الغد 24 خبر الغد تقرأه اليوم

الرمزية التاريخية والدينية لـ"آيا صوفيا"

د. وليد الشوملي
 
تعود تسمية بيزنطة التي أطلقت على الإمبراطورية الرومانية الشرقية إلى اسم مستعمرة إغريقية قديمة اسمها "بيزنطون" أسسها عام 660 ق. م. قائد يوناني اسمه بيزاس Byzes على ضفاف خليج البسفور.
 
وقد شرع أول إمبراطور بيزنطي وهو قسطنطين الأول أو الكبير ببناء عاصمته الجديدة هناك عام 324 للميلاد وقام بتدشينها لتكون "روما الجديدة" عام 330م، حيث كان لديه دوافع استراتيجية وسياسية واجتماعية ودينية لبناء المدينة، وذلك لموقعها الاستراتيجي المهم بين الشرق والغرب وبين قارتي آسيا وأوروبا، ولتكون بديلاً لروما الوثنية.
 
بعد تأسيس دولة تركيا العلمانية قفزت وطورت نظامها التعليمي وتقدمت  تكنولوجيا وصناعيا وكان لفصل الدين عن الدولة أثر كبير في دفع عجلة التقدم
 
 
وقد تبنت بيزنطة اللغة اليونانية وتأثرت بالثقافة الهيلنستية بدلاً من اللاتينية التي كانت رائجة في روما عاصمة الامبراطورية الرومانية الغربية. وقد حدثت تلك التطورات بعدما أصدر قسطنطين مرسوم ميلانو عام 313م الذي سمح فيه لأول مرة للمسيحيين بحرية العبادة بعد الاضطهاد الذي تعرضوا له قبل ذلك التاريخ.
 
وقد حدث الانقسام السياسي بين الشطرين: الشرقي البيزنطي والغربي للامبراطورية الرومانية إثر وفاة الإمبراطور ثيودوسيوس الأول عام 395م حيث تم تقسيمها بين ولديه أركاديوس الذي أصبح إمبراطوراً في القسطنطينية، وهونوريوس الذي أصبح إمبراطوراً على قسمها الغربي حيث كان مقره ميلانو. وبالرغم من ذلك الانقسام السياسي فقد بقيت الامبراطوريتين متحدتين كنسياً حتى حدوث الانشقاق الكبير عام 1054م وانقسام الكنيسة إلى شرقية أرثوذكسية بيزنطية وأخرى كاثوليكية غربية، نتيجة تراكم الخلافات السياسية والدينية، أهمها: الخلاف حول من يستحق رئاسة المرجعية الكنسية العليا، وقضية تبجيل الإيقونات وزواج رجال الدين ومسألة انبثاق الروح القدس (حيث تصر الكنيسة الشرقية على أنه منبثقٌ من الأب فقط وليس من الأب والابن).
 
أما كاتدرائية آيا صوفيا فإنها تعد رمز الكنيسة البيزنطية الشرقية، حيث تم تشييدها عام 537م من قبل الإمبراطور جوستنيان على الطراز البيزنطي الرائع الذي ما زال ماثلا للعيان حتى يومنا هذا. وقد سميت آيا صوفيا تيمنا بالقديسة صوفيا. وأصبح البناء أكبر كاتدرائية في ذلك الوقت ورمزاً للكنيسة البيزنطية الشرقية. وبقيت آيا صوفيا تستخدم ككنيسة حتى سقوط القسطنطينية عام 1453م على يد القائد العثماني محمد الفاتح الذي حولها إلى مسجد. وبقي البناء يستخدم كمسجد حتى عام 1934م حيث حولها باني جمهورية تركيا الحديثة والعلمانية مصطفى كمال أتاتورك إلى متحف.
 
بخصوص تحويل متحف آيا صوفيا إلى مسجد يكون أردوغان طعن في الرمزية التاريخية والدينية للمكان وأتقن ازدواجية الخطاب في التعامل مع الغرب ومع العرب الذين يستعلي عليهم
 
 
وبهذا تكون الامبراطورية البيزنطية قد استمرت لمدة (1123) عاما متواصلة، وتكون بذلك قد حققت الإمبراطورية الأطول عمراً في التاريخ البشري.
 
لقد ناشد الامبراطور البيزنطي قسطنطين الحادي عشر البابا نقولا الخامس والدول الغربية لمساعدته وصد هجمات العثمانيين إلا أنه لم يلق استجابة، لا بل قام تجار إيطاليا الكاثوليك بتزويد العثمانيين بالمدافع وخرائط لاختراق أسوار المدينة، وذلك انتقاما من تحالف البيزنطيين مع العثمانيين قبل أكثر من قرنين من الزمن ضد الفرنج الكاثوليك وحملاتهم الصليبية الذين عاثوا فساداً في القسطنطينية. وعندما يئس الإمبراطور من الغرب توجه الشعب إليه قائلا: "عمامة العثماني أفضل من تاج البابا"، وقد دافعوا عن مدينتهم لآخر مقاتل، وارتكبت المجازر هناك حتى أن الامبراطور نفسه قتل في المعركة. وقد استطاع الكثير من المفكرين والعلماء والمهندسين والفنانين الهرب الى الغرب وإلى إيطاليا على وجه الخصوص، حيث أدت إسهاماتهم المتعددة هناك الى إغناء منجزات عصر النهضة الذي كان قد بدأ قبل قرن من ذلك الزمن.
 
