الغد 24 خبر الغد تقرأه اليوم

عن حرية التعبير ومسألة ازدراء الأديان

 
محمد محيفيظ
 
لاحظت، من متابعة الجدل الدائر حاليا، أن الكثيرين عندنا (ومنهم مثقفون معروفون: جلبير الأشقر في مقال له بالقدس العربي/ رسالة السوسيولوجية سمية جسوس إلى الرئيس الفرنسي مثلا... الخ) يتبنون موقفا يمكن تلخيصه كما يلي: هم يعتبرون أنهم مع الحق في حرية التعبير باعتباره أحد الحقوق الأساسية المكفولة، غير أنهم يقطعون بأن هذا الحق ينقلب إلى اعتداء حينما يمس اعتقادات الناس الدينية، وأن ممارسة هذا الحق مشروطة باحترام اعتقادات الآخرين ومقدساتهم. وبالتالي يطالبون بتقييد حرية التعبير بضرورة احترام هذه الاعتقادات والمقدسات.
 
الرأي عندي أن هذا التصور - علاوة على خطورته - لا يستحضر الاجتهادات العديدة التي راكمتها حركة حقوق الإنسان نظريا وعمليا.
قد يكون اسبينوزا أول من طرح مسألة حرية التعبير في صيغتها الحديثة (الفصل 20 من الرسالة في اللاهوت والسياسة).. وقد بدا في تلك الصياغة الأولى أن هذه الحرية - بخلاف حرية التصرف والفعل - مطلقة تكاد لا تحدها حدود...
 
القيود التي بالإمكان وضعها أمام ممارسة حرية التعبير، هي تخصيصا تلك التي تتعلق باحترام كرامة الأفراد وتمنع شيوع خطابات الكراهية والتحريض على العنف، لكن ليس مما يدخل في ذلك انتقاد اعتقاداتهم الدينية
 
بعدها سيتضح طبعا، أن حرية التعبير مثلها مثل مستويات الحرية الأخرى، تنفي ذاتها إن لم تؤطرها ضوابط وحدود... غير أن المفارقة هنا، في سياق الحداثة الليبرالية، هي: كيف نجعل الضوابط، لا كما كانت سابقا مجرد إجراءات تضييق ومنع، ولكن شروطا لممارسة أوسع لهذه الحرية ذاتها؟
 
حل هذه المفارقة، تطلب على المستوى النظري، جدالات ومناظرات عديدة. من أهمها تلك المناظرة التي عرفتها بداية القرن 19 (حوالي 1814) بين الليبرالي بنجمان كونسطان ومنظر الثورة المضادة لويس دو بونالد.
 
وقد استقر الأمر الآن، كما يبدو من مواد الشرعة الدولية لحقوق الإنسان، على أن القيود التي بالإمكان وضعها أمام ممارسة حرية التعبير، هي تخصيصا تلك التي تتعلق باحترام كرامة الأفراد وتمنع شيوع خطابات الكراهية والتحريض على العنف، أي بما لا يمس بحقوق الناس الآخرين... لكن ليس مما يدخل في ذلك انتقاد اعتقاداتهم الدينية.
 
يجب أن نتذكر أن حرية التفكير والتعبير أصلا قامت ضد السلط الدينية والكهنوتية التي كانت تفرض قيودا خانقة على كل فكر حر، وقد تطلب الأمر معارك وتضحيات كبيرة باهظة.. ولا يمكن تصور فكر حر أو إبداع فني في مناخ يحصن الاعتقادات الدينية من النقد والرفض والتسفيه
 
تؤكد منظمة المادة 19 (وهي المنظمة الحقوقية المختصة بحق حرية التعبير) أن "القيود التي بالإمكان وضعها على حرية التعبير هي تلك التي يكون هدفها بوضوح حماية أفراد يحملون آراء أو معتقدات معينة - دينية كانت أو غيرها - من العداء والتمييز والعنف، وليس حماية نظم عقائدية، أو أديان أو مؤسسات من النقد". وتضيف المنظمة: "الحق في حرية التعبير يتضمن التمحيص والنقاش الحر وتوجيه النقد، ولو بطريقة لاذعة وغير منطقية للنظم العقائدية، وللآراء وللمؤسسات بما فيها الدينية، طالما لا يدعو ذلك للكراهية التي تحرض على العداوة أو التمييز أو العنف ضد فرد".
 
