السلطان محمد الخامس في موكب رسمي وفي اليسار الطاهر غلاب
غلاب يروي تفاصيل رفع مطلب استقلال المغرب وكيف اندهش السلطان من رفع شعار لأول مرة "عاش الملك"
الكاتب :
حسن عين الحياة
حسن عين الحياة
احتفل المغرب اليوم الأربعاء 18 نونبر بعيد الاستقلال، مسترجعا نضال ملك وشعب ضد الاحتلال الفرنسي من أجل الاستقلال وتحقيق السيادة الوطنية والوحدة الترابية.. وعلى الرغم من غزارة المعطيات التي ركزت على هذا الحدث البارز، ظلت بعض الجزئيات حوله غائبة، والتي من شأنها إعطاء نَفَس آخر للحدث، خاصة وأنها انطلقت على لسان رجل شاهد على كواليس إعداد وثيقة المطالبة بالاستقلال، وفاعل من موقعه في نشرها وتعميمها على المغاربة.. هو الطاهر غلاب، شقيق الكاتب والمناضل الراحل عبد الكريم غلاب.
في هذا البوح الجميل، يصر الطاهر غلاب، على تخصيص شهادته للتاريخ، كاشفا عن أسرار تنشر لأول مرة عن كواليس إعداد وتقديم وثيقة المطالبة بالاستقلال، وكيف وردت لفظة "الاستقلال" أول مرة داخل نواة الحركة الوطنية...
ليس سهلا أن تنبش في الماضي السحيق لمغرب ما قبل الاستقلال، واستحضار تفاصيل وجزئيات عن الحركة الوطنية، غير متداولة، أو مستهلكة إعلاميا، أو مدونة في المراجع التي تناولت المرحلة بنشوة السبق في التأريخ. لكن أن تنطلق أحداث إعداد وتقديم وثيقة المطالبة بالاستقلال، بترتيب مضبوط، على لسان من احتك بالنواة الأولى للحركة الوطنية، وأنصهر في داخلها، فتلك قيمة مضافة، غنيّة وقيّمة، لإعادة تأثيث الحدث، وكشكل من الإنصاف لرجالات ساهموا في ملحمة ثورية، محورها ثورة ملك وشعب من أجل الأستقلال.
هنا، وعن عمر يناهز 97 سنة، يسترجع الطاهر غلاب، بسلاسة منقطعة النظير، سيناريو أحداث ما قبل تقديم وثيقة المطالبة بالاستقلال.. لكن قبل أن يركز على الحدث، يقدم نفسه في سياق تاريخي، لإعطاء قيمة لشهادته. "يكبرني أخي عبد الكريم غلاب بسنتين، فأنا من مواليد سنة 1922، وبالتالي عاشرت الحركة الوطنية في مهدها، لأن المدرسة التي درست فيها بفاس، وكانت عبارة عن كتاب قرآني يسمى (سيدي بناني) ويقال لها (الديوان)، كانت تضم زعماء الحركة الوطنية، كعبد العزيز بن إدريس، وبوشتى الجامعي، وآخرين، ضمنهم علال الفاسي الذي كان يحضر في بعض المناسبات لإلقاء بعض الدروس.. هنا فتحت عينيَّ على الحركة الوطنية، وصاحبتها، وبقيت ملازما لها إلى غاية انتهاء العمل النضالي، بحصول المغرب على استقلاله". يقول الطاهر غلاب، ونشوة النوستالجيا لمغرب العشرينيات، تكشفها ابتسامته الرقيقة والتماعة عينيه الشاردتين.
بداية التحول من السلطان إلى الملك
يصر الطاهر غلاب على القول إن حدث 11 ينار 1944، تاريخ تقديم وثيقة المطالبة بالاستقلال، والتي مهدت لحصول المغرب على استقلاله، عرف بعض التسترات والتظلمات، أو ارتبط تناوله ببعض الجهل، "لكنني أتحدث الآن عن أحداث شاركت فيها وعشتها". يقول الطاهر، قبل أن يسترسل في بوحه، أن الحدث عرف مرحلتين اثنتين، هما التفكير في طلب الاستقلال، ثم انجاز وثيقة 11 يناير.
لكن، قبل التطرق إليهما، وكنوع من التأثيث للحكي عما قبل المرحلتين، يستدرجنا الطاهر غلاب إلى قصة تعلق الشعب بالسلطان محمد بن يوسف، في وقت سقطت قيمة السلطانين مولاي عبد العزيز ومولاي حفيظ في عيونهم. وقال غلاب، إن المغرب عرف فترة من حكم مولاي عبد العزيز، شابتها مشاكل وتلاعبات وطفولات، أسقطت من قيمة الحاكم في عيون الناس، كما أن بعض الممارسات التي قام بها مولاي حفيظ، هوت بقيمته عندهم. لكن بالنسبة لمحمد الخامس، حدثت انعطافة، جعلته محور حب الشعب.
