حرية التعبير والرأي تساهم في التشخيص الدقيق وبالتالي إغناء النقاش العمومي والبحث عن الحلول الجيدة للمشاكل القائمة.
لكن الخطاب الغالب في التعاطي مع الاحتجاجات السلمية، التي عاشتها مدينة الفنيدق، مساء يوم الجمعة 5 فبراير 2021، لم يتجاوز في نظري تلك القراءة السطحية لتجليات الوضع المعيشي للفئات المعنية.. والمقصود هنا الخطاب السائد.. وهو نفس الخطاب الانتخابي الذي يتكرر على مسامعنا منذ سنين... هذا الخطاب هو الذي أنتج الأغلبية المنتخبة التي تمارس السلطة المكتسبة بالانتخابات العامة على مستوى المجالس المنتخبة من مجالس بلدية وقروية وإقليمية وجهوية..
بعيدا عن تكرار مضمون الخطاب وتجديد أسلوب وشكل التواصل، الذي يحاول توجيه الرأي العام الى أفق هلامي، أعتقد أن هذا الخطاب السائد لا يقدم حلولا مستدامة لصالح المنطقة وفئاتها المتضررة بتفاوت.. لأنه لا ينطلق من خلاصات النقاشات العمومية السابقة ومن الدراسات والتقارير الجيدة، التي أنجزت حول المنطقة..
المشكل أعمق وأعقد مما جاء في مواقع التواصل الاجتماعي، التي تفاعلت مع الاحتجاجات السلمية، التي نظمت بمركز مدينة الفنيدق، ضدا على قانون الطوارئ الصحية، وضدا على التدابير الوقائية والحمائية لمواجهة انتشار فيروس كوفيد 19... احتجاجات بشعارات مطلبية اجتماعية...
يتضح أنه كلما تقدمت الدولة في إنجاز خطوات من تصورها المتوافق عليه في اتجاه هيكلة الأنشطة التجارية وتأطير المبادرات الحرة في الاستثمار ضمن تصور يخدم مصالح الجهة على المدى المتوسط والبعيد، كلما تحركت اللوبيات التي تضررت بتلك الخطوات لتحريك الفئات التي كانت تحت قبضتها ورحمتها لسنين خلت، والتي تشكل أدواتها للاستمرار في التحكم والتربع على لوبيات التهريب هناك وهنا... الهناك أعني به من وراء البحر...
صدر تقرير المجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي حول المنطقة وصدرت التوصيات عنه ليشكل الأرضية السليمة لبناء سياسات عمومية محلية تعزز ما تم إنجازه من طرف الدولة من بنيات تحتية ولوجيستيك ويوجّه الفاعلين إلى التشارك في بناء قطب جهوي ريادي للمنطقة وللمغرب في تموقعه ضمن خريطة المبادلات الدولية وملاحتها البحرية..
وإذا كانت اللوبيات تعاني في سبتة ومليلية فذلك مشكلها، الذي يرتبط بالمشكل الأصلي وبالفهم القديم للعلاقات بين البلدين.. أما إذا كانت اللوبيات المغربية، التي تستفيد من الوضع بالفنيدق والمضيق وتطوان والناضور...، والتي تدر عليها عمليات التهريب الملايير دون أداء كل الواجبات مثل باقي المستثمرين في مناطق أخرى من المغرب، فإن الأزمة الصحية والاقتصادية، التي عاشها بلدنا منذ سنة تقريبا، والتي تسبب فيها انتشار كوفيد 19، بيّنت أن التهريب والأنشطة الغير المهيكلة والاقتصاد الموازي يشكل من جهة ربحا وريعا لكبار المستفيدين، ومن جهة أخرى يشكل خطرا كبيرا على المنطقة وعلى اقتصاد المغرب..
لاحظ المهتمون بالوضع الاجتماعي أنه بين عشية وضحاها اختفى المستفيدون الكبار وتركوا جيوشا من المياومين وجها لوجه مع الواقع الصعب بسبب تطبيق قانون حالة الطوارئ الصحية وامتداداته... توارى المهربون الكبار وتركوا آلاف الأسر والأفراد على قارعة الطريق دون موارد وحتى دون وجود قانوني إداري يسمح للدولة بمدهم بالمساعدة على الاستمرار في العيش.. فمن أنقذ هؤلاء من الغرق المحقق؟؟
عشرات الآلاف من الممتهنين للتهريب المعيشي غير مصرح بهم للصناديق الاجتماعية وجدوا أنفسهم بدون مورد مالي؟
الكل يعرف أن الدولة هي التي تدخلت عبر صندوق كوفيد 19 التضامني وتحملت تداعيات هروب وتهرب كبار المهربين.. الكل يعرف من أين جاءت موارد الصندوق، يعني الملايير (37 مليار درهم)، الكل يعرف أن المساهمات جاءت من المواطنين الموظفين والمستخدمين والأغنياء والمقاولات والشركات الوطنية الخاضعة للضريبة على الدخل والضريبة على الأرباح وعلى الضرائب الغير المباشرة على منتوجاتها الأخرى...
