هل يقبل البيجيدي بالمراجعة الجذرية لعقائده ومواقفه؟
الكاتب :
سعيد الكحل
سعيد الكحل
على هامش الدعوة التي وجهها بعض المثقفين إلى التنظيمات الإسلامية لإجراء مراجعة جذرية تشمل الأسس الفكرية والإيديولوجية التي تأسست عليها، أقدم هذه المساهمة المتواضعة لشرح وتوضيح صعوبة إن لم تكن استحالة الإقدام على مراجعة عميقة وجذرية.
مرت الآن 24 سنة على التحاق أعضاء حركة التوحيد والإصلاح الدعوية بحزب الحركة الشعبية الدستورية الديمقراطية الذي أسسه الدكتور الخطيب منتصف ستينيات القرن العشرين بعد انشقاقه عن الحركة الشعبية، وشاركوا في مؤتمره الاستثنائي سنة 1996، الذي انعقد لهذا الغرض وانتخبوا في هياكله المقررة. وفي سنة 1997 خاضوا غمار الانتخابات التشريعية وفازوا بتسعة مقاعد فتحت لهم باب المؤسسة التشريعية لممارسة العمل السياسي من داخل مؤسسات الدولة. وفي سنة 1998 قرر المجلس الوطني (برلمان الحزب) تغيير اسم الحزب ليصبح "حزب العدالة والتنمية". هذه المدة الزمنية (24 سنة) التي قضى الحزب ثلثيها في المعارضة والثلث الآخر على رأس الحكومة لتدبير الشأن العام، المفروض أن تواكبها حركة فكرية ونقدية داخل الحزب تثمر مراجعات مهمة على مستوى العقائد الإيديولوجية، تصوره للدولة، تعامله مع المؤسسات الدستورية، أهدافه من المشاركة السياسية، مدنية الدولة وتشريعاتها... لكن لا شيء من هذا حدث، إذ ظل الحزب وفيا لمنطلقاته التي تشكل مناط وجوده، ويأتي على رأسها:
ــ الدفاع عن الدين وحمايته؛
ــ تمثيل الإسلام والنطق باسمه؛
ــ أسلمة الفرد والأسرة والمجتمع والدولة؛
ــ الدفاع عن هوية الشعب وقيمه الدينية الإسلامية ضد التغريب؛
ــ ممارسة الرقابة على مؤسسات الدولة وتشريعاتها ومدى انسجامها مع الشرع الإسلامي.
فحزب العدالة والتنمية هو الأداة السياسية للحركة من أجل أجرأة هذه المنطلقات والعقائد وتطبيقها عبر دخول المؤسسات المنتخَبة واستغلال الآلية الديمقراطية. إذ جعل الحزب من أهداف وجوده ومشاركته السياسية "الاشتغال على قضايا المرجعية والهوية" بما تعنيه من أسلمة القوانين وإلغاء كل ما يراه الحزب والحركة أنه "مناف" للشريعة كما يتصورانها. لهذا قرر الحزب في مؤتمره السادس أن يمارس الرقابة "الدينية" على الدولة ومؤسساتها، ومن ثم على الحياة العامة من داخل المؤسسات المنتخبة وما تتيحه الآليات الديمقراطية. هكذا نقرأ في أطروحة المؤتمر6 (على أن الاشتغال على قضايا المرجعية والهوية والقضايا الأخلاقية وجب أن يتم ضمن آليات الاشتغال وأدوات الخطاب السياسي أي باعتبارها من قضايا السياسات العمومية مما يقتضي التركيز على مقاربتها مقاربة قانونية وتشريعية ورقابية. فمقاربة الحزب لقضايا الهوية والأخلاق تتم بترجمتها إلى إجراءات عملية ومقترحات مفصلة مع آليات التنفيذ، وهو ما يعني اقتراح سياسات عمومية في إطار برامج سياسية تطرح ديمقراطيا ضمن المؤسسات المنتخبة ذات الصلاحية). فالحزب، وفق أطروحته هذه، هو في خدمة الحركة وأهدافها التي ليس من ضمنها دعم أسس الدولة المدنية ومؤسساتها المنتخَبة ودستورها المتوافق حوله. ذلك أن غاية الحزب والحركة هو "إقامة الدين" على مستوى المجتمع والدولة. وتقصد الحركة، في ميثاقها، بإقامة الدين على مستوى المجتمع والدولة (إقامة الدين على مستوى المجتمع يعني أن تنضبط هذه المؤسسات: المنزل والمدرسة والجامعة والمستشفى والسينما والسوق والمسرح والمسجد والشارع والمقهى والنادي والفندق والحديقة والمتجر والإدارة والمزرعة والمصنع والطريق والسجن وغيرها) أن تنضبط هذه المؤسسات بأحكام الإسلام وأن يكون من فيها ملتزمين بأحكام الإسلام في أنفسهم وعلاقاتهم ومعاملاتهم) .