"في عام 1933، زار محمد بن يوسف مدينة فاس، وكان يسمى السلطان وليس الملك. آنذاك، عمِلت الحركة الوطنية، وبذكاء كبير، على أن تجعل من هذا الرجل الذي اختاره الفرنسيون، والذي كان يقال إنه لا يتوفر على الصفة للحكم، (أن تجعل منه) ملكا..."، يحكي غلاب عن لحظة تحول صفة الحاكم في المغرب من "السلطان" إلى "الملك"، مضيفا في الآن ذاته أن علال الفاسي، ألّف وقتها نشيدا سيكون له ما بعده، يقول فيه: يا ملك المغرب... يا ابن عدنان الأبي... نحن جند الفدا.. نحمي هذا الملك...". هذا النشيد، بحسب غلاب، قام أحد الوطنيين بتلحينه، وطاف على عديد من الكتاتيب القرآنية لتلقينه للطلبة، بل شمل التلقين عددا من المعامل في فاس، بما في ذلك فئات الحدادين والدباغين والصباغين وغيرهم من الحرفيين...
مشهد من بروتوكول تحوّل السلطان إلى ملك
"لما دخل السلطان محمد بن يوسف إلى فاس، في موكبه، تبع الموكب شباب يافعون يرددون ذلك النشيد الذي ألّفه علال الفاسي، وردده الناس أيضا"، يحكي غلاب عن قصة تحول الجالس على العرش في المغرب من السلطان إلى الملك. ليتابع في تفصيل دقيق، أن الموكب السلطاني وقتها، كان يتقدمه أولا "مقدمين الحومة" باعتبارهم أدرى بمسالك فاس، يرتدون لباسا فاخرا، ويقبضون على عصي طويلة بأيديهم. ثم يأتي خلفهم باشا المدينة، ثم السلطان الذي يتبعه الوزراء والحاشية.
"عاش الملك" تبهر محمد الخامس
كان البروتوكول وقتها يقتضي من السلطان أن ينزل يوم الخميس في فاس ليزور "السادات"، أما يوم الجمعة فكان مخصصا للصلاة في جامع القرويين.. يقول الطاهر غلاب، ويؤكد موضحا "إذن كان هؤلاء الشباب اليافعون، يتبعون السلطان محمد بن يوسف، ويرددون النشيد ويهتفون (عاش الملك) التي ترددت على ألسنة الناس.. وكان محمد الخامس وقتها أول مرة يسمع هذه الكلمة (عاش الملك) فانبهر... إلى درجة أن موكبه تفكك في غمرة التجمهر، ليبقى وحده على صهوة حصانه والناس من حوله يهتفون باسمه". ويضيف غلاب، أن هذه الواقعة صادفت عدم وجود المقيم العام، فجاء الكاتب العام لنظام الحماية إلى محمد الخامس غاضبا، وقال له، إن المقيم العام قلق، ويتعجب مما جرى لك مع الناس، واصفا تجمهرهم من حوله بـ"الهمجية"، وأضاف "كنا مفتونين بخصوص ما جرى لك، وتملكنا الخوف بعدما كنت وسط الغوغاء، خاصة وأن حياتك كانت في خطر". تعجب الملك محمد الخامس ورد متسائلا: "ماذا جرى لي؟ لم أتعرض لأي مكروه"، لكن الكاتب العام زاد في تساؤله "لكن كيف تفكك الموكب؟ وكيف بقيت لوحدك وسط الناس؟".. آنذاك، أجابه الملك "كان ذلك أمرا عاديا، فالناس كانوا فرحين بي، ولازموني إلى أن وصلت إلى إقامتي...". ليتدخل الكاتب العام مرة أخرى: "يقول لك المقيم العام، لن تنزل غدا إلى المدينة، وسيكون من المستحيل أن تنزل إلى القرويين للصلاة، لأننا لا نستطيع أن نؤمّن لك الحماية، وبالتالي يجب أن تصلي في مسجد القصر". رفض محمد الخامس هذا الأمر، فاقترح عليه الكاتب العام أن يصلي في مسجد في بوجلود، فرفض محمد الخامس ذلك أيضا، ورد: "البروتوكول يلزمني بالصلاة في القرويين، ولا يمكن أن أصلي إلا في القرويين.. وبلغ كلامي هذا للمقيم العام...".
