هل يمكن أن تشكل جائحة كورونا فرصة للحد من التبعية العمياء؟
الكاتب :
عبد العلي اكميرة
عبد العلي اكميرة
على وقع وضغط وباء كورونا المستجد كوفيد-19، يعيش العالم حالة غريبة من الترقب المخيف، وحالتي ارتباك وشك مريبين. ارتباك في التعاطي مع هذه الجائحة وانعكاساتها المدمرة إن على المستوى الاقتصادي، والاجتماعي، وكذا النفسي، والشك في إمكانية العودة إلى الحياة الطبيعية قبل ظهور هذا الوباء، مجموعة من الأسئلة تعكس التصورات والمخاوف الجديدة التي لم نعرفها من قبل ولم نكن نتوقعها، حيث خلقت رجة في فكرنا ووجودنا، وفي إعادة تمثل نمط إنتاجنا على أرضية الواقع المرير الذي نعيشه بكل مآسيه، وتتيح فضاء أرحب للتفكير في إمكانية التأسيس لنمط إنتاج بديل.
جزء من هذه الأسئلة فرضت علينا بالضرورة إعادة التفكير في قيمنا، وكذا إعادة تمثلها بالشكل السليم المتعارف عليه كونيا، هذه القيم التي أسست لمفهوم وجود الإنسان واستمراره (القيم التي جبل عليها الإنسان، والمتمثلة عموما في قيم التضامن، والتعايش، والتآخي والتآزر،... إلخ)، والتي مع كامل الأسف، ابتعدنا عنها وساهمنا في إضاعتها، ونحن نجري وراء الجزئيات والمتاهات والدروب، في صراع عسير ومتواصل في البحث عن "الغد الأفضل" ضمن صيرورة ونمط إنتاج محكومين بالعولمة التي جعلت من سياسة الاستهلاك البوابة الرئيسية للتموقع في مصاف الدول المتحضرة ودخول العصر من بابه الواسع، دون الادراك مع الأسف، أن حلم الارتقاء المجتمعي في ظل غياب القيم الكونية، جعلت الإنسان يتبنى مشروعا سيؤدي إلى نهايته وفناءه، ربما بوعي أو عن غير وعي، ضمن رؤية سلطوية للعالم يتحكم فيها النظام الرأسمالي، وبكل الوحشية والانتهازية التي تميزانه.
إن الحجر الصحي الذي فرض علينا لمواجهة انتشار وباء كورونا المستجد كوفيد-19، قد عشناه بنوع من الرتابة في الحياة، وهي بالمناسبة رتابة مختلفة تماما عن تلك التي كنا نعيشها قبل الوباء، حيث أرغمنا على المكوث في منازلنا، الشيء الذي دفعنا إلى إعادة طرح أسئلتنا وبشكل تراتبي، وكذا إلى تحديد أولوياتنا، مع البحث على توازنات جديدة سواء على المستوى الشخصي، أو على المستوى العام، وفي تماه مع رؤيتنا للفكر وللسياسية وللاقتصاد.
لعل من حسنات هذا الوباء هي قدرته الخارقة على تعرية هذا الواقع البئيس، وإظهار محدودية النظام الليبرالي في شموليته، في عدم قدرته على التعاطي الإيجابي مع اللحظة ومتطلباتها، أقلها ضمان الحد الأدنى لحياة المواطنين، وهو واقع تعيشه الدول الغنية والفقيرة على حد سواء، لكن بالمقابل ساهم بشكل جلي في إبعادنا عن طرح الأسئلة الحقيقية، لاستيعاب الواقع من أجل تغييره، وعن سؤال الديمقراطية والصراع الغير متكافئ الذي تعيشه مجموعة من الدول والشعوب تحت وطأة نظام عالمي جديد، موسوم بالانتهازية والتهميش والقهر، حيث ساهم في سلب حرية الشعوب التواقة إلى الانعتاق والتحرر، ومصادرة استقلالية القرار للأنظمة والحكومات. هو بالفعل نظام عالمي متجبر ومتسلط يسلب الخيرات ولازال مستمرا في ذلك، ويدمر الثقافات والحضارات تحت ذريعة الدفاع عن الحرية والديمقراطية. واليوم، يتفنن في إصدار أحكاما على بعض الدول بوصفها بالتخلف والفقر. هي أسئلة كثيرة ومتنوعة بتنوع أجوبتها المزيفة التي يراد من وراءها حجب حقيقة ما يقع، حقيقة الوجه البشع للنظام الرأسمالي المتوحش، والدول الاستعمارية التي تتبجح بكل أنواع القيم الإنسانية النبيلة، تلك القيم المزيفة التي يتم التخلي عنها في الممارسة اليومية، لخدمة رأسمال جشع يقدم نفسه على أساس أنه المنقذ للبشرية، في حين أنه المدمر الكبير والمغتصب لها وللطبيعة والبيئة الحاضنة لهما.
إن وباء كورونا استطاع أن يفرض نفسه كواقع لا مفر منه، وحتى أجنب نفسي نقاشات لا يمكن الحسم فيها أو التوصل إلى أجوبة مقنعة وحقيقية حول مصدر هذا الوباء أو الجهة التي كانت وراءه؟، وهل هو صنيعة المختبرات أو هو وباء شبيه بتلك الأوبئة التي أصابت البشرية على مر العقود والسنوات؟. بالتأكيد، إن هذا الوباء هو تطور طبيعي للحياة وللطرق الاستنزافية التي تستغل بها الطبيعة. لكن، لا أحد اليوم يمكنه أن ينكر الواقع الخطير الذي يعرفه الكون والطبيعة والمتمثل في ظاهرة الاحتباس الحراري، والمظاهر الغريبة الناجمة عن آثار الجفاف والتصحر والمتسببة بدورها في الفيضانات والعواصف والإعصارات، وآثارها الوخيمة على حياة الإنسان ومحيطه.