مؤدى ذلك بوضوح أنه يجب التمييز بين ما يمس بأفراد أو جماعة من الأفراد، وما يتعلق بالمعتقدات والمقدسات... المستوى الأول يجب أن يكون مشمولا بالحماية، أما المستوى الثاني فلا..
 
سبب هذا التمييز الدقيق هو ما يلي:
 
يجب أن نتذكر أن حرية التفكير والتعبير أصلا قامت ضد السلط الدينية والكهنوتية التي كانت تفرض قيودا خانقة على كل فكر حر، وقد تطلب الأمر معارك وتضحيات كبيرة باهظة.. ولا يمكن تصور فكر حر أو إبداع فني في مناخ يحصن الاعتقادات الدينية من النقد والرفض والتسفيه...
 
من جهة أخرى، نعرف أن الانتهاكات العنصرية والتمييز ضد فئات من البشر، يبدأ أولا بالتحريض الذي يكون أول خطوة على مسار الانتهاكات التي قد تبلغ الإبادة...
 
في القضايا ذات الصلة، يكون أمام القضاء تحدي معرفة هل فعل التعبير المتهم أمامه، يمس بكرامة فرد أو مجموعة من الأفراد أو يضيق على حرياتهم الدينية، أم أنه انتقاد لآراء واعتقادات هؤلاء الناس؟ في الحالة الأولى يدين، وفي الحالة الثانية يبيح.
 
 لو كنا اعتبرنا أن كل المقدسات يجب أن تبقى بمنأى عن النقد، لما تقدمت المعرفة البشرية (الأديان التوحيدية نفسها حين نشأت مارست ازدراء الأديان السابقة عليها)... ولما عرفنا ثورة علمية ولا ثورة فلسفية ولا ثورة فنية (فن النهضة وتصوير أنبياء العهد القديم والجديد عراة)
 
إغفال ذلك عندنا هو الذي يؤدي إلى طرح أسئلة مغلوطة، من قبيل: لماذا يسمح بالرسومات وغيرها من انتقادات للدين الإسلامي ومقدساته، ولا يسمح بالتعرض للسود أو اليهود؟
 
لقد تم مثلا، في الآونة الأخيرة - وبتزامن مع قضية الرسومات - إدانة إريك زمور بسبب خطابه أمام مؤتمر اليمين بتاريخ 28 شتنبر الأخير، الذي رأت فيه محكمة باريس ينضح بالحقد والكراهية ضد مسلمي فرنسا ويحرض ضدهم.
 
صحيح أن بعض الاجتهادات القضائية للمحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان، قد أثارت بعض اللبس حين قضت بما يؤيد أحكام بعض المحاكم الوطنية المدينة لتعبيرات اعتبرت مسيئة للأديان.. غير أن تبريرات المحكمة - وهي محكمة فوق وطنية - قامت على أن السلطات الحكومية الديمقراطية هي في وضع أفضل من القاضي الدولي لإبداء الرأي حول ضرورة تلك القيود..
 
وقد قامت منظمة المادة 19 ومنظمات حقوقية أخرى بحملة مرافعة من أجل حث المحكمة الأوروبية على تجاوز هذا الارتباك، خاصة أن هذه المحكمة نفسها، سبق لها، في قضايا عديدة أخرى، أن اعتبرت أن التجديف (le blasphème) يدخل ضمن خانة حرية التعبير (مثلا قضية دوبوفسكا وسكاب ضد بولندا سنة 1997).
 
أفهم أن الأمر يكون مؤلما وجارحا لمن يعتنق تلك المقدسات التي تتعرض للسخرية لكن لا مفر من تربية تعودنا على تقبل ذلك، كما فعل أبناء ديانات أخرى، لا يضيرهم في شيء أن يسخر من معتقداتهم من يشاء كما يشاء، شريطة أن لا يترتب على ذلك ما قد يكون تمييزا ضدهم أو تحريضا عليهم أو مسا بكرامتهم
 
تكلمت في البداية عن خطورة هذا الخلط... لتبينه يكفي أن نتذكر أن الدولة التي قادت حملة سنة 2012 لحض الأمم المتحدة على تجريم التجديف أو ازدراء الأديان، هي السعودية وباكستان... ويمكننا تخيل الاستعمال الذي كان سيوظف به هذا القرار لو تم إقراره، في فرض مزيد من التضييق والقمع على حرية الفكر والرأي والتعبير، وقمع المخالفين.
 
