الغد 24 خبر الغد تقرأه اليوم
#

مداخل رئيسية لتجديد الثقة

 
يونس التايب
 
يشكل موضوع "تجديد الثقة"، في أبعادها المُجتمعية والمؤسساتية، وارتباطها بمسار تأهيل تدبير الشأن العام الوطني، وتحقيق المساواة والعدل وسيادة القانون، أهمية قصوى بالنظر إلى الظرف الدولي الحالي الذي يفرض علينا، بعد جائحة كورونا، أن ننتبه إلى التحديات المعقدة التي ستواجهها بلادنا، ونستوعب جيدا الخطط الجيوستراتيجية التي تنسجها قوى العالم.
 
لذلك، علينا أن نستبق نتائج "انعطافة تاريخية" سيشهدها العالم على المستويات السياسية والاجتماعية والاقتصادية والمالية والعسكرية والجيوستراتيجية والبيئية والديموغرافية والقيمية، بشكل غير مسبوق منذ الحرب العالمية الثانية. ومن الضروري، الوعي بأنه لا مصلحة في الاعتقاد بإمكانية حل المشاكل التي يعرفها واقعنا، عبر سياسة دفن الرأس في الرمل، أو التردد في تحمل أعباء مواجهة التحديات بروح استباقية واستشرافية. إذ ليس أفضل من حل مشاكل اليوم، بحكمة وهدوء، عوض التأخر في التحرك والمجازفة بترك المشاكل "تخماج"، والاضطرار للتصدي لها بارتباك وتخبط وجو من الصخب.
 
ليس أفضل من حل مشاكل اليوم بحكمة وهدوء عوض التأخر في التحرك والمجازفة بترك المشاكل "تخماج" والاضطرار للتصدي لها بارتباك وتخبط وجو من الصخب
 
ومساهمة في النقاش العمومي حول موضوع تجديد الثقة، أرى أن السبيل يمر عبر استنفار الوعي على المستوى الفردي والمجتمعي، وعلى المستوى المؤسساتي بالنسبة للهيئات التابعة للدولة وهيئات الوساطة السياسية والاجتماعية.
 
أما في شأن تعزيز الوعي وتغيير السلوكات الفردية والجماعية، رأيي أن ذلك يقتضي ما يلي:
– مصارحة الذات بحقيقة العيوب التي ترسخت في ممارساتنا الفردية والمجتمعية، والوعي بخطورة استمرار تلك العيوب.
– الاعتراف بالخلل الكبير بين السلوكات الفردية في المجال الخاص، وبين القيم والشعارات والأفكار التي نُروج لها في الفضاء العام، بشكل يحيل إلى ما يمكن أن نعتبره "سكيزوفرينيا" اجتماعية وثقافية وقيمية، تحتاج أن نتعاطى معها كحالة شبه مرضية قد تكون في حاجة إلى علاج ومواكبة.
– السعي إلى التغيير من داخل الذات الفردية أولا، عبر مساءلة القناعات التي نحملها، والمسارعة إلى لجم الأنا والحد من غرور الطموحات غير المُنضبطة للقانون وللمنطق العقلاني السليم.
 
على المستوى المؤسساتي، يتعين على كل الهيئات العمومية الممثلة للدولة، أن تبادر إلى إعطاء المثل اعتبارا لقوتها الرمزية، ولكونها هي من تمتلك شرعية سلطة الفعل العمومي وتطبيق القانون. ويتعين لهذا الغرض، المبادرة إلى:
– إعادة بناء التواصل مع المواطنين على أساس تعاقد أخلاقي جديد فيه التزام بتقديم خدمة عمومية بالجودة المفروضة.
– احترام المترفقين وتشجيع القرب منهم والأخذ باقتراحاتهم وملاحظاتهم.
– تطوير حكامة تدبير المال العام، وضبط تنفيذ المشاريع والصفقات العمومية بعيدا عن أي خلل قد يتسرب إلى ثنايا المقتضيات البيروقراطية، وبعيدا عن منطق "ما يتعشى غير اللي خالتو في العرس".
 
السعي إلى التغيير من داخل الذات الفردية عبر مساءلة القناعات التي نحملها والمسارعة إلى لجم الأنا والحد من غرور الطموحات غير المُنضبطة للقانون وللمنطق العقلاني السليم
 
أما المستوى المرتبط بهيئات الوساطة السياسية والاجتماعية، كالأحزاب والنقابات وجمعيات المجتمع المدني، وما فيها من نخب تساهم في تأطير المواطنات والمواطنين، مدنيا وحقوقيا وسياسيا، فعليها مسؤولية أخلاقية شديدة، ومسؤولية وطنية كبرى، تفرض عليها تصحيح صورة العمل الذي تقوم به، وتحقيق التصالح مع المواطنين، والانخراط في ديناميكية الإصلاح والإقلاع الشامل التي دعا إليها عاهل البلاد في خطاب العرش الأخير.
 