إن المرحلة التي عشناها ومازلنا نعيشها، تحت تأثير هذا الوباء الفتاك، أتاح لنا فرصة استخلاص بعض الدروس الأولية، والتي يمكن عرضها على الشكل التالي:
- عجز كل الدول وعلى رأسها الدول الغربية الغنية، عن الحد من انتشار هذا الوباء، أو التوصل إلى حدود الساعة، إلى صناعة أدوية أو عقاقير أو لقاح لمعالجته؛
- عدم قدرة الدول على إنجاح الحجر الصحي، ولو بشكل متفاوت، كجواب أولي على الحد من انتشار الوباء، وضمان توفير الاحتياجات الأساسية للمواطنين؛
- محدودية السياسة النيوليبرالية، وفقدان مجموعة من الدول لجزء من وطنيتها ودورها الاجتماعي، وذلك بالتخلي عن القطاعات الحيوية الاجتماعية، كالتعليم، والصحة والشغل والسكن، واللجوء إلى بدائل لا تفي بالغرض... إلخ؛
- تفكك الأنظمة الغربية، حيث سقط قناع التعاون والتضامن والتآزر، ليتضح أن هذه الدول كانت محكومة بدافع مصلحة الرأسمال وليس بدافع مصلحة الشعوب كما تدعي هذه الدول؛
- فشل سياسة المناولة وترحيل الصناعات بحثا عن اليد العاملة الرخيصة.
كل هذه الدروس تضعنا في مواجهة الأسئلة الملحة لواقعنا ومسارنا. فإذا كان تاريخ البشرية خلال مختلف الحقب الزمنية، يؤرخ لأزمات كثيرة تمثلت في ظهور أوبئة ومجاعات وكوارث طبيعية وحروب، فإنه كان يؤرخ أيضا للصراع المجتمعي بين مختلف قوى الانتاج، ليستقر على نمط إنتاج رأسمالي، تميز لحظتها بتقدمه مقارنة مع أنماط الانتاج الأخرى. لكن الحقيقة المرة هي أنه من خلال التجارب التي عشناها، يتبين أن هذا النظام الرأسمالي يقتات على حساب معاناة الشعوب، ويعمل جاهدا على إيهامنا بأنه المدافع المستميت عن الحرية والديمقراطية، ويتبجح بأنه يمنحها لنا بالقسط الذي نستحقه وعلى حساب درجة تبعيتنا له، ما دام هو القوي والمتحكم في قواعد اللعبة وخيوطها.
يجب الإقرار بأن جزءا من هذا التاريخ قد أرخ لصراع بين مشروعين ورغبتين جامحتين، رغبة النظام الرأسمالي في الاستمرار، ورغبة النظام الاشتراكي، الذي أتاح للشعوب فرصة الحلم بتحقيق المساواة المنشودة، والاستفادة من الثروة والحق في حياة أفضل، والعيش في كنف الدولة الراعية لمصالحها ولمستقبلها. إلا أنه في خضم هذا الصراع المرير كان للنظام الرأسمالي الكلمة الأخيرة واليد الطويلة في تقويض هذه التجارب، ونفس الشيء يمكن إحالته على النظام الاشتراكي الذي عرف بدوره منعطفات كثيرة في ظل هذا الصراع، وعلى الخصوص، في المراحل الأولى التي تميزت بفترة البناء وإرساء قواعد الاشتراكية بالدول ذات هذا التوجه، حيث ضاعت الديمقراطية ليعلن بداية فشل هذه التجارب، ويتم الرجوع مرة أخرى، وبشكل آخر، إلى النظام الرأسمالي وإلى الدين والمعتقد.
اليوم، المطلب الوحيد الذي يوحد الشعوب هو البحث المستمر عن الديمقراطية، ليس بطبيعة الحال في حدودها القصوى، لكن في الحدود الدنيا. وعلى هذا الأساس، فإذا كان هذا المطلب يتصف بالكونية، فإنه في واقع الأمر ليس وصفة جاهزة وموحدة بالضرورة، بل هي تعبير عن احتياجات ومطالب وصراع، وبالتالي فإن قوة هذا الصراع تتجلى في درجة تمثل الديمقراطية وتحقيقها، لتبقى موازين القوى داخل أي مجتمع، وكذا طرق النضال لأجل فهم طبيعة الصراع. وبناء على كل هذه المعطيات، يجب علينا أن نتفق جميعا، أننا في حاجة ملحة وأكثر من أي وقت مضى، إلى ديمقراطية بالمفهوم الكوني النبيل الذي تعيد للإنسان قيمته وتضمن حريته وتحرره وانعتاقه.
وبالرجوع إلى موضوع كورونا، فينبغي الإقرار أن كل دول العالم قد اختلفت في التعامل معه وبالتالي في مواجهته، لكن الاختلاف الأساسي في تقدري المتواضع، يكمن في كيفية تأمين احتياجات المواطنين المرتبطة بالصحة والسلامة والأمن الغذائي، والعمل على ضمان حد أدنى لدورة الإنتاج ولحركة عجلة الاقتصاد. لذلك، يجب الإقرار أن كل الدول الغربية ومن يدور في فلكها، قد عجزت عن تجاوز الأزمة المترتبة عن هذا الوباء الفتاك، عجزت عن توفير الحاجيات الأساسية للمواطنين. وفي المقابل نجد دولا أخرى تنتمي للقارة الأسيوية مثل التايوان، وكوريا الجنوبية، والصين،... إلخ، قد استطاعت أن تتحكم في الحد من انتشار هذه الجائحة، وعملت على ضمان حد أدنى لمتطلبات العيش لمواطنيها، والاحتواء وبالشكل المطلوب، للبؤر الجديدة التي مازالت تظهر بين الفينة والأخرى، وكذا توفير الدواء للمواطنين، وتكريس كل الجهود في مجال البحث العلمي لتحقيق السبق الطبي واكتشاف اللقاح المطلوب للعلاج من الاصابة بهذا الفيروس.
