الغد 24 خبر الغد تقرأه اليوم

دروس من الانتخابات الأمريكية.. وتحولات الإسلاميين واليساريين المغاربة

 
محمد نجيب كومينة
 
تتبعت المسلسل الانتخابي الأمريكي لحظة بلحظة خلال الأيام الأخيرة، وتتبعت أيضا النقاشات الأمريكية-الأمريكية حول الاستحقاق الرئاسي، الذي غطى على الاستحقاقات الأخرى، التي لا تقل أهمية بالنسبة للنظام الديمقراطي الأمريكي.
 
والحقيقة أنني تعلمت الكثير، وإن كان تعلمي لا يفيدني بشيء في نهاية المطاف، وتأكدت أن الديمقراطية الأمريكية تبقى كبيرة وراسخة، وأن الشعب الأمريكي الذي يروج عنه الأوروبيون وغيرهم كلاما لامعنى له، يبقى شعبا حيا وحيويا كما تعكس ذلك نسبة المشاركة التي تجاوزت 67% في انتخابات استثنائية، التي عكست بدورها تعبئة عالية في صفوف الديمقراطيين، الذين يمثلون الوسط واليسار الأمريكي، والجمهوريين، الذين يمثلون المحافظين واليمين الأمريكي، لحسم معركة جعلتها شخصية ترامب تأخذ منحى غير مسبوق.
 
أهم درس تعلمته من تتبع المسلسل الانتخابي الأمريكي أن المعارك السياسية الصدامية والحملات الدعائية والإعلانية والإعلامية وقت الانتخابات تبقى ذات تأثير محدود على رأي واختيار الناخبين، وإنما الذي يؤثر هو العمل بنفَس طويل على تغيير عادات الناس على المدى الطويل
 
ويتمثل أهم درس تعلمته في كون المعارك السياسية الصدامية والحملات الدعائية والإعلانية والإعلامية وقت الانتخابات تبقى ذات تأثير محدود على رأي واختيار الناخبين، حتى في انتخابات ساخنة، ولا تغير ميزان القوى، وإنما الذي يغير، أو يحافظ أيضا على توازنات قائمة ومرغوب في الحفاظ عليها، هو العمل بنفَس طويل على تغيير عادات الناس على المدى الطويل، وهذا ما وعاه واشتغل عليه يسار الحزب الديمقراطي، الذي بات له ثقل في هذا الحزب وتأثير على توجهاته واختياراته، بحيث خلق رأيا عاما مناهضا لليبرالية المتوحشة التي نجح المحافظون في ترسيخها منذ سبعينيات القرن الماضي بفضل عمل إيديولوجي ودعائي وغيره، كيّفَ عادات الأمريكيين على نطاق واسع، وأنساهم في السياسات الكينزية، التي أدت إلى الرفاه الذي بلغوه بعد الحرب العالمية الثانية.
 
ويمكن القول إن الإسلاميين قد ساروا على نهج المحافظين الأمريكيين في نفس الفترة، بحيث استهدفوا عادات المغاربة وعملوا على تغييرها، بداية بتغيير نمط تديّنهم وجعله يسلك مسلكا وهابيا وإخوانيا شرقيا، وهذا ما أكده بنكيران نفسه لدى استعراض تجربة جماعته في أحد لقاءاته مع شبيبة حزبه، وكانت النتيجة ما نراه اليوم من تراجع الإسلام المغربي ذي النفحة الصوفية المتسامحة أمام التدين على الطريقة الشرقية الصدامية والطائفية، التي تجعل التكفير سهلا، وما نراه من تحوّل في عادات المغاربة وميلهم إلى ما هو رجعي ونكوصي بعدما كانوا، إلى حدود بداية سبعينيات القرن الماضي، وفي ظل أمية متفشية آنذاك، ينشدون التقدم والرقي، ويعملون ما في وسعهم لتجاوز البداوة والتخلف.
 
الإسلاميون ساروا على نهج المحافظين الأمريكيين، بحيث استهدفوا تغيير عادات المغاربة، وكانت النتيجة ما نراه اليوم من تراجع الإسلام المغربي ذي النفحة الصوفية المتسامحة أمام التدين على الطريقة الشرقية الصدامية والطائفية، التي تجعل التكفير سهلا
 
ومن المؤسف أننا، هنا في المغرب، افتقدنا، منذ تسعينيات القرن الماضي، يسارا له نفس توجّه ونفَس وصمود أصدقاء بيرني ساندرز في الولايات المتحدة، وافتقدنا مثقفين وباحثين منخرطين في المعركة الفكرية والإيديولوجية والمجتمعية من أمثال كوغمان واستيغلتز، الحائزين على نوبل للاقتصاد، أو غيرهما، بل إن اليسار المغربي فقَدَ كثيرا من مثقفيه بعد حكومة التناوب، وكان مثيرا جدا أن من دخلوا إلى الحكومة أو إلى مواقع مسؤولية يفقدون القدرة على العودة إلى المعارضة، وحتى على الانخراط في الصراع الفكري والإيديولوجي مع قوى الظلام والرجعية، لذلك وجد الإسلاميون، وإلى الآن، ورغم كل شيء، أنفسهم لوحدهم في الساحة، يتحكمون في عادات قطاع واسع من المغاربة، ويوجّهونها نحو الوجهة التي تخدم مصالحهم بكثير من البراغماتية، ووجدت الدولة، التي كانت سندا لهم، نفسها في منافسة معهم، وتبحث عمن يجنّبها الاصطدام بهم، باستعمال أدوات مهترئة جربت استعمالها، في ما سبق، في مواجهة اليسار.
 
اليسار المغربي فقَدَ كثيرا من مثقفيه بعد حكومة التناوب، ووجد الإسلاميون أنفسهم لوحدهم في الساحة، ووجدت الدولة، التي كانت سندا لهم، نفسها في منافسة معهم، وتبحث عمن يجنّبها الاصطدام بهم، باستعمال أدوات مهترئة جربت استعمالها، في ما سبق، في مواجهة اليسار
 
والبيّن اليوم أن اليسار قد تمكّن منه من بقوا سجناء ماض، فيه الواقعي والمتخيل، أو من لا يهمهم أن يحوّلوه إلى قوة مجتمعية مستقبلية، وإنما يهمهم اشخاصهم ونرجسيتهم ومن يميلون أصلا إلى العيش في القوقعة بعيدا عمن يزعمون أنهم يناضلون من أجل تغيير واقعهم ورفع الظلم عنهم. فقد تغيرت عادات اليسار واليساريين لأنهم لم يستطيعوا تغيير عادات المغاربة. إنهم يشخّصون ما كان فيلم إيتوري سكولا، "كم تحاببنا"، قد قدمه في إطار سردية إيطالية...
 
كاتب وإعلامي واقتصادي