لو كنا اعتبرنا أن كل المقدسات يجب أن تبقى بمنأى عن النقد كما يعنّ لكل واحد أن يمارسه، لما تقدمت المعرفة البشرية (أشرت في تدوينة سابقة إلى أن الأديان التوحيدية نفسها حين نشأت مارست ازدراء الأديان السابقة عليها)... كذلك لما عرفنا ثورة علمية (غاليلي.. ألم يمس هو الآخر مقدسات ذلك الوقت؟) ولا ثورة فلسفية (بيير بايل، اسبينوزا، الرسالة في اللاهوت والسياسة) ولا ثورة فنية (فن النهضة وتصوير أنبياء العهد القديم والجديد عراة)...
 
التقدم المعرفي والإبداع في مختلف مناحيه، بما هو تجديد، يتطلب افتكاكا له من القديم الذي ترسخ كمقدس. لا مفر إذن من الاشتباك، بما هو انتهاك للمقدس، إن أملنا ولادة الجديد.
 
بقيت الآن مسألة الأسلوب: يقال إنه لا مانع من انتقاد الاعتقادات والآراء الدينية، لكن شريطة أن يتم ذلك بأسلوب جدي ورصين، وأن لا يتم السخرية والاستهزاء من هذه العقائد...
 
عوض أن نطالب بإقرار تجريم ازدراء الأديان، وهي معركة خاسرة في نهاية المطاف، لنركز على التصدي لخطابات الكراهية والتمييز العنصري، بخطاب متماسك يستند إلى حقوق الإنسان وقيم الجمهورية والعلمانية والإنسية الكوسموبوليتية... وهنا ستكون المعركة مربوحة بالتأكيد
 
قد نشمئز أحيانا - وشخصيا يحدث لي ذلك مرارا - من الأسلوب المستفز، وأحيانا البذيء والسطحي والعديم الذوق لبعض التعبيرات التي تمس هذه المقدسات أو تلك، لكن يجب أن نتذكر من جهة أخرى، أن مسار حرية التعبير في تاريخه لم ينفصل أبدا عن الهجاء والسخرية اللاذعة.. هل سنتنكر لأعمال مثل أشعار أبو نواس أو إراسموس أو رابلي، أو الماركيز دو ساد أو لارس فان تراير أو بازوليني أو سالفادور دالي لأنها هجائية وساخرة و"قليلة الأدب"...
طبعا أفهم جيدا أن الأمر يكون مؤلما وجارحا لمن يعتنق تلك المقدسات... لكن لا مفر من تربية تعودنا على تقبل ذلك، كما فعل أبناء ديانات أخرى، لا يضيرهم في شيء أن يسخر من معتقداتهم من يشاء كما يشاء، شريطة أن لا يترتب على ذلك ما قد يكون تمييزا ضدهم أو تحريضا عليهم أو مسا بكرامتهم المتساوية مع كرامة الآخرين...
 
جاء في تعليق للمحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان: "إن أولئك الذين يختارون ممارسة الحرية في الإفصاح عن عقائدهم... من غير المعقول أن يتوقعوا إعفاءهم من أي نقد، بل عليهم أن يتحملوا ويتقبلوا إنكار الآخرين لمعتقداتهم الدينية، فضلا عن ترويج الآخرين لمعتقدات معادية لدينهم".
 
ختاما، أرى أنه عوض أن نطالب بإقرار تجريم ازدراء الأديان، وهي معركة خاسرة في نهاية المطاف، لنركز على التصدي لخطابات الكراهية والتمييز العنصري، التي تتزايد بشكل مقلق وتكتسب جرأة ووقاحة لم تكن تجرؤ عليها إلى وقت قريب.. التصدي بخطاب متماسك يستند إلى حقوق الإنسان وقيم الجمهورية والعلمانية والإنسية الكوسموبوليتية... أي يستند إلى روح العصر، وهنا ستكون المعركة مربوحة بالتأكيد...
 
كاتب وأستاذ الفلسفة في جامعة ابن طفيل