إن دولا مثل الصين وروسيا تمكنتا، خلال مراحل من تاريخهما وخصوصا قبل ظهور وباء كورونا من بناء اقتصادها، كما عملتا على تحقيق استقلالية قرارهما السيادي والسياسي، والبحث عن المشترك بينهما وبين بعض الدول الأخرى، من أجل تجاوز هيمنة النظام الإمبريالي المتميز بنظرته الفوقية المتعالية والمحتقرة لشعوب العالم.
بالتأكيد، إن هاتين الدولتين لهما الآن موقع داخل المنظومة الدولية واستطاعا أن يكونا لهما موقع داخل الجهات التي تعرف صراعا في العالم، لكن ما يؤاخذ عليهما كونهما نظامان سلطويان "Autoritaire"، لكن الإيجابي أنهما استطاعا تحقيق إقلاع اقتصادي، واكتفاء غذائي، في إطار منظومة صحية قوية ومتوازنة بهدف تجنيب مواطنيهما ويلات هذا الوباء.
بالفعل، لا يمكن وصف هاتين الدولتين بالاشتراكية، على الرغم من كون أن الصين مازالت تعلن، حسب تصريحاتها، أنها تعمل ضمن الرؤية الماركسية للاقتصاد، وأن تبنيها لنظام اقتصاد السوق هو مرحلة انتقالية فقط لتحقيق الثروة والإقلاع الاقتصادي، وكذا خطة لتطويع النظام الرأسمالي وجعله في خدمة شعبها كمرحلة أولية، وكذا في خدمة شعوب أخرى كمرحلة ثانية، وهذا نقاش آخر لا أريد التطرق إليه.
الذي يهمني في الموضوع بالدرجة الأولى، هو أننا كدول "فقيرة" أو كدول في "طور النمو"، كما يحلو للبعض تسميتها، هو مدى قدرتنا على الاستفادة من تجارب هذه الدول لتجاوز تبعيتنا العمياء، وذلك بتوفر الإرادة السياسية الضرورية لدى حكام هذه الدول والفاعلين على حد سواء بغية إعادة بناء الإنسان والمجتمع، أخذا بعين الاعتبار للمقومات الحضارية والثقافية، وكذا للبعد المتعلق بالهوية والحس الوطني، مع العمل على جعل العنصر البشري في صميم وصلب عملية التنمية والاقلاع الاقتصادي.
إن المغرب كبلد بإمكانه خوض غمار هذه التجربة، خصوصا، أن الواقع أبان أن هذه الجائحة قد وضعت الجميع أمام حالة العجز. وانطلاقا من هذا المعطى، فإنه بإمكان كل بلد أن يخوض تجربته الخاصة به من أجل وضع اقتصاده على سكة الاقلاع، بناء على مقوماته ومقدراته. فالمغرب يتوفر على عناصر قوة ينبغي عليه معرفة كيفية توظيفها واستغلالها بالشكل المطلوب، فهو يمتلك تاريخ وحضارة، ويتوفر على ثروات طبيعية، وموارد بشرية مؤهلة، وهي بالمناسبة عوامل، إذا ما تم توظيفها بطريقة جيدة، من شأنها أن تحدث نقلة نوعية داخل المجتمع، شريطة توحيد الرؤى والجهود ضمن وعي جماعي، تحضر فيه الارادة السياسية عند النظام، والأحزاب السياسية، والنقابات، والمجتمع المدني، وكذا عند المواطنين بهدف بناء دولة لكل المغاربة، علما أننا قد سجلنا خلال هذه الجائحة، أن حضور الدولة كان محتشما بخصوص توفير بعض الدعم لبعض الفئات، مقابل حضور قوي على المستوى الأمني، الشيء الذي أعاد ذاكرتنا إلى العهد البائد الذي أطلق على تسميته بـ"سنوات الرصاص"، وإلى فترة هيمنة أم الوزارات.
لكن المؤسف، هو أن الأحزاب السياسية والنقابات والمجتمع المدني وشريحة من المواطنين كانت خارج التاريخ، ولم تقم بدورها في تأطير المواطنين والطبقة العاملة حيث انبرى الجميع إلى الخلف في صمت مريب تاركين المجال للسلطة، وبشكل مبالغ فيه في بعض الأحيان، في بسط سيطرتها على المواطنين والتنكيل بهم تحت ذريعة عدم احترام التدابير الاحترازية وشروط الحجر الصحي، دون الأخذ بعين الاعتبار لمطالب الفئات التي تعيش الهشاشة والخصاص والفقر، وكذا الخوف من تبعات وباء كورونا اللعين.
واقعنا السياسي:
اليوم، وأنا أتابع مختلف النقاشات الدائرة حول موضوع الانتخابات التشريعية المزمع إجراؤها سنة 2021، وكذا صراع الأحزاب السياسية المتعلقة بالقاسم الانتخابي، ينتابني وبطريقة ملحة السؤال المتعلق بماهية السياسة، وهل هي مرتبطة فعلا بالمشاريع المجتمعية وبفعل التغيير، أم هي تعبير عن مشاريع شخصية؟.
كان من المفروض على الأحزاب السياسية، وخلال هذه الفترة بالذات، أن تطرح أسئلة جوهرية تتعلق بمسؤوليتها المباشرة فيما آلت إليها أوضاع البلاد، والأدوار التي قامت بها وتلك التي ستقوم بها مستقبلا، ونسبة استقلالية قرارها، وحقيقة مشاريعها المقدمة خلال الحملات الانتخابية، وقدرتها على صناعة مشهد سياسي مغاير للمشهد السياسي الحالي، وجدوى تواجدها في المؤسسات المنتخبة بمختلف أنواعها، وبالتالي دورها في بناء مستقبل البلاد.
