الغد 24 خبر الغد تقرأه اليوم

"تامغربيت".. الانتصار للوطن وضد التضامن الانتقائي

 
عمر إسرى
 
اطلعت على مواقف الكثير من الأحزاب والتنظيمات الحقوقية والجمعوية، تلك التي تشيد بالقرار المغربي القاضي بتحيين العلاقات مع الدولة العبرية، وتلك المنددة بالتطبيع مستعملة قاموسا يتأرجح بين الضبابية والاحتشام والجرأة الممتدة إلى "التخوين"...
 
معظم الأحزاب سارعت إلى تغيير مواقفها الرافضة لأي علاقات مع دولة إسرائيل، ومنها حزب الاستقلال، الذي اقترح سابقا مشروع قانون لتجريم التطبيع، أما حزب العدالة والتنمية، فقد اختار الدهاء السياسي المفضوح، مستعملا منظماته الموازية للحفاظ على بعض من شعبيته القائمة على استغلال المقدس المشترك، والدفاع عن القضية الفلسطينية من منظور ديني صرف، بالموازاة مع بيان محتشم كُتب على مضض، ليتماهى في العمق مع القرار الرسمي.
 
قضية فلسطين بالنسبة للكثير من التنظيمات، وعلى رأسها الإسلام السياسي والتيار القومي (الذي يسمي نفسه يسارا)، ليست مجرد قضية إنسانية أو محور صراع مع الإمبريالية العالمية، ولا حتى قضية مقدسة دينيا أو قوميا، بل هي ورقة سياسية للتجييش العاطفي الذي يصب في تمتين الشرعية السياسية والانتخابوية لذات التنظيمات، بعيدا عن مقاربات علمية واقعية للملف.
 
من شارك في مسيرات سابقة لصالح القضية الفلسطينية، سيتذكر حتما أهم شعاراتها المنفرة "فلسطين عربية"، و"فلسطين إسلامية"، و"خيبر خيبر يا يهود جيش محمد سيعود"، و"لفوا الشهيد بالأعلام، واعطوا عهد الانتقام"، شعارات تنبعث منها رائحة نتنة لا تختلف عن بعض المقاربات العنيفة والإجرامية لبعض الحكومات الإسرائيلية والحركات اليهودية المتطرفة، بين الانتصار القومي المزيف والأصولي الانتقامي.
 
من شارك في مسيرات سابقة لصالح القضية الفلسطينية، سيتذكر حتما أهم شعاراتها المنفرة "فلسطين عربية"، و"فلسطين إسلامية"، و"خيبر خيبر يا يهود جيش محمد سيعود"، و"لفوا الشهيد بالأعلام، واعطوا عهد الانتقام"، شعارات تنبعث منها رائحة نتنة لا تختلف عن بعض المقاربات العنيفة والإجرامية لبعض الحكومات الإسرائيلية والحركات اليهودية المتطرفة
 
سواء كانت لدى البعض ذات بعد سياسوي أو انتخابوي، أو بإيمان يختزل القضية ويخندقها في زاوية قومية وعقدية ضيقة لدى البعض الآخر، فهي توضح بالملموس دوافع الكثير من حاملي شعاراتها الذين يحاولون المراوغة عبر ادعاء الطابع الإنساني للقضية كلما رُفضت قوميتهم وأصوليتهم، لكن إلى هذا الحد قد نتفهم الأمر، مادامت حرية التعبير مكفولة للجميع، ولكل واحد الحق في التضامن مع من يشاء بالطريقة التي يريد وإن كانت انتهازية.
 
لكن أن يصل الأمر بالبعض إلى تبخيس قضية الصحراء المغربية أمام قضية فلسطين، وتخوين الدولة واختياراتها بسبب تحيين علاقاتها مع إسرائيل، حتى مع احتفاظها بنفس الموقف الداعم للقضية الفلسطينية، وصولا إلى دعوات مبطنة إلى العصيان، ووصف كل المشيدين بالخطوة بأقدح النعوت وربما تكفيرهم، فهذا ينذر بتدن كبير في مستوى "الوطنية" و"تامغربيت"، وبانتصار الإستيلاب القومي والأصولي على الانتماء إلى الوطن وأولوية قضاياه ومصالحه السيادية.
 
ليس غريبا على من استورد القومية، سواء من الناصرية أو البعثية، ليجعلها نبراسا فكريا وسياسيا لمشروعه، أن يهتم بقضايا الشرق الأوسط أكثر من قضايا مدشره وإقليمه وجهته وبلده، كما ليس طارئا على من اختار لنفسه الإخوانية الدخيلة منهجا يغلب مصالح الإيديولوجيا الأصولية على تطلعات شعبه ومصلحة وطنه.
 
