الغد 24 خبر الغد تقرأه اليوم

مصطفى لمودن: في الحاجة إلى البحث عن بدائل ممكنة لتحرير المغرب من التهريب والمهربين

 
مصطفى لمودن
 
أول مرة زرت شمال المغرب كان سنة 1980، إثر الاستفادة من مخيم نظمته ودعمته إحدى الجمعيات، بعدما جئت الأول في قسمي نهاية التعليم الإعدادي.. وقد أقمنا بطنجة.
ونظمتْ لنا الجمعية زيارة لمارتيل وللفنيدق خلال يوم كامل.. ولم تكن حينها هاتان المدينتان سوى تجمع سكاني صغير.
منذ ذلك اليوم أثار انتباهي حجم تهريب السلع.. وذلك الكم الهائل والمتنوع منها المعروض في الفنيدق..
ونظرا لفقري المذقع، اكتفيت بالتفرج واقتناء قنينة عطر صغيرة لأمي، من ذلك النوع الذي كانت بداخلها وردة بلاستيكية تسبح في السائل العطري..
وعدت إلى الفنيدق سنة 1986 بعدما شرعت في العمل كمدرس بالعالم القروي. نزلت من القطار في محطة طنجة، التي كانت بجانب الميناء.. في باب المحطة كوكبة من سيارات الأجرة الزرقاء تنتظر من سيتحول إلى الفنيدق.. وكذلك كان بالنسبة لي.. وقد قطعت السيارة طريقا ضيقا وملتويا للوصول إلى الفنيدق، قبل ظهور ميناء طنجة المتوسطي..
يا لهول ما رأيت.. آلاف المغاربة يخرّبون اقتصاد المغرب يوميا..
كل من له يد في انتقال السلع المهربة من سبتة إلى باقي المدن ينال نصيبا لصالحه الشخصي.
قد لا يصدق أحد عندما يعلم أن الدولة ظلت تمنح مأذونيات النقل للحافلات والسيارات الخفيفة خدمة للتهريب..
فتجد مثلا انطلاقة مئات الحافلات من تطوان إلى مختلف المدن، والجميع يعلم أن مهمتها الأساسية نقل التهريب والمهربين..
حتى إنه كان يقال، حينذاك، إن ما يخسره المغرب في مجال التهريب يفوق مدخوله من بيع الفوسفاط!
ومن المستفيد؟
أول مستفيد إسبانيا وتجار سبتة ومليلية.. حتى أن هاتين المدينتين تساهمان في اقتصاد إسبانيا بعائد ضريبي مهم عوض أن تكونا عالة عليها ومكلفتين.
كما ظهرت مدن تدور في محور سبتة كمدينة القصر الكبير.. وقد تحولت إلى معبر "آمن" للسلع المهربة من كل الأصناف.. تصلها السلع عبر الطرقات وعبر مسالك صعبة على ظهر الدواب..
كان شبه مستحيل في الثمانينيات أن يحصل مغربي على جهاز إلكتروني كالتلفزة الملونة بدون الاستعانة بالتهريب..
شملت السلع المهربة جل ما يحتاجه المغاربة، مثل مواد التنظيف والملابس وأواني المطبخ والأطعمة (الحلويات، البيسكوي، الشكلاط، التوابل...)، الأغطية، قطع الغيار، العجلات، زيت المحرك، الإلكترونيك... إلخ.
أينما ذهبت تجد السلع المهربة، في الدكاكين، على الأرصفة، في الأسواق الأسبوعية..
أصبح عدد لا يحصى من المغاربة مرتبطين باقتصاد التهريب.. عائلات تمارس التهريب، ونساء يتنقلن من مختلف المدن لجلب السلع.. بينما غرق المغرب في العجز التجاري والديون الخارجية التي لم يعد حينذاك قادرا على سدادها، ودخوله في سياسة التقويم الهيكلي التي كانت تعبيرا عن أزمة خانقة..
أصبح وجهةَ من لا وجهة له الشمالُ المغربي، وخاصة التجمعات القريبة من معبر التهريب.. انتقلت عائلات بأكملها، ووقع طلب مرتفع على العقار، وحدثت مضاربات، وارتفعت الأسعار، حتى وصل ثمن دكان من ثلاثة أمتار مربعة بالفنيدق إلى ما يساوي ثمن دار بمناطق أخرى من المغرب!
وبذلك أصبح المغرب رهينة في يد التهريب والمهربين وكل من يستفيد يوميا من ذلك.. وأضحى التهريب شوكة مؤلمة، لكن يصعب استئصالها.
كانت أولى المبادرات مع حكومة التناوب التي سمحت باستيراد السلع الإلكترونية وتخفيض الرسوم الجمركية عنها. وهكذا أصبح ممكنا للتجار اقتناء أجهزة تلفاز من الدارالبيضاء بأثمنة مناسبة.. وقس على ذلك سلعا أخرى. كما وقع تشدد نسبي على التهريب في معابر الطرق، لكن دون توقيفه نهائيا..
لقد طفح الكيل وتأخر المغرب كثيرا للحسم في هذا التسيب الخطير الذي ظل ينهكه اقتصاديا، ويوحي للبعض على أنه "حل" لابد منه أمام انتشار البطالة..
قبل سنوات قليلة فقط، بدأت الدولة سياسة جدية للحد من التهريب، أولا بخلق مشاريع اقتصادية كميناء طنجة المتوسطي، ومنطقته الصناعية، لسحب البساط من تحت سبتة، وكذا من مدن أوروبية قريبة في مجال استقبال الحاويات التجارية. وإغلاق معبر بني انصار بين مليلية والناظور.. ولكن ما تزال تحتاج المنطقة عموما للتنمية الاقتصادية الشاملة، وهو أمر مكلف ويحتاج لرؤية.. لكنه ليس مستحيلا.
هكذا ساهمت الدولة بدورها في تضخم سرطان التهريب، حتى أصبح علاجه صعبا، ومن ذلك تشكيل اقتصاد يقوم على التهريب، ولما توقف بشكل مفاجئ خلق أزمة اجتماعية كما يحدث بالفنيدق، حيث ظهرت مدينة وتجمع سكاني هائل، جل الأشغال من أجل التهريب، والعائد المالي يتأتّي من التهريب وما يدور حوله من خدمات.. والآن العجلة متوقفة.
هل سيتأزم الوضع أكثر؟ هل ستغلق الأسواق العريضة والشاسعة بعد انتفاء الحاجة إليها؟ هل سينخفض ثمن العقار بشكل دراماتيكي؟ هل ستقع هجرة مضادة وعودة إلى المنابع والأصول؟ إلى المدن والقرى التي جاء منها من عمّروا الفنيدق وغيرها؟
أسئلة كثيرة، والمنتظر هو اتباع سياسة لا عودة تجاه التهريب.. والبحث عن البدائل الممكنة..
 
كاتب وفاعل مدني