هكذا تتجاهل الحركة ومعها الحزب دستور البلاد وقوانينها، بل يناهضان كل البنود التي لا تنسجم مع استراتيجية "الأسلمة"، سواء خلال مرحلة المعارضة أو أثناء رئاسة الحكومة (مناهضة مشروع خطة إدماج المرأة في التنمية، مناهضة المواثيق الدولية الخاصة بحقوق النساء، الاعتراض والتنديد بقرار حكومة عباس الفاسي رفع التحفظات عن الاتفاقيات المتعلقة بالقضاء على كل أشكال التمييز ضد المرأة، وخاصة مقتضيات المادتين 9 و16 من الاتفاقية، مناهضة المساواة ومناهضة تجريم زواج القاصرات وتجريم العنف الزوجي، المصادقة على "عهد حقوق الطفل في الإسلام" الذي تتعارض كثير من بنوده مع حقوق الطفل في بعدها الدولي والاتفاقيات التي صادق عليها المغرب..) .
فهل يمكن للحزب أن يضع هذه المنطلقات موضع نقد ومراجعة؟ إن الممارسة السياسية للحزب، سواء في المعارضة أو على رأس الحكومة، تثبت أن مواقفه لم يطرأ عليها أي تغيير. فهو مخلص لها مهما تغيرت منزلته. في هذا الإطار، قطع سعد الدين العثماني الشك باليقين بالجواب التالي المنشور بجريدة “أخبار اليوم”، الاثنين 28 يناير 2019: "حزبنا يبني عمله السياسي على رؤية واضحة ولا يجب أن نخطئ، قد نغير الوسائل لكن لن نغير المبادئ". ولم يتردد في استبعاد أية مراجعة للمرجعية الإسلامية للحزب "منذ البداية قلنا إن حزب العدالة والتنمية حزب سياسي وطني ينطلق من المرجعية الإسلامية، ويعمل في إطار الثوابت الوطنية، من خالف ذلك فقد خالفها، ولن نلوي عنقها لتتلاءم مع أهواء أي إنسان كان... لن نلوي عنق مرجعيتنا لتتلاءم مع أهواء الناس.. ولن نحابي أحدا".
إن مرجعية الحزب، إذن، تعلو على مرجعية الدولة والشعب، وهو الدستور. والتشبث بمرجعية الحزب و"سموها" على الدستور والقوانين أمر محسوم في أدبيات الحزب ومقرراته التي تعتبر المرجعية إياها أساس تميّز أعضائه. هذا ما تؤكد عليه مثلا أطروحة المؤتمر السادس للحزب (وتفريط الحزب في التأكيد على تعزيز الارتباط بالمرجعية الإسلامية من شأنه أن يفقد إحدى المقومات الأساسية الضامنة لتميز أعضائه). لعل الخطير في هذا التأكيد والتأطير الإيديولوجي هو جعل العضو لا يميز بين عضويته في الحزب والحركة وبين مسؤوليته في مؤسسات الدولة. فهو يتصرف في الوضعين معا كعضو وممثل للحزب، لا يراعي مقتضيات الدستور والقانون وثقافة المجتمع بقدر ما يطبق ويتصرف وفق ما تنص عليه أدبيات الحزب وعقائده الإيديولوجية حتى وإن كان مخالفا للدستور وللقانون (إطلاق أسماء لرموز التكفير والإرهاب على شوارع بعض المدن التي يسيرها الحزب، إصدار قانون يمنع الاختلاط في صالونات الحلاقة والتجميل بمدينة فاس التي يسيرها الحزب لولا تدخل والي جهة فاس مكناس فألغى القانون لتعارضه مع الدستور، محاولة الفصل بين الجنسية على مستوى النقل الحضري بالرباط، الفصل