كل هذه القضايا، تفرض ضرورة ملحة لفتح نقاش من نوع آخر خارج الحسابات السياسية الضيقة، التي مع الأسف، أفرزت خريطة انتخابية ومشهد سياسي مبلقن ومرتبطان بالريع أكثر مما هما مرتبطان بالسياسة وعملية التغيير والاستجابة للمطالب الملحة والمشروعة للشعب المغربي. وتأسيسا على ما سبق، فلو كانت لنا نخبة سياسية تمارس السياسة بالقناعة اللازمة، لبادرت إلى تقديم استقالتها منذ زمان، وتم إيقاف هذه النقاشات التي تبتعد عن جوهر العمل السياسي، الذي يحاول الجميع مع كامل الأسف، التموقع من خلاله على أرضية الموقع لا الموقف، وطرح السؤال بالشكل الجدي حول التجربة السياسية للبلاد وللأحزاب، على أن تشكل الانتخابات وطريقة إجراؤها ونتائجها جزء من تقييم موضوعي وواقعي نبتغي من ورائه تصحيح الوضع القائم، وتمكين الفاعل السياسي من لعب الأدوار المنوطة به، والعمل على إرجاع منسوب الثقة في الأحزاب السياسية والمؤسسات، ولن يتأتى ذلك إلا من خلال جعل السياسة كفعل للتغيير الذي يتوخى من وراءه تحسين الأوضاع المادية والاجتماعية والاقتصادية للمواطنين، وأن تصبح الغاية المثلى هي مصلحة الوطن ومستقبله وليست مصلحة الأفراد والجماعات.
يجب علينا جميعا الإقرار بفداحة وبؤس ما يقع داخل مشهدنا السياسي، وما يتميز به من ممارسة سياسية فاسدة وخنوعة، أدت إلى عزوف المواطنين عن الممارسة السياسية، وهي في الواقع حقيقة مرة لا يمكن حجبها وإذا استمر الوضع على ما هو عليه، ستتفاقم الأمور وتتسع رقعة العزوف، وسيزداد الوضع تعقيدا، وسنصل إلى نتيجة حتمية ألا وهي هيمنة الفكر الشعبوي، وانتعاش سماسرة السياسة والانتخابات، وكثرة الانتهازيين المتعطشين لتحقيق الثروة والغنى خارج منطق الأخلاق والقيم. إنها بالفعل أسوأ المراحل السياسية التي تمر منها البلاد.
حقيقة الأمر أننا نعيش تحت كنف نظام أراد ويريد ملء كل الفضاءات والمجالات، من السياسي والاقتصادي والاجتماعي إلى الديني، نظام عمل على تهميش الاطارات السياسية والنقابية الجادة، وكذا المجتمع المدني من أجل فرض هيمنته وتوسيع دائرة نفوذه. فلا غرابة اليوم أننا نجد جل الفاعلين يتحركون ضمن توازنات وفضاءات سقفها محدد سلفا من قبل هذا النظام، الذي يفرض هيمنته على جميع الفضاءات وتحديد الخطوط الحمراء لها دون الاعلان عن ذلك، إنه الفاعل الوحيد والأوحد يجعل من السياسة التي سطرها ويرتضيها فضاءه الخاص ليتسع ويستوعب الفضاء العام، غايته المتوخاة قتل كل الأحزاب السياسية والفعل السياسي الذي يتوخى التغيير.
ينبغي الجزم، وبكل الحرقة والمرارة، أن الذي تبقى كفعل داخل المشهد السياسي والاجتماعي المغربي هو زخم النضال الجماهيري عبر مجموعة من الحركات الاحتجاجية اليومية للشعب المغربي بكل فئاته، قاسمها المشترك هو مطلب الحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية، وهو بالمناسبة المطلب التاريخي لحركة 20 فبراير المجيدة التي تآلب عليها الجميع لقتلها في المهد، إلى جانب مجموعة من الحركات الاجتماعية الأخرى التي توحدها المطالب الاجتماعية المشروعة كالحق في تعليم عمومي ديمقراطي ومنفتح على العصر، ومنظومة صحية عمومية ضامنة لحق المواطنين في حماية صحية ذات جودة ومهنية، وشغل ضامن للاستقرار الأسري وللكرامة الإنسانية، وسكن لائق، وحد أدنى للحق في حياة كريمة،... إلخ. إن واقع الحال، يجسد بما لا يدع مجالا للشك، أن هذه الحركات الاحتجاجية هي تعبير صارخ عن الاحساس "بالحكرة" والاغتراب والظلم والقهر والتهميش والاحساس بالعيش في بلد غير قادر على ضمان حقوقهم ووجودهم. ولعل ما يعزز هذا الطرح، هو أن عددا كبيرا من شبابنا وفي عز انتشار وباء كورونا، لازال يركب أمواج البحر لمعانقة الضفة الأخرى ومن أجل حلم غير مضمون المنال.
هذا في اعتقادي المتواضع ما يبرهن على عمق الأزمة التي يتخبط فيها المجتمع، في ظل سكوت غريب ومريب للنظام والأحزاب والنقابات وكل الفاعلين، ولعل ما يزيد من خطورة الوضع هي ظاهرة العنف التي أصبحت واقعا ملموسا ويوميا داخل المجتمع وبأشكال متنوعة ومتفاوتة الخطورة، عنف في الشارع العام، وفي المؤسسات التعليمية، وفي الأحياء الفقيرة والمهمشة، وداخل الأسر، وارتفاع نسبة الانتحار في صفوف الشباب، وهو بالمناسبة عنف يأخذ في بعض الحالات، أشكالا لا يمكن استيعابها وفهمها.
