الغد 24 خبر الغد تقرأه اليوم

سعيد ناشيد: الفاعل السياسي والفاعل الاقتصادي في الأفق الدولي.. معادلة نزال غير عادل

 
سعيد ناشيد
 
إن كانت الدول الغربية قد بدأت تضعف أمام صاعدين جدد، فذلك ليس فقط بسبب موقفها المتخاذل من الأصوليات القروسطية أو اليمين المتطرف، أو حساباتها الخاطئة مع الصين وروسيا، وفي الشرق الأوسط، وهذا كله صحيح، لكن الأصح أيضا أن هناك اختلالا كبيرا داخل منظومة الغرب نفسه، يتعلق الأمر بهزيمة الفاعل السياسي أمام الفاعل الاقتصادي في نزال غير عادل.
 
من نتائج هزيمة الفاعل السياسي أمام الفاعل الاقتصادي ضعف فاعلية الدولة، وفاعلية الأحزاب، ومن ثم ضعف الفكر السياسي والأفكار السياسية، ما يقود إلى إفراغ الديمقراطية من فاعليتها، والنقاش العمومي من أهميته، داخل عالم تسيطر عليه الأوريغارشيات والشعبويات، وهذا هو واقع الحال اليوم
 
من نتائج ذلك، ضعف فاعلية الدولة، وفاعلية الأحزاب، ومن ثم ضعف الفكر السياسي والأفكار السياسية، ما يقود إلى إفراغ الديمقراطية من فاعليتها، والنقاش العمومي من أهميته، داخل عالم تسيطر عليه الأوريغارشيات والشعبويات، وهذا هو واقع الحال اليوم. لذلك، تبدو الفوضى المعولمة بمثابة الشبح الحقيقي الذي يطل برأسه على كل بقاع العالم اليوم. الفوضى أشد من الحرب، قياسا على أن (الفتنة أشدّ من القتل) وفق الخطاب القرآني.
 
يطلب منا المال أن نوفر له شرطين، الحرية والأمن. غير أن الأمن يقتضي بعض القيود التي قد لا تتحملها الحرية. ثم إن المال قد لا يتورع عن التضحية بالأمن جزئيا أو كليا لأجل حرية جزئية أو كلية. والمعضلة هي أن نترك الكلمة العليا للمال.
 
المال مثل العلم، وإن شئت فقُل مثل الدين أيضا، ضروريات للمجتمع، لكن الكلمة العليا لا يجب أن تكون لهم بأي حال من الأحوال، إذ لا يجب أن تكون الكلمة العليا للتكنوقراط، أو الثيوقراط، أو الأولغارشية، فهؤلاء يشتغلون في بعض التفاصيل، والتفاصيل تأتي بعد بناء الرؤية الإجمالية، أو هكذا يُفترض. ما قاله هيدجر عن العلم من أنه لا يفكر، هو أكثر انطباقا على المال الذي بدوره لا يفكر. إن العقل الذي يفكر لهو العقل السياسي، صاحب الرؤية، والاستراتيجية، والتواصل، والمصلحة العامة، وفن الممكن، أو هكذا يفترض. إن العقل السياسي لهو عقل الدولة في النهاية، وحين يضعف الفاعل السياسي يضعف عقل الدولة.
 
لعل الرأسمالية الجديدة، الرأسمالية المتمحورة حول المال والمضاربات المالية، تكنّ للدولة عداء غريزيا، وهو العداء نفسه الذي تكنه الإيديولوجيات الشعبوية للدولة، والذي بدأ يستفحل منذ لحظة ريغن وتاتشر، إلى درجة التحالف مع بعض الإيديولوجيات القروسطية لغاية تفكيك دول حديثة درءا لبذور التوتاليتارية الكامنة في منطق الدولة كما يزعم منظروهم من اليمين واليسار على حد سواء! ذاك ما يبرر أن أمريكا لا تشهر ملف حقوق الإنسان إلا في وجه الدول التي لا تحرر اقتصادها كما ينبغي، أو لا تتساهل مع الانفصال كما ينبغي، وتكون بعض المنظمات الحقوقية الدولية من التابعين، ويا للأسف!
 
الرأسمالية الجديدة، المتمحورة حول المال والمضاربات المالية، تكنّ للدولة عداء غريزيا، وهو نفسه الذي تكنّه الإيديولوجيات الشعبوية للدولة، ذاك ما يبرر أن أمريكا لا تشهر ملف حقوق الإنسان إلا في وجه الدول التي لا تحرر اقتصادها كما ينبغي، وتكون بعض المنظمات الحقوقية الدولية من التابعين، ويا للأسف!
 
