الغد 24 خبر الغد تقرأه اليوم

رهانات هولدينغ إعلامي وتحديات الخدمة العمومية

 
د. جمال المحافظ
 
بإعلان الحكومة، في بداية الأسبوع الجاري، عن مشروع إنشاء "هولدينغ إعلامي جديد" يضم كلا من الشركة الوطنية للإذاعة والتلفزة، والقناة الثانية، وميدي 1 تيفى، يكون الفضاء السمعي البصري، مرشحا للدخول في منعطف قد يكون جديدا، وستكشف الأيام المقبلة، بعد تنزيله، مدى نجاعته وقدرته على توفير معايير الجودة والمهنية والتنوع والتنافسية، وتدعيم قيم الديمقراطية والمواطنة والاستقلالية التحريرية.
 
ويهدف هذا "المشروع الحكومي" المعنون بـ"استراتيجية تنمية السمعي البصري العمومي الجديد"، الذي قدم خطوطه العريضة الثلاثاء الماضي (25 ماي 2021)، وزير الثقافة والشباب والرياضة، عثمان الفردوس، أمام لجنة التعليم الثقافة والاتصال بمجلس النواب إلى الجمع بين شركة "صورياد دوزيم" و"ميدي 1 تيفي" تحت لواء الشركة الوطنية للإذاعة والتلفزة، باعتبارها شركة قابضة، وهي مناسبة لطرح قضية الإعلام السمعي البصري العمومي مرة أخرى باعتباره قاطرة للصحافة والإعلام، وأداة رئيسة لتنشيط النقاش العمومي في الميادين السياسية والاجتماعية والثقافية والفنية...
 
مشرع إعلامي في "الوقت الميت" من الزمن الحكومي
 
إلا أن ما يثير الاستغراب أولا طرح هذا المشروع في "الوقت الميت" من الزمن الحكومي، وعلى بعد بضعة شهور من الاستحقاقات الانتخابية المقررة في شتنبر المقبل، وثانيا كون هذه المؤسسات الإعلامية كان يتعين تقييم مدى جدواها ومردوديتها الاقتصادية والمهنية وتقويم الاختلالات التي تعتريها على مستوى التدبير والتسيير وتأهيلها بعد ذلك حتى تتمكن من انضمامها إلى الهولدينغ الذي عادة ما يتألف من منشآت ناجحة وذات فعالية.
 
ما يثير الاستغراب أولا طرح هذا المشروع في "الوقت الميت" من الزمن الحكومي، وعلى بعد بضعة شهور من الاستحقاقات الانتخابية، وثانيا كون المؤسسات الإعلامية المعنية كان يتعين تقييم مدى جدواها ومردوديتها الاقتصادية والمهنية وتقويم اختلالاتها في التدبير والتسيير وتأهيلها بعد ذلك حتى تتمكن من انضمامها إلى الهولدينغ الذي عادة ما يتألف من منشآت ناجحة وذات فعالية
 
بيد أن العجز المالي المزمن الذي تعاني منه هذه المؤسسات الإعلامية، يعود في جانب منه إلى غياب نموذج اقتصادي، يضمن استمراريتها، وتقارير المجلس الأعلى للحسابات وتوصيات إعادة هيكلة الإعلام السمعي البصري العمومي، ساهمت في التعجيل بتنزيل هذا المشروع الذي يأتي في ظل ظرفية خاصة، منها ما أفرزته جائحة كوفيد 19 المستجد، من دروس وأولويات، من ضمنها أهمية الإعلام العمومي، بدليل أن "ما يقارب 90 في المائة من المغاربة، فضلوا القطاع السمعي البصري الوطني، كمصدر للمعلومات موثوق بها"، حسب إحصائيات حديثة للمندوبية السامية للتخطيط.
 
ونظرا للدور الحيوي للمواد الإخبارية في الإعلام العمومي، تقرر أن تتحول "ميدي 1" إلى قناة إخبارية متخصصة في خدمات الأخبار والبث المباشر (لايفات) على شكل القنوات العالمية، التي يتابعها المغاربة بشغف كبير، مع دمج راديو ميدي 1 وريجي 3 (فرعها بنسبة 100 في المائة) في القطاع العام، وهو ما سيرفع عدد قنوات القطب العمومي إلي 10 قنوات بعد إضافة Medi1tv.
 