إن ظاهرة "التشرميل" ليست قدرا منزلا، فهو تعبير عن أزمة اجتماعية تخترق المجتمع، وجواب صريح عن فشل سياسة الدولة، علما أنها ساهمت بقدر كبير في تفشي الظاهرة وعدم احتواءها في البداية، بجعلها ورقة يمكن استخدامها في الوقت المطلوب، لكن مع الأسف، فإن استفحال الظاهرة تجاوز الدولة نفسها وأصبح يشكل خطرا محدقا بها.
إن ظاهرة العنف، حسب المفاهيم السوسيولوجية والدراسات النفسية الحديثة، هي تعبير عن الحقد اتجاه الغير، وبدرجة أولى اتجاه النظام، ليتخذ بعد ذلك أبعاد أخرى اتجاه المجتمع والأفراد. كل هذه المظاهر تأخذ مساحات كبيرة داخل المجتمع، والأحزاب السياسية عاجزة عن القيام بدورها الأساسي في تأطير المواطنين، وتكتفي بدور المتفرج العاجز عن الفعل، بل على العكس من ذلك، فلها اهتمامات أخرى بعيدة كل البعد عن الاهتمامات الأساسية للشعب وللمواطنين، تلعب دور "الكومبارس" تشتغل تحت الطلب، وتزكي كل السياسات اللاشعبية التي ساهمت في تعميق الأزمة، وتناست كما تناسى النظام، أنه سيجد يوما ما نفسه وجها لوجه أمام هذا العنف والحقد وهذا السخط العارم الذي لا يمكن لأحد أن يتنبأ بحدوده ومداه.
إنه بالفعل إشكال خطير يحتم على الجميع التفكير جديا في إعادة بناء الإنسان المغربي على أسس سليمة، ترتكز على التربية على النشأ وعلى المواطنة الحقة، في أفق إعداد المواطن الواعي وإقامة الدولة المواطنة.
وارتباطا بكل ما سبق، هو واقعنا البئيس الذي يسائلنا يوميا في ظل سياسات ارتجالية لا تأخذ بعين الاعتبار البعد الاجتماعي للمواطنين، واعتماد سياسات اقتصادية تبعية تهدف إلى الحفاظ على مصالح أقليات منتفعة، تبيح لنفسها استغلال الثروات، دون الاكتراث بحق الشعب في جزء من هذه الثروة التي ينتجها، والحق في حياة كريمة، والاحساس بأن هذا الوطن لم يعد يحتضن أبناءه ولم يعد يتسع للجميع، وبالتالي لا يضمن لهم الحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية. كل هذه القضايا تجعل مستقبل البلاد والمواطنين في مهب الريح.
وعلى هذا الأساس وفي ظل هذا الوضع الهش، ينبغي على الجميع أن يعي دوره ومصلحته، وبالأساس مصلحة النظام في الاستمرار والتي لا يمكن لها أن تتحقق إلا عبر وجود أحزاب سياسية وطنية ديمقراطية قوية، ومثقفين مستقلين، ونقابات مناضلة ومدافعة على حقوق الطبقة العاملة وعموم الشعب، ومجتمع مدني مستقل ومكمل للفعل السياسي ومتناغم معه، والعمل على تطوير الرأسمال الوطني ضمن معادلة رابح/رابح بضمان توزيع عادل للثروة.
إن أي سياسة مهما كانت أبعادها وتوجهاتها، يجب أن تأخذ بعين الاعتبار الإنسان في مفرده وجمعه، وأن تجعله في صلب اهتماماتها، وينبغي أن يكون فهمنا للسياسة منطلقا من فهمنا للإنسان في شموليته، ارتباطا بالمجتمع الذي أفرزه والذي يعيش فيه، وكذا بالفهم الصحيح لتاريخ هذا المجتمع.
إن المشهد السياسي المغربي لا يزال مع الأسف يتسم بالفقر والبؤس، هناك أحزاب حاضرة وغائبة في نفس الوقت، أحزاب مفروض فيها أن تعيد حساباتها وبناء هويتها على أرضية أن السياسة هي فعل للتغيير نحو الأفضل، هذا التغيير المرتبط ضمنيا بالمجتمع وبالمواطن، بحيث يستمد قوته ومشروعيته منهما معا، وأن تعمل على احترام برامجها الانتخابية إن كانت لها برامج في الأصل، وأن تحترم التزاماتها اتجاه الناخبين حتى يكون للتنافس السياسي معنى ومضمون، وأن تساهم في تأثيث المشهد السياسي بناء على تقاطبات واضحة تفرق بشكل جلي بين الأفكار والايديولوجيات والأطروحات (اليمين، والوسط، واليسار)، وتأخذ مسافات شاسعة بينها.
مع الأسف، إن المشهد السياسي المغربي يفتقد إلى شروط الممارسة السياسية النبيلة التي يحضر فيها الفكر والتصور والايديولوجيا، وما يزكي هذا الطرح هو طبيعة الأحزاب المغربية التي لا يمكن للمشاهد أن يفرق بين توجهاتها، فكل الأحزاب متشابهة وتتبنى نفس الخطاب، ويصعب تصنيفها على اعتبار أنها تتبنى خطاب المعارضة رغم تواجدها في الحكومة وتدبيرها للشأن العام، كما هو الشأن بالنسبة للحكومة الحالية المشكلة من كل ألوان الطيف بزعامة الحزب المحافظ الملتحي.
