الغد 24 خبر الغد تقرأه اليوم

بلسان شاهد على المرحة.. كواليس صناعة "عيد العرش" في المغرب

 
من التأسيس ثم البذخ والهيلمان إلى البساطة والتحديث
 
حسن عين الحياة
 
 
ارتبط عيد العرش في أدهان السواد الأعظم من المغاربة، بمظاهر الفرح السلطاني، ومشاركة العامة احتفالات القصر بهذه المناسبة التي تتجدد من خلالها الروابط التاريخية والدينية التي تجمع الملك بالمواطنين. كما ترسبت في الأذهان، عند كل استحضار لهذا العيد الوطني، مظاهر الهيلمان، التي كان الملك الراحل الحسن الثاني يحرص عليها في هذه المناسبة، لإضفاء نوع من الأبهة على الحدث. وأيضا لإعطاء المناسبة مدلولا سياسيا وتاريخيا، جوهره الولاء والخضوع. وإن كان هذا العيد، في الأصل، عند إحداثه رسميا سنة 1934، واحد من التعبيرات، التي حرصت من خلالها الحركة الوطنية على التشبث بالسلطان محمد الخامس، كزعيم للأمة في مواجهة الاستعمار الفرنسي، الذي كانت فيه الإقامة العامة، المتحكمة في عصب الدولة ودواليبها.
 
غير أن عيد العرش في عهد الملك محمد السادس، اتخذ منحى آخر، جوهره العصرنة والتحديث، بعدما تخلصت المناسبة من كثير من مظاهر إرث الماضي، بكل ما تحمله من الثقل الكرنفالي المكلف، ليصبح لعيد العرش دلالات ومغازي، توثق لتجديد البيعة، باعتبارها عهدا يجسد ارتباط المغاربة بالعرش، ومدى تشبثهم بالملكية، منذ قرون، نمطا للحكم. وتجلى ذلك، في تعامل الملك محمد السادس حاليا، بمرونة مع هذه المناسبة الموسومة بظرفية خاصة، حيث أجلَّ جميع الأنشطة والاحتفالات والمراسيم الخاصة بعيد العرش في ذكراه الـ21، آخذا بعين الاعتبار التدابير الاحترازية المتخذة في إطار حالة الطوارئ الصحية، التي تم إقرارها للحد من انتشار جائحة كورونا.
 
لكن بعيدا عن الحاضر، كيف تشكلت هذه المناسبة في الماضي، وكيف هندس لها الوطنيون في فاس خلال ثلاثينيات القرن الماضي؟
"الغد 24" يحملكم في سفر سريع لسبر أغوار صناعة مناسبة عيد العرش في المغرب، بأسرارها وكواليسها، من خلال شاهد حي على المرحلة. لنتابع.
 
 
 
عيد وطني جديد بين أعياد دينية
 
في تاريخ السلاطين العلويين، لم تكن هناك مناسبة للاحتفال بذكرى تولي السلطان مقاليد الحكم، إذ لم يكن من الأعياد التي يشرف عليها، أو يحتفل بها الجالسون على عرش الدولة، سوى أعياد: الفطر والأضحى وذكرى المولد النبوي، وكلها مناسبات دينية، يضفي عليها السلاطين، بُعدا سياسيا ودينيا، عبر مشاركة الأمة الاحتفلات، سواء من خلال صلاة العيدين، أو النحر أو استقبال الهدايا وغيرها من مظاهر الحضور السلاطني في احتفالات الشعب.
 
لقد استمرت هذه الاحتفالات إلى ما بعد عهد الحماية، قبل أن يتشكل الوعي الوطني بمحاربة الاستعمار، ولجوء رموز الحركة الوطنية إلى التحالف مع القصر لتوحيد الجهود من أجل التصدي للاحتلال الفرنسي.
 
من هنا، يقول الدكتور محمد شقير، أستاذ العلوم السياسية في مقالة له، بدأ التفكير في تأسيس "أعياد وطنية" تجسد الالتفاف الشعبي حول مضمون الأمة المغربية ورمزية الاحتفال بـ"المؤسسة الملكية" كتجسيد لهذا المضمون. مضيفا، أنه "في هذا السياق، بادر بعض قياديي الحركة الوطنية، في إطار التقرب من الملك محمد الخامس وإفساد خطط الحماية لفك التحالف السياسي بين القصر وبين مكونات الحركة الوطنية، إلى تأسيس تقليد الاحتفال بذكرى جلوس الملك على العرش، واعتباره عيدا وطنيا وشعبيا".
 
