كابوس الشغب.. حين كانت الكرة تربية وقيم وأخلاق وحين تحوّلت إلى "بيزنس" للبيع والشراء
الكاتب :
الحسين بكار السباعي
الحسين بكار السباعي
لم أكن يوما متابعا بشغف لكرة القدم، رغم أنني ما زلت أتذكر، حينما كنا صغارا نمازح الكرة في حارتنا، ونزعج الجيران ليضطر أحدهم للدفع بنا نحو الجري...
كان ذلك عندما كانت كرة القدم مجرد لعبة نناقش ثمن شرائها كرة "ميكا"، أو نختلق حيلة "عاون الفرقة" لتحقيق حلم شراء "ميكازا" بداية ثمانينيات القرن الماضي، كانت لعبة مرح وفرح لملء الفراغ، ولإنعاش الروح والبدن، بعد الخروج من الحجرات الدراسية.
وعندما كنا نخلع "توني" اللاعبين ونبقى بلباس المتفرّجين، كنا نملأ جنبات الملعب حماسا، نفرح أحيانا ونغضب أحيانا أخرى، بحكم معادلة الانتصار والهزيمة، لكن الروح الرياضية هي التي كانت تحكمنا وتتحكّم في أهوائنا، وحتى إذا ما انفلتت منا حينا، سرعان ما كنا ننجح في لجمها حتى لا تتعدى حدودها، فلا تستطيع أن تحوّلنا من لاعبين ومتفرجين رياضيين إلى أوباش مشرملين...
ذلك ما كان في ذلك الزمن الجميل...
واليوم، وبعد أن أصبحت لعبة تحكمها قواعد وقوانين جديدة، واستثمارات مالية ضخمة، أصبحت قوة ناعمة للدفع بجلب العملة الصعبة.
في مجتمعنا، لم يكن الأمر بهذه السلاسة، بل ارتبط بعقلية تهدف، من جهة، إلى تطوير اللعبة، ومن جهة أخرى، إلى سن تشريعات لضبط الجمهور وتأطير "الألطراس" أو جمعيات المشجعين، التي أصبحت تلعب دورا محوريا في صناعة الفرجة، بل أكثر من ذلك جعلت منها مصدر ومورد دخل الكثيرين، من خلال إنتاج وبيع وترويج منتوجات مختلفة بألوان الفرق وشعاراتها...
غير أن كابوس الشغب، والعنف الرياضي عموما، ما زال يخيم على سماء لعبة كرة القدم، في مختلف بقاع العالم، ولعل أحداث الشغب التي وقعت في ملعب الأمير مولاي عبد الله في العاصمة الرباط، بين جمهور فريقين عريقين في كأس بطولة وطنية "الفار" (الجيش الملكي) و"الماص" (المغرب الفاسي)، أبانت بالملموس أننا بين جمهور "دخيل" وبعيد عن الكرة وعن الاحترافية وروح الرياضة، وبين الجمهور المحب للعبة المتشبع بالأخلاقيات الرياضية...
تساقطت الأحجار مدرارا من كل مكان، جري وركل، وسب وشتم، كر وفر، سرقة هاتف صحافية ونجاتها بأعجوبة من اعتداء محتمل، إصابة في صفوف قوات الأمن، من شرطة وقوات مساعدة، وتطاول خطير وغير مسبوق على هبة الدولة، إنها الصورة القاتمة، التي نقلتها مختلف وسائل الإعلام الوطنية والدولية، ليبقى السؤال مطروحا بقوة وبإلحاح: لماذا كل هذا العنف؟ ومن أين أتى كل هذا الشغب؟ ومن المسؤول عنه؟
أسئلة عديدة تنتظر أجوبة مقنعة، فكل هذه الأحداث، إلى جانب أخرى مرتبطة بهزيمة المنتخبات الوطنية، وبفشل السياسات الرياضية، وبالأموال الباهظة التي يتلقاها المدربون، والأموال التي تصرف دون حسيب ورقيب في الفنادق والإقامات الفارهة، دون انتباه لمن يصنع هذه الفرجة، ومن هم في عمق هذه الفرجة، اللاعب رقم 12!!!
أسئلة تجعلنا، كذلك، ندعو إلى وقف المهزلة، وندعو إلى الانتباه إلى كل أشكال الشغب والتخريب الصامت، التي أصبحت تنخر مجتمعنا، كما تنخر الأردة الخشب عبر السياسات الفاشلة، والخطط الاقتصادية المبنية على الاحتكار والريع والجشع، والتي لا تراعي حماية القدرة الشرائية للمواطن، وعبر إعلام التفاهة والمحسوبية والرشوة والعبث بالمال العام، إنه شغب صامت وسرطان وجب استئصاله عبر الحرص على فرض سلطة القانون، وربط المسؤولية بالمحاسبة، والدفع بمختلف محفزات التنمية للحد من الفوارق الاجتماعية والمجالية، والاشتغال عميقا على التربية والتكوين، لخلق الإنسان المواطن، وكذا لخلق ثقافة بديلة ومنشودة تنبني على الروح الرياضية...
عذرا للجماهير الوفية الخلوقة، المشجعة الغيورة على الوطن، لقد بتنا على لسان الجميع، شد وجذب بين زياش ومزواري، وبين مدرب المنتخب، تسريب الدعوات، والأحداث الاخيرة، كل تلك الأمور تنبئ بأننا لسنا على الطريق الصحيح، أن عنف الملاعب بدأ يقلقنا، أن الكواليس تقتل الروح فينا...
أذكُر أنني شاركت، قبل حوالي سبع سنوات، في ندوة حول عنف الملاعب، وقلت، من بين ما قاله المشاركون، إن كرة القدم تربية، كما كانت قديما في الألعاب المدرسية، فالمدرسة هي التي تعلمنا لعب الكرة، احترام المنافس، تشجيع الفريق، الاحتفال بالانتصار، وتقبل الهزيمة، لكن كرة القدم اليوم في المغرب، مجرد أرقام مالية في "بيزنس" كل ما يحكمه هو منطق البيع والشراء، بلا حسيب ولا رقيب...
محام وحقوقي وباحث في الإعلام والهجرة وحقوق الإنسان