العودة إلى الحياة العادية، العذبة والسائغة، ومن شروطها بناءُ الاقتصاد من جديد على أسٍّ الحياة الذي من لبناته الانتقال الإيكولوجي، والتحول الرقمي، والاستثمار في الإنسان الكامل.
 
في المدة الطويلة، "اقتصاد الحياة" هو الخلاص من "الحياة الجائحة"، وهو الطريق نحو "الحياة الحضارية"...
 
 
اقتصادي، أستاذ باحث