لكن كيف هندس رموز الحركة الوطنية لصناعة واحد من أبرز الأعياد الوطنية في المملكة، الذي انتقل، بحسب مؤرخ المملكة عبد الحق المريني، من عيد السلطان وعيد الجلوس وعيد التذكار إلى عيد العرش؟
 
أسرار هندسة عيد العرش في فاس
 
في زيارتنا له بمنزله في الدارالبيضاء، حكى الطاهر غلاب الذي عاصر رموز الحركة الوطنية، وهو شقيق المناضل والكاتب الرحل عبد الكريم غلاب، تفاصيل ما قبل إحداث عيد العرش في ثلاثينيات القرن الماضي، إذ قال "في عام 1933، زار محمد بن يوسف مدينة فاس، وكان يسمى وقتها السلطان وليس الملك. آنذاك، عمِلت الحركة الوطنية، وبذكاء كبير، على أن تجعل من هذا الرجل الذي اختاره الفرنسيون، والذي كان يقال إنه لا يتوفر على الصفة للحكم، (أن تجعل منه) ملكا...".
 
وبحسب غلاب، لما دخل السلطان محمد بن يوسف إلى فاس، في موكبه سنة 1933، تبع الموكب شباب يافعون يرددون ذلك النشيد الذي ألّفه علال الفاسي (يا ملك المغرب...)، وردده الناس أيضا، مضيفا أن الموكب السلطاني وقتها، كان يتقدمه أولا "مقدمين الحومة" باعتبارهم أدرى بمسالك فاس، يرتدون لباسا فاخرا، ويقبضون على عصي طويلة بأيديهم. ثم يأتي خلفهم باشا المدينة، ثم السلطان الذي يتبعه الوزراء والحاشية.
 
"كان البروتوكول وقتها يقتضي من السلطان أن ينزل يوم الخميس في فاس ليزور "السادات"، أما يوم الجمعة فكان مخصصا للصلاة في جامع القرويين". يقول الطاهر غلاب، ويؤكد موضحا "إذن كان هؤلاء الشباب اليافعون، يتبعون السلطان محمد بن يوسف، ويرددون النشيد ويهتفون (عاش الملك) التي ترددت على ألسنة الناس.. وكان محمد الخامس وقتها أول مرة يسمع هذه الكلمة (عاش الملك) فانبهر... إلى درجة أن موكبه تفكك في غمرة التجمهر، ليبقى وحده على صهوة حصانه والناس من حوله يهتفون باسمه". ويضيف، أن هذه الواقعة صادفت عدم وجود المقيم العام، فجاء الكاتب العام لنظام الحماية إلى محمد الخامس غاضبا، وقال له، إن المقيم العام قلق، ويتعجب مما جرى لك مع الناس، واصفا تجمهرهم من حوله بـ"الهمجية"، وأضاف "كنا مفتونين بخصوص ما جرى لك، وتملكنا الخوف بعدما كنتَ وسط الغوغاء، خاصة وأن حياتك كانت في خطر". تعجب الملك محمد الخامس ورد متسائلا: "ماذا جرى لي؟ لم أتعرض لأي مكروه"، لكن الكاتب العام زاد في تساؤله "لكن كيف تفكك الموكب؟ وكيف بقيت لوحدك وسط الناس؟".. آنذاك، أجابه الملك "كان ذلك أمرا عاديا، فالناس كانوا فرحين بي، ولازموني إلى أن وصلت إلى إقامتي...". ليتدخل الكاتب العام مرة أخرى: "يقول لك المقيم العام، لن تنزل غدا إلى المدينة، وسيكون من المستحيل أن تنزل إلى القرويين للصلاة، لأننا لا نستطيع أن نؤمّن لك الحماية، وبالتالي يجب أن تصلي في مسجد القصر".
 
لقد رفض محمد الخامس، بحسب غلاب، هذا الأمر، فاقترح عليه الكاتب العام أن يصلي في مسجد في بوجلود، فرفض محمد الخامس ذلك أيضا، ورد: "البروتوكول يلزمني بالصلاة في القرويين، ولا يمكن أن أصلي إلا في القرويين.. وبلغ كلامي هذا للمقيم العام...".
 