رغم هذا المشهد السياسي البئيس، ينبغي الاقرار أن اليسار المغربي رغم ضعفه وعلاته، فإنه يمتلك وسائل تحليل المرحلة في عموميتها، لكنه يفتقد لأدوات الفعل، بحيث يعيش نوعا من النوستالجيا بحكم ارتباطه المبالغ فيه، بتاريخه بكل انتكاساته، وكونه محكوما بمجموعة من الشعارات ربما هي تجيب على ما هو استراتيجي، لكنها لا تقدم بالضرورة أجوبة على القضايا الآنية للواقع المعاش. لذا، ينبغي أن نسجل أن اليسار المغربي لا يزال مطلبا في المشهد السياسي المغربي، لكنه لم يستطع وإلى حدون الآن تعبئة الحاضن الاجتماعي الطبيعي، على اعتبار كونه عمله نخبوي، عاجز عن استقطاب جميع الشرائح والفئات، وسيبقى كذلك، الشيء الذي يطرح العديد من الأسئلة التي ترتبط بمدى تجدره في المجتمع، وقوة فعله وتواجده، وكذا بطبيعة علاقته بالمواطنين. وعلى هذا الأساس، وبناء على أن الذاكرة التاريخية التي أرخت لمختلف مراحل اليسار المغربي بإنجازاته وإخفاقاته لا يمكن نسيانها أو تغييبها، فيجب القيام بالنقد الذاتي الضروري الذي من شأنه أن يصحح الأخطاء، ويعيد النظر في المسار.
اليوم، من المفروض على المجتمع المغربي أن يختار بين مشروعين سياسيين للتغيير، مشروع ديمقراطي حداثي، ومشروع ماضوي محافظ، كما يجب على النظام التموقع واختيار المشروع الذي يضمن استمراره، وبطبيعة الحال، لن يكون سوى المشروع الديمقراطي الحداثي، وما يعضد هذا الطرح هو أن النظام الديمقراطي، وكيفما كان شكله، يعتبر أرقى ممارسة ضامنة لاستمرار المجتمع. في حين أن المشاريع الماضوية الحاملة في طياتها للمتناقضات (الشيء ونقيضه)، لا يمكنها أن تشكل البديل ولا تتوخى التغيير، بل تنهل من ثقافة الخرافة والأساطير، وتقدس الموت على الحياة، وتفسح المجال للمقدس لكي يكتسح جميع الفضاءات. ففي الوقت الذي يفرض الانغلاق على المجتمع فالنتيجة الحتمية هي التخلف وانتشار البدع، وتهميش العقل والادراك والقدرة على التحليل. وللتاريخ دروس وعبر كثيرة ومتعددة في هذا المجال.
وبالرجوع إلى التاريخ، فينبغي التذكير أن كل الحركات الاسلامية المتشددة، وعلى رأسها الزوايا، التي كانت مؤطرة ضمن نظرة سياسية منغلقة، فقد كانت تكرس الخرافة، وكان شيوخها تابعين للنظام القائم، مجندين لخدمته مقابل منحهم الهبات والتمويل الضروري لتوسيع نفوذهم والإكثار من تزايد مريدهم. إن أبهى المراحل التاريخية لمجتمعنا هي تلك المراحل التي كان فيها المغرب منفتحا على حضارات وشعوب أخرى.
في اعتقادي، إن المشكل لم يكن يوما ما مع الدين، لكن مع تمثلات الحركات الاسلامية للدين وطريقة توظيفه، ورؤيتها لمجتمع الغد، والتي تريده بالضرورة أن يكون شبيها بالمجتمعات الاسلامية الأولى حسب تصورها، خلافا على ما كان عليه الوضع في الواقع. وكل هذا من شأنه أن يزيد في تعميق الأزمة، ويفرض علينا الاغتراب داخل وطننا، في عصر يشهد تطور علمي غير مسبوق وعلى جميع المستويات، التكنولوجية والمعلوماتية والثورة الرقمية.
إن أخطر ما يمكن أن يواجهه وطننا هو هذا الاسلام السياسي الدخيل على مجتمعنا، الذي لم يكن يوما ما نتاج واقعنا، بل تم إنتاجه وبلورته خارج حدودنا، وعلى سبيل المثال لا الحصر، مشروع الوهابية في المملكة العربية السعودية، وتجربة الاخوان المسلمين في مصر. هذا النوع من الاسلام السياسي تتبناه بعض الحركات الاسلامية المغربية، التي ترتكز رؤيتها للدين على الفكر الشمولي والإقصائي، الذي لا يعترف بالاختلاف ويتميز بالتعالي بالإيمان، واختيار الموت بدل الحياة عبر تقديس الاستشهاد، وكلها مظاهر تنهل من ثقافة الخنوع والاستيلاب، تنخر المجتمع وتسري به نحو التفرقة والتطاحن، علما أن قياديي هذه الحركات يكنون حقدا دفينا وكرها واضحا للعلم والتقدم، كأحد المقومات التي أدخلت المجتمع في الكفر حسب زعمهم، وفي المقابل تجدهم يستعملون أحدث أنواع تقنيات التواصل والمعلوميات، والتي يوظفونها في العمليات الانتحارية التي تنفذ في غالب الأحيان، من طرف الشباب الذين يتم الاستحواذ على عقولهم ومصيرهم، تحت ذريعة الفوز بالشهادة. وخلاصة القول، أن القاسم المشترك لدى هذه الحركات الاسلامية والنظام، هو اكتساح الفضاء الخاص للفضاء العام.
من أجل ميثاق من شأنه أن يقوي جبهة الديمقراطية والحداثة:
إن اختيار النضال من أجل بلوغ الديمقراطية يحتم علينا بالضرورة النضال داخل المؤسسات، وبجانب الجماهير في كل المواقع التي تتواجد بها. لذا، فمسؤوليتنا جميعا تتجلى في تجسيد هذا الاختيار على أرض الواقع. ومن هذا المنطلق، فإن الاستحقاقات الانتخابية تعتبر جزء من هذا الاختيار.