بين الجنسين على مستوى شبابيك مكاتب تصحيح الإمضاء واستصدار الوثائق الإدارية ببلدية تمارة التي يسيرها الحزب، منع دخول مقر بلدية تمار بالسروال القصير، طرد صحافيات من داخل البرلمان بحجة لباسهن "غير المحترم"...). طبعا هذه الممارسات ليست حالات منعزلة، بل هي تدخل ضمن استراتيجية أسلمة المجتمع والدولة عبر وضع تشريعات من داخل المؤسسات المنتَخَبة ؛ أي توظيف الآلية الديمقراطية ومؤسسات الدولة لخدمة استراتيجية الحزب والحركة كما تنص أطروحة المؤتمر6 (على أن الاشتغال على قضايا المرجعية والهوية والقضايا الأخلاقية وجب أن يتم ضمن آليات الاشتغال وأدوات الخطاب السياسي، أي باعتبارها من قضايا السياسات العمومية مما يقتضي التركيز على مقاربتها مقاربة قانونية وتشريعية ورقابية. فمقاربة الحزب لقضايا الهوية والأخلاق تتم بترجمتها إلى إجراءات عملية واقعية ومقترحات مفصلة مع آليات التنفيذ، وهو ما يعني اقتراح سياسات عمومية في إطار برامج سياسية تطرح ديمقراطيا ضمن المؤسسات المنتخبة ذات الصلاحية).
إذن، استراتيجية الأسلمة وضعتها حركة التوحيد والإصلاح وينفذها حزب العدالة والتنمية بتوظيف المؤسسات الدستورية نفسها. وهذا ما تشدد عليه حركة التوحيد والإصلاح التي تجعل ميثاقها يسمو على الدستور (دعم مبدأ إسلامية الدولة باعتباره معطى تاريخيا ومكسبا دستوريا ومبدأ غير قابل للمراجعة وإعطاؤه مصداقية في الحياة العامة، بحيث يعلو على جميع بنود الدستور ويكون منطلقا في الحكم على دستورية القوانين والأحكام التي تصدرها المؤسسات التشريعية والقضائية والتنفيذية. إن الإقرار بإسلامية الدولة يقتضي اتخاذ الشريعة مصدرا أعلى لجميع القوانين كما يعني من الناحية العملية بطلان جميع القوانين والتشريعات والسياسات التي تتعارض مع الشريعة الإسلامية) (الرؤية السياسية ـ حركة التوحيد والإصلاح). وهدد الحزب والحركة في أكثر من مناسبة بالنزول إلى الشارع والالتحاق بحركة 20 فبراير إذا لم تتم تلبية مطالبهما: دسترة إسلامية الدولة، عدم التنصيص على حرية الاعتقاد في الدستور..
وإذا كانت مرجعية الدولة هي دستور مدني ينص في ديباجته على سمو المواثيق الدولية في مجال حقوق الإنسان على القوانين الوطنية، وكذا يقر بمنظومة حقوق الإنسان كما هي متعارف عليها دوليا، فإن الحزب والحركة يتخذان لهما مرجعية مخالفة ومتنافية مع مرجعية الشعب المغربي. ولم يخن عبد الإله بنكيران لسانُه حين أقر في مهرجان خطابي من تنظيم شبيبة الحزب ،صيف 2016، بمدينة أغادير حين قال: (يا معشر القوم أنتم لا تفهمون مرجعيتنا، مرجعيتنا هي مرجعية ابن تيمية، وهو الذي علمنا أن نقول أن جَنتي في صدري، أحملها معي أينما ذهبت فسِجني خلوة، ونفيي سياحة، وقتلي شهادة). فمرجعية الحزب، حسب أمينه العام السابق لا تؤمن بالاحتكام إلى الدستور والخضوع إلى القانون واحترام المؤسسات، بل تؤمن بمبادئ مرجعية ابن تيمية التي هي التكفير، الولاء والبراء والجهاد .وتجدر الإشارة إلى أن الحركة أعلنت في ميثاقها عمن يكون حليفها ومن لا يكون كالتالي (إن ابتغاء وجه الله تعالى والدار الآخرة هو مفرق الطريق بيننا وبين أصحاب المشاريع الدنيوية الذين يريدون الحياة الدنيا ويجعلونها هدف كفاحهم ونضالهم).