لا يجوز الركوب على الاحتجاجات السلمية المشروعة لدغدغة عواطف الناس، لا يجوز المتاجرة في آلام الناس، لا يجوز المزايدة باسم المظلومية والاستيلاب، لا يجوز التمادي في هذه المتاجرة.. لا يجوز الظهور بنفس الأقنعة التي ملتها حتى الوجوه المقنعة...
في نظري، دقت لحظة النقاش الجدي حول استشراف المستقبل ووضع مخطط توقعي لما بعد نجاح الاستراتيجية الوطنية للتلقيح ضد كوفيد 19...
يتعين، في نظري، التذكير بأن المشكل مع الثغور المحتلة هو مشكل معقد وقديم يتطلب رؤية أخرى.. يتطلب خطابا آخر ونخبة جديدة وبالتالي يتطلب ذهاب الأغلبية الحالية المنتخبة، التي استأثرت بالقرار على الهيئات المنتخبة للجهة، والتي لم تستطع سوى تدوير المشاكل الهيكلية، وعجزت عن القيام بالوساطة الناجعة والفاعلة، وكذا الشأن لأغلبية جمعيات المجتمع المدني التي تستفيد من المنح والدعم الذي تقدمه هذه السلطات المنتخبة... فكلما تقدمت الدولة في تطبيق الرؤية الجديدة البديلة كلما غضبت اللوبيات هناك وهنا، وكلما انزاحت اللوبيات إلى تحريك وتوظيف ضحايا التهريب لصالح استمرار التهريب!!!
تقرير المجلس الاقتصادي والاجتماعي هو الأرضية الكفيلة بتحقيق الانتقالات إلى إنجاز أنشطة بديلة تضمن فرص الكسب ضمن علاقات قانونية شفافة...
يتعين التذكير بأن الأزمة كانت قائمة قبل سنة 2011، وقبل 2018، يعني قبل تقنين وتنظيم حركة النقل والانتقال المنظم للمعابر الحدودية كحلقة من برنامج دولتي... فمظاهر الأزمة وصور النساء "الحمالات" الممتهنة للتهريب المعيشي طافت عواصم العالم المهتم وخاصة الشركاء المانحين.. صور تلك النساء التي وصفت بـ"femmes mulets"، حضرت في نقاشات البرلمان الأوروبي وترتبت عنها توصيات جوبهت بالعراقيل والمقاومات...
تجدر الإشارة إلى أن الهجرة الغير النظامية لا تخص الباحثين عن مستقبل أفضل فقط بشمال المتوسط... فمئات الأفراد من "اليد العاملة"، التي سافرت عبر الثغرين إلى مناطق النزاع المسلح بالعراق وسوريا كانت لها دوافع أخرى... وهل هاجرت للبحث عن العمل المدر للدخل على الأسر الباقية وراءها؟؟؟
يتعين تظافر الجهود لمواصلة مساعدة المتضررين المياومين أولا واستكمال المنجزات لتوفير فرص بديلة للخروج من الوضع القديم، الذي استفاد ويستفيد منه كبار التجار في كل "شيء"، الذين ألحقوا ويُلحقون ضررا بالاقتصاد الوطني وبالسيادة الوطنية... العديد من المبادرات تم اتخاذها من طرف السلطات المعنية، والتي أتت ثمارها، يعني الاستثمار في البنيات والهيكلة الاقتصادية والتجارية للأنشطة... أكيد أن هناك مقاومات... لكن هناك تصور على المدى المتوسط والبعيد... هناك تداعيات لهذه المبادرات البناءة يتعين مرافقتها للتقليل من سلبيات الانتقال إلى هيكلة الاستثمارات وانزياح المبادرات الحرة لتعزيز قطب اقتصادي جهوي يستفيد منه سكان الجهة وسكان المغرب...
نعم، يتعين التمييز بين النمو والتنمية... وهو ورش وطني كبير قد يثري المقاربات وقد يجيب عنه النموذج التنموي الجديد، الذي نتطلع إلى الإعلان عنه قريبا..
ومهما تكن التباينات في تقييم وقع وأثر المشاريع التنموية المنجزة لحد الآن، فإن ما ينتظر الجهة من مشاريع أكثر مما تحقق!