هنا، يقول الطاهر غلاب، وقع تحول في الفكر السياسي في المغرب، بحيث إن السلطان، أصبح ملكا، وأنه أصبح يحظى بعطف من قبل الشعب، والأكثر من ذلك، أصبح لأفراد الشعب ملك يلتفون حوله.. وكان ذلك، بحسب تعبير غلاب، ذكاءً كبيرا من الحركة الوطنية، سيما وأنها اختصرت من خلاله المسافة ليصل الملك إلى قلب الحركة، ولم تعد بينهما مسافة. بعدها، يسترسل غلاب في حكيه، كتبت بعض الصحف الفرنسية، أن "الملك خرج غاضبا من فاس بعد (الهمجية) التي لقيها هناك".. فقام الملك محمد الخامس بتكذيب هذه الأخبار تكذيبا واضحا، وأرسل في طلب الباشا لكي يستقدم له علال الفاسي والهاشمي الفيلالي وعبد العزيز بن إدريس، كي يشكرهم، ويبلغون عنه لفاس وأهل فاس أنه راض عنهم...
اليوم تم تنصيب محمد الخامس ملكا
خلال تلك السنة، يقول غلاب، وتحديدا في 18 نونبر 1933، الذي يصادف عيد العرش، توجه عدد من الشباب إلى محل يقال له "جنان السبيل" يضم عددا من المقاهي التي تذيع موسيقى المشارقة.. "كنت واحدا من هؤلاء، إذ جاء من يقول لنا، "(ياالله طلعوا لجنان السبيل راه كلشي مخلص).. فتساءلنا عن سبب هذا الكرم، فقيل لنا (كاين واحد المناسبة كبيرة.. هي "عيد العرش") ولكم أن تتصوروا أننا وقتها لم نكن نعرف من الأعياد سوى العيد الكبير والعيد الصغير وعيد المولد النبوي.. لكن يأتي التأكيد مرة أخرى في غمرة تساؤلاتنا أن هناك عيدا آخر اسمه عيد العرش، وأن اليوم تم تنصيب محمد الخامس على عرش المغرب.. وفي عام 1934 صدر قرار إداري رسمي بتخصيص هذا اليوم عيدا للعرش في المغرب، وأصبح هذا العيد بالنسبة لنا هو الفسحة الكبرى لنطلق ألسنتنا، بحيث كنا نحث الناس على أن تجتمع في بيوتها حول الشاي، ونذكرها بأن عضوا من الحركة الوطنية سوف يزورها، وكانت الحركة نصبت عددا من الشباب كي تخطب في الناس وتبث بينهم أفكارها.. وهنا انفتح الباب أمام الوطنيين للعمل في الحواضر والمدن من أجل التصدي للمستعمر". ويعتبر الطاهر غلاب أن هذا النبش في أسرار التحول الذي عرفته الحركة الوطنية في علاقتها بالملك، سيؤدي إلى شيء آخر، هو خبايا حدث إعداد وتقديم وثيقة المطالبة بالاستقلال.
أول من تلفظ بكلمة "الاستقلال"
قبل الحرب العالمية الثانية، يقول الطاهر غلاب، كان المقيم العام الفرنسي نوغيس، قد ضرب بقوة الحركة الوطنية، فتم اعتقال بعض الوطنيين، وتعذيب آخرين، ما أدى إلى سقوط عدد من الشهداء.. وهذا جعل الحركة الوطنية في سكون واضح.. "ذلك أن نوغيس نفى علال الفاسي إلى الغابون، وفرض الإقامة الجبرية على بلحسن الوزاني في جبل بالجنوب المغربي، فيما تم تعذيب الوطنيين، وبالتالي لم يكن هناك من يتحرك أو يكلم".. ويضيف الطاهر غلاب أنه بعد اندلاع الحرب العالمية الثانية، أعلن الملك محمد الخامس أن المغرب سيشارك في هذه الحرب مع الحلفاء. وبعد دخول الأمريكان إلى المغرب، حدث نوع من الانفراج في الظروف السياسية في المغرب والعالم أيضا، وبدأ الناس يتطلعون إلى أنه بعد الحرب، سيتم تصفية الاستعمار.. لكن دون تلقي وعد بذلك".
ويضيف الطاهر غلاب مبرزا أنه "في بداية عام 1944، التأم جمع الحركة الوطنية، خاصة وأن من كانوا في الخارج دخلوا المغرب، كأحمد بلافريج ومحمد اليزيدي والحاج عمر بن عبد الجليل ولفقيه محمد غازي... هؤلاء قالوا إن الحرب على وشك النهاية، ولابد أن نضع ركيزة قوية نعتمد عليها في مطالبنا.. فالمطالب التي رفعناها عامي 1934 و1937 أصبحت متجاوزة ولا ينبغي تكرارها، وبالتالي، يجب التفكير في مطلب جديد، يظل هو الرمز الذي ندافع عنه إلى آخر رمق.. آنذاك، تدخل الحاج أحمد بلافريج وقال "ماكاين إلا الاستقلال.. خاصنا نطالبوا بالاستقلال"، وكان أول من تلفظ بها آنذاك.. هذه الكلمة كانت تشق السمع، وكان كل من ينطق بها آنذاك، يعرف أنه سائر نحو الإعدام"...