فلا غرابة، إذن، أن يجعل الحزب والحركة عقائدهما الإيديولوجية فوق الدستور والقانون. ذلك أن الحركة الأم هي من وضعت الميثاق الذي يحكمها ويحكم الحزب ويحدد له أهداف مشاركته السياسية وانخراطه في مؤسسات الدولة "واهتمامنا بالمجال السياسي نابع من إيماننا الجازم بأن للإسلام حكمَه في كل شأن من شؤون الحياة علِمه من علِمه وجهِله من جهله، ونابع من كون السياسة تتداخل مع حياة الناس اليومية وتوجه أفكارهم واهتماماتهم وتعبئهم وتشجعهم ضد أشياء أو لصالح أخرى، ولا يجوز إبعاد الإسلام عن الشأن العام وقد أنزله الله تعالى شاملا كاملا ليحكم الواقع الإنساني عامة وخاصة".
على مدى ثماني سنوات والحزب يقود الحكومة، لكنه ظل وفيا ومتمسكا بإستراتيجية الأسلمة رغم ما صرح به بعض قادته منهم بنكيران، الذي قال في حوار لفائدة ماروك سوار في ندوة "90 دقيقة للإقناع" بتاريخ 11/8/2008 (أولا نحن حزب سياسي، صحيح أن مرجعيتنا إسلامية، وعبر الحركة الإسلامية ولجنا باب السياسة، لكن الذي حدث هو أننا عندما باشرنا العمل السياسي، وجدنا أن مشاكل المغرب، تكمن في التدبير، وليس في تغيير الجو، وتكمن في البطالة والتعليم والقضاء والصحة والإدارة، صحيح عندما تكون بمفردك تنظر إلى الأمور من زاوية إيديولوجية، ولكن عندما تباشر العمل السياسي، إذا لم تتوفر على حلول لهذه المشاكل، عليك بالانصراف). فحتى بنكيران، وهو رئيس الحكومة لم يلتزم برأيه هذا وسمح لوزير العدل والحريات حينما مصطفى الرميد بتقديم مشروع القانون الجنائي يحرض على قتل النساء، بحيث خفض عقوبات جرائم الشرف من الإعدام أو المؤبد إلى شهور قليلة وقد تكون موقوفة التنفيذ .بينما وزير الاتصال حينها مصطفى الخلفي حاول اسلمة وسائل الإعلام الرسمية مائة بالمائة، إذ جاء بدفتر تحملات لقي مقاومة من داخل المؤسسة ومن بعض الأحزاب داخل البرلمان (إلغاء نشرة الأخبار بالفرنسية، الإكثار من البرامج الدينية، التحكم في اختيار ضيوف البرامج الحوارية، وفي نوع السهرات الأسبوعية (احتج الخلفي على بث سهرة الفنانة لوبيز)؛ فاكتفى بحذف وصلات إشهار الحظ وفرض إذاعة الأذان.
إن مطالبة حزب العدالة والتنمية وحركة التوحيد والإصلاح بالمراجعة الجذرية لعقائدهما الإيديولوجية معناه مطالبتهما بتغيير جلدهما والتخلي عن "الأصل التجاري" الذي يُكسبهما أصوات الناخبين. فالهيأتان معا، كجزء من تيار الإسلام السياسي الذي هو بتعريف الباحثة الإيطالية لاورا غواتزوني (إيديولوجيّة إسلاميّة معاصرة تطرح رؤى إصلاحيّة بقصد إرساء نظام إسلامي لتسيير الدولة والمجتمع). ولجوء الحزب إلى التخفيف من مواقفه المتشددة من عدد من القضايا لا يرجع إلى قناعة مبنية على مراجعة فكرية، وإنما إلى قوة النظام ومؤسسات الدولة. وسيظل الحزب والحركة يناوران من أجل التغلغل في مفاصل الدولة واختراق المؤسسات الدستورية وتحويلها إلى أدوات لخدمة استراتيجيتهما، ومن ثم الالتفاف على الدولة المدنية وإقامة دولة الشريعة.
باحث مغربي متخصص في الإسلام السياسي والتنظيمات المتطرفة والإرهاب