أنا شخصيا، أتضامن مع الفلسطينيين المظلومين قلبا وقالبا، من مقاربة إنسانية واقعية، كما أتضامن مع الأكراد الذين اغتال منهم صدام حسين ما بين 50 ألفا و100 ألف شهيد خلال ثلاث سنوات، وهو رقم يعادل عدد الفلسطينيين الذين قتلوا خلال أكثر من 60 عاما من الصراع، كما أتضامن مع السوريين الذين أبادهم بشار الأسد، ومع أكراد سوريا الذين هجرت منهم تركيا 190 ألف شخص من حدودها، وقتلت منهم الآلاف، دون ذكر مجزرة روبوسكي ومجازر ديار بكر، واعتقال عشرات الآلاف من المعارضين لنظام أردوغان، وحسب منظمة "أمنستي أنترناسيونال" فقد كان ثلث الصحافيين والعاملين في المجال الإعلامي يقبعون بالسجون خلال سنة 2016، بعد إغلاق 180 منبرا إعلاميا بموجب مراسيم تنفيذية.
 
القومجيون المغاربة كما الإخوانيون، لا يعيرون أي اهتمام لمثل هذه الجرائم، بل إن الكثير منهم يؤيدها بمنطق الفهم الضيق لـ"أنصر أخاك ظالما أو مظلوما"، فصدام كان نموذجا لبعضهم، وأردوغان هو كذلك بالنسبة للبعض الآخر، والواضح أنه حتى تضامن الإسلاميين مع الروهينغا كان ضعيفا جدا رغم حجم المأساة، أما القومجيون فقد أداروا ظهورهم لهذه القضية الإنسانية، لأن "عنصر" العروبة ينقصها.
 
إن التضامن الانتقائي القومي والأصولي، في حد ذاته، تضامن لا إنساني، لأنه لا يستحضر الإنسان ككائن بشري من أسمى حقوقه الحق في الحياة والكرامة، بل كإنسان مصبوغ بإيديولوجيا محددة، أو ينتمي لقبيلة معينة أو يدين بمذهب معين أو بدين معين.
 
إن القرار المغربي الأخير قرار متوازن وواقعي ابتعد عن المقاربة القومية والأصولية، لينتصر لـ"تامغربيت" دون الانزياح عن دعم القضية الفلسطينية كقضية إنسانية، إن تجاهل مليون يهودي مغربي يعيشون في إسرائيل، وهم يشكلون جزءا من ثقافتنا ونسيجنا الحضاري، منهم من ولد وترعرع هنا، ومن يرقد آباؤه وأجداده في قلب هذه الأرض المباركة، (إن) تجاهلهم غير منطقي كيفما كانت الاعتبارات السياسية والإيديولوجية والعقدية، ثم إن السياسة لا تعكس العواطف الشخصية الإنسانية دوما، بقدر ما تعطي الأولوية لمبدأ المصالح الوطنية.
 
مفتاح قضية فلسطين لا يوجد في جيب النظام المغربي، وليس منطقيا أن نعول عليه ليحرر فلسطين، أو يستمر في مقاطعته لإسرائيل، مادامت هذه المقاطعة لا تنفع القضية الفلسطينية في شيء، وتحيين العلاقات لا يضرها بشيء مادام متمسكا بدعمه اللامشروط للفلسطينيين.
 
قبل أن نتضامن مع المظلوم البعيد عنا والذي لا نملك له غير الدعاء، ولا نستطيع تغيير واقعه بشكل ملموس، فلنتضامن مع مظلومينا وكادحينا الذين أنهكهم الفقر والتهميش والعزلة، فبإمكاننا المساهمة في تغيير أوضاعهم بشتى الأشكال والمقاربات، من خلال العمل التضامني الذي جسده أجدادنا في قيمة "ثيويزي"، ومن خلال العمل السياسي والحقوقي والجمعوي، فلكي نكون إنسانيين يجب أن نبرهن على ذلك ابتداء من باب منزلنا لا أن نترك مآسينا وننغمس في مآسي الآخرين، فلا نجد أنفسنا قد غيرنا واقعنا ولا واقع من نتضامن معهم وبالكاد تصلهم صدى أصواتنا.
 
نعم لإعطاء الأولوية لقضايانا الوطنية، ثم التضامن الإنساني مع قضايا الآخرين بشرط ألا يكون ذلك بمقاربة انتقائية انتقامية، ولا على حساب أولوياتنا ومصالحنا السيادية.
 
صحافي وفاعل سياسي