إعادة هيكلة القطب العمومي بتصور مهني واضح
 
غير أنه إذا كانت عملية "إعادة هيكلة القطب العمومي"، ترمى إلى "تحسين المنتوج، والتركيز على إعلام القرب والمحتوى المحلي، وتسريع التحول الرقمي، والحفاظ على التمويل العمومي"، كما يستفاد من المشروع، فإنه سيكون مفيدا فتح نقاش عمومي تشارك فيه كافة الأطراف المتدخلة والمعنية بالشأن الإعلامي والثقافي، وذلك وفق تصور مهني واضح، يضع نصب عينيه تثمين الموارد البشرية، وبناء القدرات في مهن الإعلام والاتصال الجديدة، وربط المسؤولية بالمحاسبة، واعتماد الكفاءة والاستحقاق، باعتبار ذلك أحد السبل الكفيلة بتحقيق النقلة النوعية التي يتطلبها إعلامنا السمعي البصري العمومي، حتى يكون في مستوى التحديات المطروحة في الزمن الرقمي، ويستجيب بالتالي لتطلعات الجمهور لإعلام وطني يوفر حاجياته في ميادين الإخبار والتثقيف والترفيه، ويشكل دعامة لتنشيط النقاش العمومي، عوض استعمال الإعلام وسيلة للدعاية التي عفا عنها الزمن، وتجاوزتها المتغيرات التكنولوجية وطنيا ودوليا.
 
إعادة هيكلة القطب العمومي تتطلب فتح نقاش عمومي يضع نصب عينيه تثمين الموارد البشرية، وربط المسؤولية بالمحاسبة، واعتماد الكفاءة والاستحقاق، حتى يستجيب لتطلعات الجمهور في الإخبار والتثقيف والترفيه وتنشيط النقاش العمومي، عوض استعمال الإعلام وسيلة للدعاية التي عفا عنها الزمن وطنيا ودوليا
 
وتزامن طرح هذا المشروع الإعلامي الجديد، مع تقديم تقرير النموذج التنموي الجديد، الذي شدد في بعض خلاصاته وتوصياته على أهمية دور الإعلام كأداة للإخبار والنقاش العام وتحيين السياسة العمومية للاتصال من أجل تحديد نطاق المرفق العام لوسائل الإعلام، وتحديد الحكامة وطرق التمويل التي يجب، حسب تقرير لجنة شكيب بنموسى، أن تسمح باعتماد نموذج اقتصادي، تتوفر له فرص الاستمرار وأن يشكل إطارا فعالا للتعاون مع الحكومة واستقلالية التسيير، ومواكبة تحوله الرقمي، والتحفيز على الابتكار والجودة مع تقوية العرض الإعلامي الجهوي.
 
الاستقلالية المهنية وضمان التعددية والتنوع الثقافي
 
وإن كانت الخدمة العمومية في الإعلام، تقتضى توفر عنصرين أساسيين، هما حرية التعبير والحق في الخبر، فإن وسائل الإعلام السمعية البصرية، تكون في هذه الحالة، مطوقة، وبحكم القانون، بالالتزام بمبادئ الاستقلالية المهنية، وضمان التعددية والتنوع الثقافي واللغوي والمجالي، وهو التوجه ذاته الذي كرّسه دستور 2011، حينما خصص، ولأول مرة، ثلاث مواد للصحافة والإعلام، منها ما نص عليه في الفصل 25، حينما أكد على ضمان حرية الفكر والرأي والتعبير وكفالتها بكل أشكالها، والتزام السلطات العمومية بدعم وتنمية الإبداع الثقافي والفني (الفصل 26) مع الالتزام بتقديم مادة إعلامية متوازنة ومحايدة تحترم الموضوعية والخصوصية، كما هو مسنون في الفصل 27، الذي شدد على ضرورة أن تساهم السلطات العمومية في تحديد القانون لقواعد تنظيم وسائل الإعلام العمومية ومراقبتها، والتأكيد كذلك على أهمية الحصول على المعلومات، باعتبارها حقا لا يمكن تقييده إلا بمقتضى القانون، والتنصيص أيضا على أن حرية الصحافة مضمونة لا يمكن تقييدها بأي شكل من أشكال الرقابة القبلية، علاوة على أن للجميع الحق في التعبير، ونشر الأخبار والأفكار والآراء بكل حرية، ومن غير قيد.
 
فعلى الرغم من أهمية هذه المقتضيات الدستورية، فإن الإعلام العمومي ظل بصفة عامة يراوح مكانه، وبقي السمعي البصري، رغم كل المجهودات المبذولة، منشطرا بين إكراهات الهيمنة الرسمية وتحقيق الخدمة العمومية.
 