وفي نفس السياق، ونحن على مشارف الاستحقاقات الانتخابية المزمع إجراؤها سنة 2021، فمن الممكن أن تكون هذه اللحظة (الانتخابات) مدخلا لتجربة جديدة، على أساس أن يتم اتفاق بين جميع الأحزاب الوطنية الديمقراطية وعموم الشعب المغربي على تبني ميثاق يتوخى الفعل السياسي النبيل الهادف إلى التغيير. أما إذا استمر الوضع على ما هو عليه وتم الاستمرار في نهج نفس التجارب السابقة، والتي أبان الواقع على فشلها، فستكون النتيجة مخيبة للآمال وستحصل نكسة أخرى تنضاف إلى الحياة السياسية المغربية التي ربما لم يرد لها أن تعيش الديمقراطية، وستشارك الأحزاب في هذه الاستحقاقات ببرامج تمت صياغتها في المقرات الحزبية، بعيدا عن هموم الشارع المغربي واحتياجات المواطنين.
حتما ستكون هذه البرامج سطحية وسوف لن تجيب على الأسئلة الآنية والمستقبلية، وسيتخلى أصحابها عن الدفاع عنها بعد إجراء الانتخابات، وسيجبرون على الدفاع على برنامج الدولة الذي تمت صياغته خارج إرادتهم وخارج إرادة المواطنين الحالمين بغد أفضل والطامحين إلى العيش في مجتمع ديمقراطي حداثي، وسيجدون أنفسهم بعيدين عن هذا الصراع الانتخابوي الشكلي، مما سيؤدي حتما بالكثير منا إلى العمل على مقاطعة هذه الانتخابات، ومن سيشارك فيها لا بقناعة تغيير الأشياء وإنما لإرضاء الضمير والقيام بالواجب، على أساس أنه تولدت لديهم قناعة ثابتة بأن هذه الانتخابات تبقى صورية ولا ينتظرون منها شيئا.
وإذا طلب مني أن أتقدم بأي اقتراح في الموضوع، وانطلاقا من موقعي كمناضل وكيساري وديمقراطي، فإني أدعو الجميع، وعلى الخصوص الأحزاب السياسية، أن نجعل وللمرة الأولى من محطة الاستحقاقات الانتخابية، مدخلا حقيقيا للممارسة الديمقراطية التي تبتغي التغيير، ننتصر فيها لسيادة العدل، وإرساء دولة الحق والقانون، وكذا لحق المجتمع في حياة تسودها الحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية، ويمكن لهذا الطموح النبيل أن يتجسد من خلال الاتفاق على برنامج يشكل الحد الأدنى، ويعتبر ميثاق بين كل الأحزاب الوطنية الديموقراطية والمواطنين من أجل ممارسة سياسية تقطع مع ثقافة الريع، وتحقق استقلالية القرار السياسي. وسأحاول أن أتناول هذا البرنامج عبر ثلاثة محاور أساسية على النحو التالي:
المحور السياسي:
كما سبقت الاشارة إلى ذلك، وانطلاقا من قناعتي ومبادئي الراسخة في أن المدخل الأساسي لتحقيق الديمقراطية في المجتمع، لن تتأتى إلا بالفعل السياسي الذي يتوخى التغيير، لذلك، من الضروري القيام بالتدابير والاجراءات التي من شأنها أن تمكن مما يلي:
- تحرير المجال السياسي من هيمنة الدولة، وعدم تدخلها في هذا المجال، وحرصها على ضمان التحكيم بخصوص احترام القوانين والسهر على تطبيقها؛
- إعادة بناء الأحزاب السياسية لنفسها على أرضية الفعل السياسي الذي يتوخى التغيير، في ارتباط وثيق مع المجتمع، واحترام البرامج، وتنفيذ الالتزامات، حتى يكون للتنافس السياسي معنى ومضمون، وأن يتشكل المشهد السياسي بناء على تقاطبات واضحة يمكن التمييز فيها بين اليمين، والوسط، واليسار؛
- ضرورة تبني الأحزاب السياسية لنضالات الجماهير وكل الحركات الاحتجاجية الاجتماعية والعمل على تأطيرها، وجعل مشاركتها في المؤسسات التشريعية وفي مختلف المحافل، ذات قيمة مضافة وفي خدمة المجتمع والمواطنين؛
- القطع مع ثقافة الريع السياسي، وجعل معركة محاربة الفساد كيفما كان نوعه، جزء من المداخل الأساسية للممارسة السياسية، وضمان استقلالية القرار؛
- جعل مصلحة الوطن والمواطنين من أولويات الفعل السياسي، حيث تنعدم التطلعات الشخصية ذات البعد الانتهازي، لتحل محلها المصلحة العامة؛
- المساهمة داخل المؤسسات من أجل تفعيل وأجرأة دستور سنة 2011، والعمل على تقديم اقتراحات تروم تعديله بما يضمن السيادة للشعب، وحماية حقوق الإنسان، واحترام الحريات الفردية والجماعية، وحرية الصحافة، وحرية المعتقد، وفصل السلط، واستقلالية القضاء؛
- النضال من أجل تحقيق المناصفة والعمل على تجسيدها في الحياة الحزبية، والمؤسسات التمثيلية والتشريعية، وفي الحياة اليومية.
