الغد 24 خبر الغد تقرأه اليوم

عز الدين بونيت: توضيح واعتذار ومشاكسة... حول الهاتف وربه

 
عز الدين بونيت
 
أود أن أبدأ بتوجيه الشكر لكل من يتحمل عناء قراءة منشوراتي والتعليق عليها بالثناء أو بالنقد أو باللوم. وأعبر عن اعتزازي بكل التفاعلات مهما كان محتواها، لأنها تعبر، في نظري، عن التقدير الذي يحمله المتتبعون لما أنشر، قبولا أو رفضا. وهذا مدعاة تحمسي للعودة في كل مرة إلى هذا الفضاء الساحر.
 
تعرضت لوابل من التوبيخ واللوم بعد منشوري السابق حول الهاتف وتطبيق "مسار"، لأنني -كما فهم الموبخون اللائمون- نعتت الأساتذة بـ"الصبيان". وأعتبر هذا التوبيخ رد فعل جديرا بالتقدير، لأنه يؤشر على علاقة صحية وحيوية ومتفردة بين طرفي الكتابة (الكاتب والقارئ). فكثير من التعليقات جاءت تحمل بصمة هذه العلاقة الممتدة التي لا تكتنفها مجاملة أو مهادنة، بل تطبعها المصارحة والتوقير المتبادل.
 
وفي هذا الإطار، أؤكد أنني لم أنعت أحدا بـ"الصبيانية"، وليس من سلوكي ولا من طرقي في الحوار والنقاش أن أستعمل النعوت التي لا تعمل سوى على إغلاق باب الحوار. والمنشور ما زال كما هو شاهدا على ذلك، ولم أغير منه حرفا واحدا.
 
رابط المقال/المنشور المذكور عن الهاتف وتطبيق "مسار"
 
حين استعملت كلمة الصبيانية، كنت أتحدث عن ردود الفعل حول التطبيق، وليس عن الأساتذة. وكتبت حرفيا أنني أخجل من نعت ردود الفعل هذه بالصبيانية. ولم أستعمل كلمة "أخجل" عبثا، أو من باب الإسهال اللفظي، بل لأبين أنني ألجأ إلى نعت الصبيانية على مضض وبمرارة.
 
وكنت -وأنا أكتب- أعتبر أن الأساتذة ليسوا قراء عاديين، بل محترفون في القراءة، يعلمونها لتلاميذهم، ويتحرون دقة الفهم، ويدركون ظلال المعاني، ويحسنون التأويل والشرح. وأكثرهم هم بالفعل كذلك.
 
لكنني شعرت بالأسى وأنا أقرأ التعليقات والتعقيبات التي استهجنت هذا النعت واستفاضت أحيانا في ملاعبته، لتُظهر أنني تهجّمت على الأساتذة واحتقرت نباهتهم. ومبعث هذا الأسى هو أن أولئك الزملاء الذين كنت أحسن الظن بمهارتهم القرائية، خذلوني حين لم يتريثوا في قراءتهم ولم يُعيروا أهمية لدقة القراءة، التي ينبغي أن توازي في العادة دقة العبارة، حتى يحصل التفاهم والفهم المرادان.
 
ومع ذلك، وجبرا لكل ضرر أو إساءة غير مقصودين، وغير صادرين عني قطعا، فإنني أعتذر بحرارة لكل من فهم أنني انتقصت من شخصه بتلك العبارة. وأؤكد له أن فهمه ذلك مخطئ، وناتج ربما عن عدم الاستعداد لسماع رأي مخالف. فمعذرة مرة أخرى، وأتمنى على جميع المتضررين مما كتبته، أن يعيدوا قراءة الفقرة الأولى من منشوري السابق في ضوء هذه التوضيحات، ويحكموا بعد ذلك.
 
هذا عن التوضيح والاعتذار.. أما عن المشاكسة فليتحملني الزملاء مرة أخرى.
 
كل من يتتبع منشوراتي يعرف أنني أدعو دائما إلى عدم الانجرار السهل وراء كل موجة. ولن أحيد عن هذا النهج في قضية الهاتف والتطبيق..
 
من خلال التعقيبات على منشوري السابق، لاحظت أن هناك معلومة متداولة بين جميع المتدخلين، عليها بني الموقف من تطبيق مسار. وتقضي هذا المعلومة بأن وزارة التربية الوطنية تفرض على الأساتذة تحميل التطبيق على هواتفهم الخاصة. ومستندهم في هذه المعلومة هو مذكرة يزعم أنها صادرة عن أوساط في الوزارة. وعند فحص هذه المذكرة (ذلك الفحص الذي لا يأخذ من يتداولونها الوقت الكافي للقيام به، قبل الاعتماد عليها في صياغة ردود أفعالهم)، نجد أنها تخص المديرية الإقليمية بالرباط وليس عموم المغرب؛ وهي ليست موجهة إلى الأساتذة، بل إلى المديرين، تطلب منهم القيام بعدد من المهام، ليس من بينها قطعا أي أمر للأساتذة بتنزيل التطبيق على هواتفهم. ولذلك أجدني مستغربا، مرة أخرى، كيف يتساهل الأساتذة إلى هذا الحد في فحص وقراءة ما يقع تحت أنظارهم من الوثائق، قبل تكوين رأيهم المستقل، بعيدا عن الشائعات، وعن الآراء الموحى بها.
 
