الغد 24 خبر الغد تقرأه اليوم

الكتابة الأدبية وجروح الوطن

 
نورالدين الطويليع
 
يولد الأدب من رحم المعاناة، ويستمد وجوده وقوته من ندوب وتقرحات وجروح تستفز الذات المبدعة، وتستحثها على السير قدما في طريق البحث عن التطهير للتخلص من وطأة الجرح المُمِضِّ، ومن آلامه المبرحة، التي تسبّب مخاضا عسيرا تأتي بعده الولادةُ أو الخلاص في صورة نص إبداعي يشكل صيحة مدوية في وجه العالم البشع، لذلك يقولون: "وراء كل مبدع عظيم أزمة عميقة"، فالقلق والغضب والشعور بالإحباط، وغياب الإحساس بالثقة في عالم انسحقت فيه القيم، كل ذلك هو بمثابة خلايا سرطانية تغذي رافد الإبداع، وتضخ فيه مزيدا من النصوص التي تخرج إلى القارئ بلغتها وتراكيبها لتوثق احتجاج أصحابها على هذا الواقع وتبرمهم منه، وضيقهم ذرعا به.
 
في تاريخنا النقدي العربي يحدثنا النقاد العرب القدامى عن جدلية العلاقة بين الإبداع الأدبي وبين الواقع، ويؤكدون أن نقمة هذا الواقع ومصيبته وظلامه الدامس بمثابة أسمدة تنعش تربة الإبداع وتقويها لتنتج أدبا خالدا ومتجذرا، يقول الأصمعي: "الشعر نكد بابه الشر، فإذا اصطدم بالخير لان وضعف"، ويقول ابن سلام الجمحي: "وإنَّما كان يكثر الشعرُ بالحروب التي بين الأحياء، نحو حرب الأوس والخزرج، أو قوم يغيرون ويُغَار عليهم، والذي قلل شعر قريش أنَّه لم يكن بينهم نائرة، ولم يُحاربوا"، فالحروب تشعل جذوة الشعر والأدب وتوهجها، والسلم والأمن والأمان، والإحساس بالطمأنينة يبعث على الخمول الإبداعي، وينشر الموت الأدبي لانتفاء الحافز أو الدافع.
 
في زمننا المعاصر، وفي ظل تجرد الإنسان من رداء إنسانيته، وجريه الممجوج وراء مصالحه، وانفراده بأنانية مفرطة ومثيرة، وسعيه المستمر لممارسة القتل المادي والمعنوي في حق أخيه الإنسان، في ظل كل هذا تفرض الكتابة الأدبية نفسها كمعادل موضوعي وظيفته إعادة بعض التوازن إلى الذات المبدعة المشروخة عبر تخليصها من فائض اختناقها، ومنحها فرصة لإدانة العالم واستمطار اللعنات على ظلامه وقبحه، ولذلك نلاحظ انتعاش الأدب في مراحل الأزمات والحروب والصراعات، وتألقه بشكل لافت للنظر، لحاجة المبدع والقارئ معا إلى ممارسة طقوس التخفيف من وطأة الحمل وثقله عبر نصوص يُودِعُهَا آهاته وزفراته، ويتوسم فيها القارئ خلاصا من حمله الثقيل، فعبر الشعر والقصة والرواية ومختلف فنون الأدب، ومن خلال شخصيات ورقية يتملى القارئ ببطولات ينسجها على رقعة النص، ويعيد فيها الاعتبار إلى الضحية من خلال إسناد وظائف المقاومة والرفض والتمرد إلى الشخصيات الناطقة باسمه، والانتقام من الجلاد بإظهاره في صورة غير لائقة أخلاقيا أو اجتماعيا أو غير ذلك، وبإلحاق هزائم تخييلية به قد تعد في عالم الواقع من سابع المستحيلات.
 
كاتب وفاعل مدني