في رأيي، لن يتأتى تجديد الثقة إلا عبر:
– ضبط وترسيخ قاعدة التداول على المسؤوليات القيادية، في الأحزاب والنقابات والجمعيات، ومنع الجمع بين أكثر من مسؤولية انتدابية واحدة في نفس الوقت، وإقرار مبدأ التقاعد من المسؤولية السياسية والتنظيمية والنقابية، بما يحترم الطبيعة الديمغرافية للمجتمع المغربي الذي يعتبر الشباب كتلته الأكبر.
– اعتماد الديمقراطية الداخلية المبنية على احترام الاختيار الحر للمنخرطين والمناضلين، وليس على منطق صناعة الزعماء بالكولسة وشراء الولاءات وبيع الذمم وتشجيع الاصطفافات المصلحية.
– تجديد النخب والزعامات، وفتح الباب أمام جيل جديد من الأطر لتأخذ فرصتها وتتقدم أمام المغاربة في امتحان استرداد الثقة على أساس تعاقد سياسي وأخلاقي جديد.
– تجويد مضامين العرض السياسي الحزبي، والعرض النقابي، والمشروع الاستراتيجي الجمعوي، وتحيين المعرفة بالواقع وتحدياته الحقيقية، وفتح نقاشات عميقة مع المواطنين في كل مجال، وتشخيص انتظاراتهم وإشراكهم في بلورة أجوبة وحلول وبدائل رصينة للقضايا المجتمعية والسياسية، المطروحة على الجميع محليا وجهويا ووطنيا.
– حل الخلل الأخلاقي الكبير الذي يتجلى في استمرار الهوة بين واقع نخبوي تعيشه بعض القيادات السياسية والنقابية والمدنية، التي يسمع عنها الناس أخبار الجري وراء الريع والمنافع الخاصة، وبين تصريحات وحوارات إعلامية وخطابات جماهيرية تحمل حد التخمة حديثا مستمرا عن القيم وعن الشفافية والنزاهة، والدفاع عن مصالح المواطنين، بشكل "داخ معه الناس" لفرط ما فيه من جرأة تصل إلى نفاق سياسي لا يخفى على المواطنين، ويعزز لديهم الإحساس بعدم الثقة في تلك الهيئات. وأجزم أن مثل هذه السلوكات هي ما يجعل المواطنين ينفرون ويبتعدون عن العمل السياسي والنقابي والمدني، ولا يشاركون في قضايا الشأن العام الوطني اعتقادا منهم أن السياسيين والمنتخبين والنقابيين والجمعويين كلهم فاسدون. وهذا اعتقاد ظالم للشرفاء والنزهاء والوطنيين الذين يوجدون في كل الهيئات، وعددهم غير هين، أو لا يتحركون بالفعالية اللازمة كي يكون لهم تأثير على صورة مؤسساتهم وهيئاتهم.
 
ضبط وترسيخ قاعدة التداول على المسؤوليات القيادية ومنع الجمع بين أكثر من مسؤولية انتدابية واحدة وإقرار مبدأ التقاعد من المسؤولية السياسية والتنظيمية والنقابية
 
وأنا أقترح هنا ما أعتبرها مداخل أو نقط انطلاق إلى كسب رهان تجديد الثقة وتسهيل الإصلاح، أعي جيدا أن الأمر سيحتاج إلى وعي صحيح وإرادة صادقة للمواطنين، بالنسبة للشق المرتبط بالأفراد وبالمجتمع، وسيحتاج إلى إرادة حقيقية للفاعلين السياسيين والنقابيين والجمعويين، بالنسبة لهيئات الوساطة السياسية والاجتماعية.
 
ولا شك، ما سيحدث الفارق هو توفر إرادة سياسية تستطيع فرض تجديد ترسانة القوانين لتعزيز الحكامة، وفرض تحديث عقلاني لآليات التدبير العمومي، وعصرنة أنظمة الوساطة السياسية والاجتماعية وربط بقائها بديمقرطية اشتغالها، والانتقال إلى أشكال تدبير عمومي جديد يحترم ذكاء المواطنين ويتشارك معهم لصناعة المستقبل.
 
ولأن الأمر يحتاج إلى وقت كاف، واعتبارا لكوننا نقترب من استحقاق انتخابي كبير وحاسم، أصبح من اللازم على الأفراد والهيئات والمؤسسات أن تتحرك بسرعة وتستنفر القوى لإطلاق ديناميكية وعي جديد يسير بنا نحو استعادة المواطنين، وأساسا الشباب، للثقة في ذواتهم وفي المجتمع وفي مؤسسات الدولة. ذلك شرط مستعجل لتحقيق الإقلاع الشامل الذي نطمح إليه، خاصة وأن تنزيل نموذج تنموي جديد، ستتضح ملامحه قريبا، سيحتاج منا تعبئة وطنية استثنائية لتجاوز العجز المسجل في عدة قطاعات، واستلهام الروح الاستباقية الإيجابية التي أبانت عنها الدولة المغربية بتوجيه من قائد البلاد، واستثمار الفرص الكثيرة التي ما زالت متاحة لنا في فضاء عالمي معقد.
 
إعلامي ومتخصص في الحكامة الترابية