المحور الاقتصادي:
إن مفهوم الاقتصاد، حسب بعض المعاجم، يشير إلى الاستغلال الأمثل لكل ما يمتلكه المجتمع من موارد محدودة من خلال مجموعة من الأنشطة والعمليات بالاعتماد على العوامل الرئيسية للاقتصاد وهي الأرض والعمل ورأس المال والمشروع، ولا يمكن وصف أي نشاط بكونه نشاطا اقتصاديا إلا في حال توفر العناصر الآنفة الذكر مجتمعة. إلا أن السؤال الذي يفرض نفسه هو مدى مساهمة هذا الاقتصاد في تحقيق الرخاء والتوزيع العادل للثروة؟. وعلى هذا الأساس، وبخصوص هذا المحور يمكن تسجيل ما يلي:
- رفع اليد للنظام على المجال الاقتصادي، والعمل على فصل السياسي عن الاقتصادي؛
- تشجيع الاستثمار الوطني والأجنبي من خلال توفير مناخ أعمال مشجع ومحفز؛
- محاربة ثقافة الريع، واعتماد سياسة اقتصادية شفافة وديمقراطية، خارج هيمنة الشركات الكبرى، ذات الولاءات مع السلطة؛
- تشجيع الرأسمال الوطني، وتمكينه من لعب دور القاطرة لتحقيق الاقلاع الاقتصادي؛
- توزيع عادل للثروة بما يضمن حقوق الطبقة العاملة وعموم الشعب المغربي؛
- الحد من سياسة الخوصصة عبر إرجاع كل القطاعات الحيوية والاستراتيجية إلى ملك الدولة؛
- الحد من سياسة الاقتراض، التي تزيد من تعميق الأزمة، وتجعل الدولة والمواطنين رهينة في يد المؤسسات المالية الدولية؛
- سن سياسة ضريبية عادلة، وذلك بفرض ضريبة على الثروة والرفع من قيمة الضريبة على الأرباح بالنسبة للشركات الكبرى؛
- إيلاء العناية الضرورية للقطاع الصناعي والعمل على توطينه، ومنحه الدعم اللازم لجعله قطاعا قادرا على تحقيق القيمة المضافة، وخلق مناصب الشغل القارة، وتحقيق الثروة، مع الاستفادة من تجارب الدول الصناعية الرائدة، وتشديد المراقبة على السلع والبضائع الخارجية التي تغزو السوق الداخلية، والتي تشكل منافسة غير شريفة للسلع الوطنية؛
- تشجيع القطاع الفلاحي عبر سن سياسة فلاحية تمكن من تحقيق الاكتفاء الذاتي للمواطنين، وتأخذ بعين الاعتبار البعد المتعلق بالمحافظة على البيئة وندرة المياه، وأن تشكل الصادرات جزء من هذه السياسة الفلاحية لا كلها؛
- منح التسهيلات الضرورية للكفاءات الوطنية، وعلى قدم المساواة، من أجل خلق المقاولات، وعلى الخصوص، المقاولات الوطنية الرائدة، والتشجيع على الاستثمار في البحث العلمي والموارد البشرية المتخصصة.
المحور الاجتماعي:
إن مفهوم التنمية الاجتماعية، حسب التعريف السوسيولوجي المتادول، هي تطور البشر في علاقاتهم المشتركة، وهذا ما يطلق على تسميته بالتوافق في العلاقات الاجتماعية، فتغير البناء الاجتماعي لا يعنى شيئا ما لم يحدث تغيير في طبيعة العلاقات الاجتماعية، ولهذا ينظر إلى التنمية الاجتماعية على أنها تنمية علاقات الإنسان المتبادلة. ويتفق الباحثون في علم الاجتماع على أربعة معايير تستند إليها التنمية على حد قولهم وهي (الحجم أي السكان، الكفاية، الحرية، والمشاركة)، ويذهبون إلى أنه من أجل تقدم المجتمع يجب توافر هذه المعايير الأربعة، وإلا فستكون التنمية منقوصة غير كاملة، بحيث إذا تخلفت أحد هذه الشروط لا يمكن تحقيق التنمية الاجتماعية. وانطلاقا من هذا التعريف، فإن تناول المحور الاجتماعي يرتبط أساسا بما يلي:
- جعل قطاعي التعليم والصحة من أولويات السياسات الاجتماعية المعتمدة؛
- محاربة الفقر والتهميش والأمية، عبر اعتماد برامج يتم دعمها والسهر على تطبيقها من طرف الدولة، وتسطيرها بمشاركة كل الفاعلين في المجال؛
- خلق مناصب الشغل الضامن لكرامة المواطن المغربي؛
- توفير الدولة للسكن اللائق للمواطنين أخذا بعين الاعتبار، لمستواهم الاجتماعي والعمل على تشديد المراقبة على لوبيات العقار؛
- ضمان توفير الحماية الاجتماعية لكل المواطنين؛
- إقرار أجر لكل مواطن في حالة عطالة أو باحث عن العمل، وعلى الخصوص، المواطنين الذين يعيشون الهشاشة والخصاص والفقر؛.
تلكم بعض الأفكار البسيطة التي حاولت أن أعبر عنها بشكل عام وأردت أن أتقاسمها، مع جميع الأحزاب السياسية وعموم المواطنين، كبرنامج يشكل الحد الأدنى الذي يمكن من خلاله تشكيل ميثاق اجتماعي للمشاركة في الاستحقاقات التشريعية المزمع إجراؤها سنة 2021، إن التزمت به الأحزاب السياسية وناضلت من أجل تجسيده على أرض الواقع سنتمكن من ربح الرهان، رهان تشكيل جبهة اجتماعية، سياسية، ديمقراطية، حداثية، وسنقطع الطريق على كل المشاريع الأخرى، الماضوية منها والمخزنية، وسنضع مجتمعنا على سكة التقدم المنشود. وهو بالمناسبة برنامج منفتح على جميع القوى الحية قصد الإغناء والتفاعل.
الرباط بتاريخ:
13 نونبر 2020
الكاتب العام للكونفدرالية العامة للشغل وفاعل يساري