الصين دولة غير ديمقراطية، لكن فاعلية الدولة هناك قوية، وهو ما ترفضه الرأسمالية الجديدة لدواع إيديولوجية. الوضع نفسه في روسيا التي يهيمن عليها نوع من رأسمالية الدولة. هنا تكمن ملامح الانقسام الدولي الجديد في بعده الإيديولوجي، أي الموقف من الدولة. في المقابل تمثل أمريكا أضخم آلة ديمقراطية وانتخابية في العالم، تقريبا كل المؤسسات هناك منتخبة، غير أن ذلك كله بدأ يفقد معناه بسبب ضعف الدولة، وخضوع الفاعل السياسي للفاعل الاقتصادي.
 
نقد بذور التوتاليتارية الكامنة في الدولة الحديثة، جهد مثمر، فقد أثمر حقوقَ الأقليات بما لها وما عليها، غير أن إبادة تلك البذور نهائيا يضعف الدولة أو يقبرها. والعبرة في ذلك ما قالته العرب قديما (إذا زاد الشيء عن حدّه انقلب إلى ضده).
 
ضعف الفاعل السياسي أمام الفاعل الاقتصادي هو الاختلال البنيوي، الذي يجعل أحزابا يسارية جذرية مثل سيريزا في اليونان، وبوديموس في إسبانيا، رغم كل النوايا الصادقة، تقف عاجزة، حتى بعد امتلاكها للسلطة، ذلك أن السلطة أصبحت بلا قوة، طالما تتحكم المؤسسات المالية العالمية في الينابيع. لكن هل تَحرّرَ ذلك اليسار الأوروبي من الرؤية الاستعمارية؟ وإلّا ما الذي يزعج بوديموس في وحدة الأرضي المغربية مثلا؟ رغم ذلك لم نتحدّث عن سبتة ومليلية وجزر الخالدات، أو ليس بعد!
 
هناك معادلة أدركها تروتسكي قديمًا، ونسيها الرفاق الجدد: إما أن نتحرّر كلنا أو سنبقى كلنا مستعبدين. وقبل ذلك هناك مسألة أخرى حسمها فلاسفة الحداثة: لا يمكن أن يعيش البعض على حساب البعض الآخر. على الأقل، لن يدوم ذلك الأمر طويلا.
 
المعركة هي نفسها في كل مكان من العالم، إنها معركة الإنسانية جمعاء ضدّ المديونية العالمية، ضدّ الجنات الضريبية، ضدّ فوضى المضاربات المالية، وضدّ إملاءات الأبناك الدولية التي أضعفت الدول مقابل هيمنة الأوليغارشيات والشعبويات. المعركة هي نفسها في كل مكان لأجل رد الاعتبار للفاعل السياسي، للدولة، للحزب، وللفكر السياسي. فيا أيها اليسار من رآك؟!
 
المعركة هي نفسها في كل مكان من العالم، ضدّ المديونية العالمية، ضدّ الجنات الضريبية، ضدّ فوضى المضاربات المالية، وضدّ إملاءات الأبناك الدولية... المعركة هي نفسها لأجل رد الاعتبار للفاعل السياسي، للدولة، للحزب، وللفكر السياسي. فيا أيها اليسار من رآك؟!
 
قبل أيام، دعا الميلياردير الأمريكي إيلون ماسك، وهو الرجل الأغنى في العالم، الرئيس الروسي فلاديمير بوتين إلى "نزال فردي رجل لرجل"! كثير من الجنون هنا، وكثير من الحقيقة أيضا. والحقيقة هي أن النزال بين رجل قوة المال ورجل قوة الدولة قائم، ولم ينته بعد، وكل ما في الأمر أن رجل المال انتصر في الجولة الأولى، بيد أن للجولات بقية.
 
نريد الديمقراطية! يمكن قولها في وجه روسيا والصين، غير أن إضعاف الدولة لا يخدم الديمقراطية! وهذه يمكن قولها في وجه أمريكا والغرب. هنا يكمن المبدأ الذي يجب أن يعقله كل الذين اختاروا عدم الانحياز في حروب الكبار، ولعلهم أحيوا بذلك النحو بذور فكرة "دول عدم الانحياز".
 
صعود الدب الروسي، أو التنين الصيني، لا يعني البكاء على الديمقراطية، فعند نقط التوازن قد تقف الأشياء. كما أن نقط التوازن الكبرى تتيح للفاعل السياسي أن يستعيد فاعليته، وهذا هو الرهان الذي يدركه البعض، وسيفيد الجميع، أو هذا هو المأمول.
 
مفكر مغربي وباحث مختص في قضايا التجديد الديني