القطب العمومي الجديد مطالب
باستحضار نمط استهلاك المواطنين للمحتوى
 
وزاد من تفاقم هذا الوضع، التحديات التي فرضتها الثورة الرقمية والإنترنيت التي تقدم تقنياتها للمواطنات والمواطنين، حرية اختيار واسعة للوسيلة الإعلامية التي يرغبون في متابعتها، وهو ما حذا، على ما يبدو، بوزير الثقافة والشباب والرياضة، إلى مطالبة القطب العمومي الجديد باستحضار التحولات التكنولوجية، ونمط استهلاك المواطنين للمحتوى، خاصة وأن أكثر من 75 في المائة من الفيديوهات التي يشاهدها المغاربة على منصة "Youtube يوتوب" لا يبحثون عنها بأنفسهم، بل هي من صميم اقتراح هذه المنصة الرقمية، كما أن 84 في المائة من المواطنين يستخدمون تطبيق الواتساب Whatsapp، فيما يوجد 15 مليون مغربي على "أنستغرام" Instragram و99،7 في المائة من الأسر تتوفر على إمكانية الوصول إلى أزيد من 1200 قناة.
 
إصلاح الإعلام العمومي يظل مطلبا مشروعا يقتضي توفير عدة شروط منها ضمان انفتاح أكبر على مختلف الحساسيات السياسية والاجتماعية والفكرية والثقافية الوطنية وإعمال مبدأ الحق في الخبر، مع تقديم منتوج جيد، يساهم في تثقيف المواطن، والمساهمة في التربية على قيم المواطنة وحقوق الإنسان، وتنمية الثقافة الوطنية بتعدد مكوناتها وغنى روافدها
 
وإن كان الإعلام السمعي البصري الوطني تمكن، إبان جائحة كوفيد 19 المستجد، من استعادة زمام المبادرة بالتصالح مع الجمهور، وهو ما كشفته هيئات قياس المشاهدة والهيئة العليا للاتصال السمعي البصري (الهاكا)، فإن إصلاح الإعلام العمومي وتنميته، يظل مطلبا مشروعا، ويقتضي من جملة ما يتطلب توفير عدة شروط منها ضمان انفتاح أكبر على مختلف الحساسيات والتوجهات السياسية والاجتماعية والفكرية والثقافية الوطنية وإعمال مبدأ الحق في الخبر، مع تقديم منتوج جيد، يساهم في تثقيف المواطن وتوعيته والارتقاء بمستوى الذوق العام، والمساهمة في التربية على قيم المواطنة وحقوق الإنسان، وتنمية الثقافة الوطنية بتعدد مكوناتها وغنى روافدها...
 
التغيير المنشود في الإعلام يحدث عبر مناهج بيداغوجية
 
فالتغيير المنشود في الإعلام العمومي، يجب أن يحدث عبر مناهج بيداغوجية، وأن يتم بواسطة الإقناع، وإقرار "إعلام الحقيقة" الذي كان يعتبره محمد العربي المساري وزير الاتصال ما بين 1998 و2000 في النسخة الأولى لحكومة التناوب، هو ذاك الذي نكف فيه عن التنويم والتعتيم، ولسان الخشب، والتأمل بالمقابل في مفهوم المادة الخبرية، باعتبارها كل معطى يساعد الجمهور على التفاعل بكيفية واعية مع محيطه. إلا أن السمعي البصري لحد الآن "سار دائما وأبدا على إيقاع تقلبات الوضع السياسي، مطوقا بعدم الاحتكام إلى المنطق والقوانين والمفاهيم التي تسير هذا المرفق العمومي"، حسب قول المساري (1936 – 2015).
 
هل سيتمكن مشروع "الهولدينغ" الجديد من تقديم الإضافة المطلوبة في مشهدنا الإعلامي العمومي، وأن يتلاءم السمعي البصري مع مقتضيات دستور 2011، والتحولات التي يعرفها قطاع الاتصال، بفضل التقدم التكنولوجي، وتحقيق التغيير المنشود في قطاع راهن عليه الجميع منذ المناظرة الوطنية الأولى للإعلام والاتصال في مارس 1993 بالرباط، ومرورا بالحوار الوطني حول الإعلام والمجتمع سنة 2010؟؟؟ أسئلة ستظل كما كانت مشرعة، ستجيب عنها الأيام المقبلة بالتأكيد...
 
كاتب وإعلامي مغربي