اعتبر أردوغان آيا صوفيا بداية المشروع الإسلامي الكبير متجاهلاً علاقاته الحميمية مع إسرائيل وأن لجان العمل المشتركة على  تطوير الصواريخ والمسدسات لم تتوقف يوما واحدا
 
 
لقد كانت الحضارة البيزنطية آنذاك أرقى بكثير من تلك العثمانية التي حلت محلها، وعندما وقعت بلادنا تحت الاحتلال العثماني لم يبذلوا جهداً لتطوير أي مجال من مجالات الحياة. وبالمقابل وبعد تأسيس دولة تركيا العلمانية عام 1923 من قبل مصطفى كمال أتاتورك قفزت تركيا قفزة نوعية وطورت نظامها التعليمي وتقدمت على الصعيدين التكنولوجي والصناعي. إذن فصل الدين عن الدولة كان له أثر كبير في دفع عجلة التقدم في ذلك البلد كما حدث في بلدان أوروبا الغربية قبل قرون من الزمن.
 
أما بخصوص الإقدام على تحويل متحف آيا صوفيا إلى مسجد، فيكون أردوغان قد طعن في الرمزية التاريخية والدينية للمكان. كما أتقن ازدواجية الخطاب في التعامل مع تلك المسألة، حيث استخدم الأسلوب الرقيق والاعتذاري مع الغرب وطمأنهم أن المكان سيبقى مفتوحاً للجميع، وتوجه إلى العالم الإسلامي وخاصة العالم العربي، الذي ينظر هو نفسه إليه نظرةً استعلائية طورانية، توجه إليه بخطاب آخر مختلف تماما، هذا فبالإضافة إلى تنصله من الاتفاقيات الدولية مع اليونسكو باعتبار آيا صوفيا جزءاً من التراث الإنساني. وقال أيضاً إن تلك ما هي إلاّ خطوةٌ لتحرير الأقصى وكأن به يقول إن ذلك هو بداية المشروع الإسلامي الكبير، متجاهلاً العلاقات التركية الحميمية مع إسرائيل، وأن لجان العمل المشتركة بينهما والمتعلقة بتطوير الصواريخ والطائرات المسيرة والمسدسات، لم تتوقف يوماً واحداً. فبعد صدّه عدة مرات من دخول الاتحاد الأوروبي، قرر أردوغان التوجه نحو الشرق الإسلامي كي يصبح "سيداً على أبواب مكة من أن يركع ذليلاً على أبواب بروكسل". لقد قدم أردوغان بقراره هذا هدية على طبقٍ من ذهب لإسرائيل وأعطاها الذريعة بمحاولة إقامة هيكل سليمان المزعوم تحت باحات المسجد الأقصى المبارك.
 
قرر أردوغان التوجه نحو الشرق الإسلامي ليصبح "سيدا على أبواب مكة من أن يركع ذليلا على أبواب بروكسل" مقدما لإسرائيل الذريعة لإقامة هيكل سليمان تحت باحات المسجد الأقصى
 
 
ونوجه السؤال التالي لأردوغان: لماذا أبقى المسلمون على كنيستي المهد والقيامة كأماكن عبادة للمسيحيين؟ ولماذا جاءت العهدة العمرية التي كتبها الخليفة عمر بن الخطاب لبطريرك القدس صفرونيوس؟ ولماذا جاءت العهدة النبوية التي كتبها الرسول محمد لرهبان دير سانت كاترين في سيناء؟
 
لقد علمنا التاريخ الكثير من شواهد التلاحم الإسلامي المسيحي كان أبرزها ما حدث في كانون الثاني 1937، عندما حضر أعضاء اللجنة الدولية إلى مدينة أنطاكيا للتحقيق في قضية سلخ لواء الإسكندرون السوري وضمه الى تركيا. فقد خطط سكان المدينة، مسلمون ومسيحيون، لمظاهرة عارمة بعد صلاة الجمعة، إلا أن الأتراك قاموا بغلق المساجد في خطوة استباقية لمنع القيام بتلك المظاهرة. فما كان من رؤساء الكنائس إلا أن فتحوا كنائسهم ليصلي فيها المسلمون ويرفعون الأذان، ثم خرج الجميع في أروع تظاهرة وطنية في تاريخ سوريا لمنع انسلاح لواء الاسكندرون وتأكيد عروبته.
 
وكان يمكن لأردوغان أن يسطر أرقى معاني التآخي بين الديانيتين لو سمح للمسيحيين بالصلاة في إحدى ردهات آيا صوفيا بجانب المسلمين على أقل تقدير، أو بتخصيص وقتٍ لا يتداخل مع أوقات صلاة المسلمين، كما هو الحال في كاتدرائية مسجد قرطبة.
 
وأخيرا نتساءل: لماذا لم تقم حروب أو صراعات دينية إلا بين أتباع الديانات الإبراهيمية، هل لأن إلههم واحد وأن صراعهم هو صراعٌ بين الأنبياء في السماء؟ وهل نحن بذلك نحقق نظرية صموئيل هنتغتون حول صراع الحضارات، أم نحقق نبوءة الفيلسوف الفرنسي المعاصر مالرو الذي قال: "القرن الواحد وعشرون سيكون دينيا أو لا يكون"؟
 
كاتب فلسطيني من بيت لحم مختص في تاريخ الحضارات