هنا، يقول الطاهر غلاب، وقع تحول في الفكر السياسي في المغرب، بحيث أن السلطان، أصبح ملكا، وأنه أصبح يحظى بعطف من قبل الشعب، والأكثر من ذلك، أصبح لأفراد الشعب ملك يلتفون حوله.. وكان ذلك، بحسب تعبير غلاب، ذكاءً كبيرا من الحركة الوطنية، سيما وأنها اختصرت من خلاله المسافة ليصل الملك إلى قلب الحركة، ولم تعد بينهما مسافة. بعدها، يسترسل غلاب في حكيه، كتبت بعض الصحف الفرنسية، أن "الملك خرج غاضبا من فاس بعد (الهمجية) التي لقيها هناك".. فقام الملك محمد الخامس بتكذيب هذه الأخبار تكذيبا واضحا، وأرسل في طلب الباشا لكي يستقدم له علال الفاسي والهاشمي الفيلالي وعبد العزيز بن إدريس، كي يشكرهم، ويبلغون عنه لفاس وأهل فاس أنه راض عنهم...
 
ويكشف غلاب أنه خلال تلك السنة، وتحديدا في 18 نونبر 1933، توجه عدد من الشباب إلى محل يقال له "جنان السبيل" يضم عددا من المقاهي التي تذيع موسيقى المشارقة.. "كنت واحدا من هؤلاء، إذ جاء من يقول لنا، "(ياالله طلعوا لجنان السبيل راه كلشي مخلص).. فتساءلنا عن سبب هذا الكرم، فقيل لنا (كاين واحد المناسبة كبيرة.. هي "عيد العرش") ولكم أن تتصوروا أننا وقتها لم نكن نعرف من الأعياد سوى العيد الكبير والعيد الصغير وعيد المولد النبوي.. لكن يأتي التأكيد مرة أخرى في غمرة تساؤلاتنا أن هناك عيدا آخر اسمه عيد العرش، وأن اليوم تم تنصيب محمد الخامس على عرش المغرب.. وفي عام 1934 صدر قرار إداري رسمي بتخصيص هذا اليوم عيدا للعرش في المغرب، وأصبح هذا العيد بالنسبة لنا هو الفسحة الكبرى لنطلق ألسنتنا، بحيث كنا نحث الناس على أن تجتمع في بيوتها حول الشاي، ونذكرها بأن عضوا من الحركة الوطنية سوف يزورها، وكانت الحركة نصَّبت عددا من الشباب كي تخطب في الناس وتبث بينهم أفكارها.. وهنا انفتح الباب أمام الوطنيين للعمل في الحواضر والمدن من أجل التصدي للمستعمر".
 
وفي كتابه "الحركات الاستقلالية في المغرب العربي"، توقف علال الفاسي عند التأسيس لعيد العرش، موضحا أن الفرنسيين أخذوا وقتها في عمل الدسائس بين الوطنيين والملك محمد الخامس، فلجأت الحركة الوطنية إلى إفشال كل المخططات، "وقد أرادت أن تظهر عمليا عواطف الوطنيين الحقيقية نحو ملكهم العظيم من جهة، فاهتدت إلى فكرة سديدة هي تأسيس عيد العرش المغربي يوم 17 نوفمبر الذي هو يوم جلوس جلالة سيدي محمد، وقد حل ذلك اليوم الذي بدأت البلاد تحتفل، ولكن الإقامة العامة وقفت موقف المنذهل الذي يريد منع الاحتفال ولكنه لا يستطيع التجرؤ في التنفيذ وفعلا لم تستطع الوطنية المغربية أن تجعل من هذا الاحتفال عيدا رسميا، ولكنه على كل حال كان يوما تمهيديا للعيد الرسمي الذي أسس في السنة الموالية أي سنة 1934...".
 
وإذا كان الاحتفال بعيد العرش في عهد الملك الراحل محمد الخامس مناسبة للتحفيز على طرد المستعمر، وتجديد الذكرى بمدى التحام المغاربة مع العرش، فإن الاحتفالات في عهد الراحل الحسن الثاني، اتخذت منحى آخر، طغى عليها الطابع الكرنفالي، والأبهة والهيلمان، ليغير الملك محمد السادس من هذه الصور، محتفظا بجوهر المناسبة، في طابعها الملحمي الذي يوثق لعهد البيعة بين الشعب والملك، مع التخفيف من مظاهر البروتوكول المصاحب لها، بما يضمن نهل حاضر المناسبة من ماضيها.