وثيقة المطالبة بالاستقلال كُتبت بخط عبد الوهاب الفاسي وبقلم بحوزة أحمد مكوار
بحسب الطاهر غلاب، حبذ كل هؤلاء الزعماء الفكرة، وقاموا بتوسيع الدائرة مع الشباب التابعين لهم، ثم قرروا عدم البدء في أي عمل إلا بعد التشاور مع الملك محمد الخامس، خاصة وأنه كان يزورهم بين فينة وأخرى، أو يحج إليه عضوان من الحركة أو أكثر للتشاور، أو التداول في مذكرة قادمة من الفرنسيين قصد دراستها وإبداء الرأي فيها.. لذلك، يقول غلاب "ذهب بعض هؤلاء الزعماء إلى محمد الخامس، وقالوا له إن تلك المطالب القديمة جعلتنا كما لو أننا ندور في حلقة مفرغة.. والآن خرجنا بقرار جديد، هو طلب الاستقلال، فكان جواب الملك واضحا، بحيث قال لهم "أنا معكم، وبالفعل، هذا هو الحق".. بعدها، التأموا جميعا وأعدوا مذكرة أو وثيقة ارتكزوا فيها على عدة نقط، ضمنها أن المغرب شارك في الحرب العالمية كبقية الدول المشاركة، وأنه لا يرى جزاء لجهوده ولا لمستقبل العلاقات بينه وبين فرنسا إلا أن ينال استقلاله، وأعتقد أن من كتبها بخط يده، هو أحد الشخصيات البارزة في القرويين، وكان صديقي، هو سيدي عبد الوهاب الفاسي، ابن عم علال الفاسي، لأنه كان يكتب بخط جميل، كما أن الوثيقة كُتبت بقلم ظل موجودا في منزل السي أحمد مكوار".
توقف الطاهر غلاب قليلا، وسرح ببصره نحو صورة معلقة قبالته على الحائط، وهي نسخة طبق الأصل من وثيقة المطالبة بالاستقلال.. ثم استرسل "هذه الوثيقة طاف بها الوطنيون على الناس، فوقَّع عليها كثيرون، من الدارالبيضاء ووجدة وباقي المدن المغربية.. قبل ذلك، كنا آنذاك ننسخها بواسطة الأقلام والورق، وكنا ممنوعين من مغادرة المكان قبل أن يتوصل بها الملك من قبل الوفد المكلف بحملها إليه، لكن بمجرد خروجنا استقبلها الناس بفرحة كبيرة، كما لو أنهم حصلوا على الاستقلال في ذلك اليوم، ومن ثمة أجمعنا وقتها على شيء واحد هو الاستقلال". آنذاك، يضيف الطاهر غلاب، تحولنا إلى نقطة أخرى، هي تأسيس هيئة، وطالبناها بإنجاز رسائل تؤيد وثيقة المطالبة بالاستقلال مع التوقيع عليها.. "وقتها خرجنا في يوم واحد، بالمئات، وتوصل محمد الخامس بعرائض التأييد من جميع أنحاء المغرب، ليصل عددها إلى أزيد من مليون عريضة وتم تقديمها إلى المقيم العام، كدليل على أن الاستقلال يحظى بإجماع وطني".
الاستقلال مطلب واحد في دول متفرقة
ومن عجائب الصدف، يقول الطاهر غلاب، أن كلمة "الاستقلال"، ودون أي تنسيق مسبق، وردت في الآن ذاته في أكثر من بلد على ألسنة الوطنيين.. "كلمة الاستقلال اهتدت إليها جماعتنا في مكتب المغرب العربي بالقاهرة للدفاع عن استقلال دول المغرب العربي، وكانت تضم عبد الكريم غلاب وأحمد بلمليح وآخرين.. هؤلاء قدموا بدورهم وثيقة إلى السفارة الفرنسية في القاهرة يطالبون فيها بالاستقلال.. كما أن علال الفاسي ودون تنسيق مع الوطنيين في المغرب، قدم من الغابون إلى الجنرال دوغول مطلب استقلال المغرب، أما عبد الخالق الطريس، فقدم من شمال البلاد طلب الاستقلال إلى إسبانيا..."، كانت هذه واحدة من الصدف أو المعجزات كما أسميها، يقول الطاهر غلاب، الذي مازالت ذاكرته تحتفظ بكثير من التفاصيل عن مسيرة المغرب التحررية...