(افتتاحية نُشرت يوم 10 أكتوبر 2017)
يوم الاثنين تاسع أكتوبر 2017، خلّد الحالمون بالشمس الذكرى الخمسين لاغتيال سيد شهداء الأرض، إرنستو تشي غيفارا.. جنود بوليفيون ألقوا عليه القبض يوم ثامن أكتوبر 1967، وفي اليوم الموالي أعدموه.. 50 سنة مرت، ومازال تشي على قيد الحياة، ومازال "الكوماندانتي" يلهم الملايين، ولذلك، لا يكف الظلاميون عن ترصد روحه للإمعان في اغتياله الرمزي...
منذ مدة، وأبواق الظلام والاستبداد تريد قتل غيفارا مرة ثانية، بنشر التضليلات، التي وصلت إلى موقع مغربي نقل عنهم ما كتبوه حول "المجرم الذي حوّلته الدعاية إلى بطل"، كما وصلت إلى مواقع التواصل الاجتماعي، حملة ترويج صورة مركّبة تحمل مقارنة بين لحيتين: الثائر غيفارا والإرهابي خطاب، مستعارة من حملة دشنها الظلامي محمد العريفي... ظلوا يستعيرون من صورته وسيرته وشموخه وصموده ونضاله واستشهاده، فبدأوا يستعيدون روايات من رواة مأجورين ليقولوا على لسانهم إن غيفارا كان مجرما وطاغية وسفاحا، يقتل بدم بارد أي شخص لا يروق له، ويلصق به تهمة الخيانة، كانت حملة ممنهجة من آثارها ما نشاهده، حاليا، من التقاء واجتماع مواقع دولية ومغربية، تنشر وتعيد نشر قصص مفبركة مخدومة، ملأت بها فضاءاتها، على مدى أسبوع، في محاولة لـ"اغتيال" الذكرى الذهبية لاغتيال هذا القائد والمناضل الأممي...
من يعرف سيرة غيفارا، وحتى من لا يعرفها يكفيه بحث سريع في تراث هذا الثائر الأممي، فكرا وسلوكا، سيتأكد أن "الكوماندانتي" كان أكثر إنسانية... كان الأرحم بالثوار المقاتلين، يشرف بنفسه على إسعاف جرحاهم، وعلى تثقيفهم، وعلى إعطاء دروس في محو الأمية للفلاحين الأميين... وفي مختلف القرى، التي يمر بها، كان يُجري كشوفات على المرضى، ويقدم المساعدات حسب الإمكانيات...
تشي غيفارا لم يكن يمثّل... من يمثّل لا يدفع حياته ثمنا للمبادئ السامية، التي كان يؤمن بها... كان مؤمنا حتى النخاع بالإنسانية.. بتحرير الشعوب من الاحتلال.. ومن الاستغلال.. وبحق الشعوب في الحرية والعدل والكرامة والرخاء وتحرير الثروات... غيفارا، الذي يتهمه لصوص الثورات، اليوم، بأنه مجرم، ويقتل بدم بارد، هو الذي كان يحضّ الثوار المقاتلين على حسن التعامل مع الناس، مع الفلاحين، مع سكان القرى التي يمرون بها... غيفارا هو الذي كان ينظّر للثورة وللحب... لم يكن يفصل الثورة عن الحب.. واعتبر أن الثوري الحقيقي هو الذي يستهدي دائما بالحب... وغيفارا هو الذي ترك لكل الثوار وصيته الثمينة: "كونوا قادرين دوما على الإحساس بالظلم، الذي يتعرض له أي إنسان، مهما كان حجم هذا الظلم، وأيا كان مكان هذا الإنسان"...
كان الأكثر عطاء ووفاء وتضحية... قالها علانية من على منبر الأمم المتحدة: "نموت ليحيا الوطن"، قالها وفعلها... ولذلك، نجد ملايين البشر في مختلف أرجاء المعمور تستهدي بتلك المبادئ، التي ضحى من أجلها، وفي مقدمتها خصلة الوفاء، وكان أعدى شيء لديه هو الخيانة والنذالة، التي نجدها اليوم، عند مندسين، وكذا متساقطين يمثّلون أنهم من الثوريين...
بالأمس، كان مؤلما أن تشي، الذي آمن طوال حياته بالإنسانية، والصداقة، والإخلاص، والوفاء، والتضحية، وعاش على هذه القيم النبيلة، كان مؤلما ومفجعا أن تنتهي حياته بأن يبيعه رفيق سلاح قديم، نظير حفنة من المال...
لكن الأعظم أن ذلك الألم يمضي، وذلك الدم، الذي قدمه تشي بسخاء، يكنس سدنة الظلم.. ويبقى غيفارا حيا جميلا رائعا شامخا...
رسم لغيفارا في جدارية في حي سان تلمو في عاصمة الأرجنتين بوينيس أيريس
ولذلك، نجد "الكوماندانتي" إرنستو تشي غيفارا، بالأمس واليوم، يعيش في قلوب وعقول الملايين.. وفي موطنه الأصلي، الأرجنتين، تحمل مدارس وثانويات اسمه، والعديد من المتاحف المنتشرة في البلاد تحمل اسمه، عشت في العاصمة بيونس إيرس، وطفت دروبها وأحياءها، وأسواقها، ولمست حب الأرجنتينيين له، أجد صورته في كل مكان، في الجدران، في علب أعواد الكبريت، في مذكرات الجيب...
يمكن لمن يريد، أن يلتقيه، بالخصوص، في حي سان تيلمو العريق، سيجد عددا من البيوتات المرصعة برسومات ضخمة لتشي غيفارا...
في سان تيلمو، وهو أعرق أحياء بوينس أيرس، يلتقي الجميع... الأرجنتينيون جميعا الأثرياء والفقراء... الرفاق وفنانو الشارع والسائحون من كل مكان... العازفون والراقصون... في هذا الفضاء، صادفت عاشقا وعاشقة، يبدو أنهما طالبان جامعيان، يفترشان الرصيف ويبيعان مذكرات جيب بصور تشي غيفارا وكتب لماركس ولينين وريجيس دوبريه وجان بول سارتر وآخرين... التقطتُ مذكرة وبدأت أتأمل صورة غيفارا... ابتسمتْ الفتاة بصفاء، وقال صديقها، بنبرته الإسبانية المحلية، باعتزاز وخيلاء: إنه علامة أرخينتينا...
ابتسمتُ بحب، ووددت لو أقول لهما: إنه علامة أممية، إنه رمز الكادحين والفقراء والشهداء، إنه رمز الحب والحلم والثورة، وددت لو أقول لهما كلاما كثيرا، وأعانقهما، وأحكي لهما حكاية تشي وأحلام أهلنا الطيبين... ومعهم كل الغيفاريين الحالمين بالحرية والديمقراطية والكرامة والعدالة الاجتماعية...
ابتداء من الدقيقة 2 و05 ثواني، تظهر فتاة مفكّرات غيفارا
فيما رفيقها ذهب لمحل مجاور على بعد 5 أمتار لجلب كوب قهوة لرفيقته