يا مَا نددنا بالشطط في استعمال السلطة باعتباره خرقا للقانون، ودوسا على الكرامة الإنسانية، ونفيا لقيم المواطنة، وضربا من ضروب الاستبداد.
وكانت مواجهة الشطط السلطوي واجهة أساسية من واجهات النضال من أجل الديمقراطية وحقوق الإنسان إلى جانب واجهات أخرى من أهمها احترام الحريات الفردية والحريات العامة مثل حق التنظيم السياسي والنقابي والعمل الجمعوي، وما يرتبط بها من حقوق الإنسان.
وكانت حرية التعبير قضية جوهرية على اعتبار أنه بدونها لا معنى للعمل السياسي والنقابي والجمعوي، فهي كنه الديمقراطية وغايتها.
ووقع ما وقع من تراكمات في مجال حقوق الإنسان ببلادنا ارتباطا وتفاعلا بتطورات النظام السياسي والحياة السياسية، وأصبحت حرية التعبير مكسبا لا رجعة فيه.
غير أن هذا التطور الإيجابي الذي خاضت من أجله القوى الديمقراطية جمعاء معارك قوية ضد رموز الاستبداد ترافق مع انحرافات منها ما هو ناتج عن سوء فهم لمفهوم الحرية، ومنها، وهو الأخطر، ما هو مقصود وصادر عمّن يحملون فكرا عدميا يسعى إلى الإساءة للوطن ومؤسساته، ويصب الماء في طاحونة أعدائه خارجيا، وفي طاحونة الرجعية التي تعمل بأساليب مختلفة على زرع اليأس في صفوف الشعب والدفع به إلى اليأس والتطرف والسلبية القاتلة.
وهكذا ركب بعضهم شعار حرية التعبير ليحترفوا السباب في حق المؤسسات قاطبة، والانتقاص من أي مجهود تبذله الدولة للتغلب على عقبات التنمية، والتشكيك في كل الاستراتيجيات الهادفة إلى مواجهة المخاطر والطوارئ، وازدراء السياسة والسياسيين والإساءة للقضاء والمؤسسات الأمنية...
والأدهى أن شر هؤلاء امتد إلى التشهير بمواطنين ومواطنات أبرياء من خلال الترويج للإشاعة وفبركة حكايات وفيديوهات، ونشرها على أوسع نطاق دون احترام للحياة الخاصة للأفراد ودون أي وازع أخلاقي.
الأمثلة كثيرة عن هذا الانحطاط الأخلاقي، الذي ساعدت وسائل الاتصال والتواصل الحديثة وشبكات التواصل الاجتماعي على تفشيه وشيوعه. يكفي أن نشير إلى قصة مايا والبحر وإلى ما كتب عن زيارة رؤساء الأحزاب إلى الكركرات، ناهيك عن الافتراءات التي استهدفت قيادات سياسية وطنية ومسؤولين أمنيين وغيرهم...
لسنا ضد النقد المسؤول لأية سياسة كانت، ولأية مؤسسة دولتية أو مدنية، ولسنا ضد أي فضح لفاسد حقيقي عاث فسادا في المال العام وخرق القانون واعتدى على حق الغير، ولسنا كذلك ضد حرية التعبير عن الرأي والموقف اتجاه قضية ما فكرية أم اجتماعية أم سياسية... لكن حينما تتحول الحرية مبررا للاعتداء على الآخر، وذريعة للإساءة للوطن وصورته لدى الراي العام الدولي بناء على إشاعات كاذبة، وتبني مواقف عدائية للوحدة الوطنية، فإنها (الحرية) تفقد مشروعيتها، لأنها تصبح عنوانا للعدوانية المقيتة والمسيئة لقيمة الحرية في معناها الإنساني وبعدها الفلسفي. فالحرية الحقة هي التي تقوم على صيانة قدسية الكلمة المسؤولة، وعلى احترام الآخر، وعلى صيانة المشترك أرضا وتاريخا وثقافة، وعلى الإخلاص للوطن، وعلى استحضار الواجب في معناه الكانطي.
إن تجاوز كل الحدود الأخلاقية والقانونية في الحديث عن الآخر ينم عن عدوانية المتحدث وتفاهته وعدم توازنه النفسي... أما إذا كان ذلك التجاوز اختيارا واعيا ونابعا عن إرادة سياسية لجماعة ما، فإنه يمثل جريمة سياسية لا يقبل التغاضي عنها من قبل المؤسسات ذات الصلاحية في متابعة من تعمّد الاعتداء على الغير.
إن الشطط في استعمال حرية التعبير لا يقل ظلما وعدوانية من الشطط في استعمال السلطة... إن الإعلام سلطة رابعة يسع مجالها ما لم تسعه باقي السلط، ويمتد أثرها إلى أبعد ما تمتد إليه سلطة أخرى، وتتجاوز قدرتها التدميرية البعد المادي والجسدي إلى البعد النفسي والمعنوي... ولذلك وجب مواجهة الشطط في استعمال حرية التعبير كما واجهنا في الماضي الشطط في استعمال السلطة.