لحد الآن، وحسب علمي، لا يوجد في المغرب ولا في غيره من البلدان، أي قانون يفرض على المواطنين استعمال تطبيقات أو آلات بعينها. وحسب علمي، فإن المسؤولين الحكوميين يعلمون هذه الحقيقة، ويعلمون أن الدستور يتضمن مبدأ أساسيا، هو أن التكاليف مهما كانت طبيعتها، لا يمكن إحداثها إلا بالقانون. والقانون اختصاص حصري للسلطة التشريعية، أي البرلمان. لهذا من العبث أن يفكر أي وزير في إحداث تكليف غير قانوني، من قبيل فرض تحميل تطبيقات على المواطنين. ولو فعل ذلك فهو لا يستحق مهمته.
 
بأي وصف يمكن أن نصف تصديق بعض الأساتذة دون تريث لشائعة مهزوزة، دستوريا وقانونيا؟ أترك للقراء اقتراح الوصف الذي يرونه ملائما. كيف يتخيل بعض الأساتذة هذه الدولة ومسؤوليها؟ وكيف يفهمون العلاقات بين المؤسسات الدستورية واختصاصاتها. هل يظنون أن كل القرارات ممكنة الحدوث برغم استحالتها الدستورية والقانونية وعدم معقوليتها؟ ألهذا الحد يستطيعون توقع العبث؟
 
لما كان من غير المعقول توقع صدور أمر مهني مخالف للقانون، يصبح الموقف الذي بني على شائعة غير معقولة، موقفا بلا موضوع. لا يوجد لحد الآن أمر مهني موثق يلزم الأساتذة بتحميل تطبيق بعينه على هواتفهم الخاصة. ومن المستحيل قانونيا أن يصدر مثل هذا الأمر (إلا إذا أصيبت الدولة بالحمق أو العطب العقلي). ولو صدر مثل هذا الأمر، فسيكون غير راشد، ويكون مطعونا فيه، ولاغيا من تلقاء نفسه.
 
وعليه، فلا معنى في رأيي للاعتراض على شيء غير وارد. وهنا يتحول مدار النقاش، من نقاش حول استعمال الهاتف الشخصي لفائدة العمل، إلى نقاش حول جدوى استعمال تطبيق إجرائي أو عدم استعماله.
 
تطبيق مسار، كما يفهم من النقاش، هو تطوير رقمي يهدف إلى تسهيل الولوج إلى منصة مسار، بديلا تكميليا لطريقة الولوج السابقة التي كانت تكتنفها صعوبات وبطء. ولذلك، من كان لا يريد الاستفادة من هذه التسهيلات التكنولوجية فلا أحد يجبره على ذلك. ما عليه إلا أن يبحث عن وسيلة اخرى للولوج إلى منصة مسار التي أضحت جزءا لا يتجزأ من أدوات عمله، ولا يمكنه التملص منها تحت طائلة الخطأ المهني.
 
ما نناقشه، إذن، لم يكن هو أحقية أي كان في عدم استعمال هاتفه، بل وجاهة موقف الامتناع وحجيته. لأنه في هذه الحالة موقف لن يصمد أمام أي منطق.
 
ليسمح الزملاء أصحاب هذا الموقف، لأنفسهم، بفرصة النظر إلى الموضوع من زاوية أخرى؟ لماذا تقتني أيها الزميل أي آلة (هاتفا، أو سيارة، أو آلة غسيل...)؟ أليس من أجل استعمالها في احتياجاتك اليومية، وتسهيل ما يعترضك من صعوبات؟ الآن، أجب نفسك عن هذا السؤال: هل تعتبر عملك جزءا من حياتك أم من حياة الدولة والوزارة؟ هل تعتبر أنك تصير ملكا للوزارة أثناء قيامك بعملك أم تظل ملكا لنفسك؟ لماذا تقارن نفسك بالشرطي ورجل السلطة وعمال الشركات، في هذه النقطة؟ أحقا لا ترى أي فرق بينك وبين كل هؤلاء؟
 
شخصيا، أعتبر عملي جزءا من حياتي وليس من حياة الدولة، ولا أعتبر نفسي ملكا للدولة أثناء قيامي بعملي، بل أظل حرا في وعيي وفكري وسلوكي. ومن موقع حريتي هذه، أحاول أن أتقن عملي وأحسن القيام به. لا أسمح للعمل أن يشيّئني، ولا أسمح لنفسي بتشييء عملي.
 
لهذا أرفض الانضمام إلى أي موقف ينتهي عمليا بتشييئي أو تشييء عملي. وأتطلع إلى أن يشاركني في ذلك كل العاملين. نعمل من أجل الحياة وليس العكس. لا فرق في ذلك عندي بين أستاذ الابتدائي أو الثانوي أو العالي، ولا بين الأستاذ والطبيب والعامل الزراعي. ولا أعترف بالتغطية "الشوفينية" الفئوية التي يسعى بعض المتشنجين إلى فرضها على تناول موضوعنا المشترك الحالي.
 
أتمنى أن تكون وجهة نظري قد اتضحت لك الآن.
 
كاتب وباحث ومخرج مسرحي