هكذا استلهم الحسن الثاني فكرة بنائه.. أسرار الجدار الأمني الذي أفشل خطط الجزائر والبوليساريو
الكاتب :
حسن عين الحياة
حسن عين الحياة
بين سنتي 1987 تاريخ الانتهاء من بناء الجدار الأمني بالصحراء المغربية، ونونبر 2020 التي عاد فيها الحديث عن هذا الجدار، خاصة بعد تطهير القوات المسلحة الملكية لمنطقة الكركارات من ملشيات البوليساريو التي عرقلت انسيابية تنقل الأفراد والبضائع بالمنطقة، تكون قد مرت على تشييد الحسن الثاني لهذا الجدار حوالي 33 سنة، وهو حسب أحد الخبراء الاستراتيجيين، معلمة تاريخية عسكرية لم يسبق للبشرية أن عرفت مثيلا لها على مر التاريخ.. ذلك أنه بالرغم من بساطته، من حيث الشكل، وكونه ظل محاطا بهالة من الصمت والسرية، لطبيعة الأسرار الحساسة التي يتضمنها، إلا أن وظيفته الأمنية دقيقة للغاية، وتقول عنه كل شيء.
فعلى امتداد 2720 كيلومترا، يمتد هذا الشريط الرملي من منطقة آسا الزاك إلى الحدود المغربية الموريتانية، وبفضله تمكّن المغرب من صد هجمات مليشيات البوليساريو، والحد من التسربات والاختراقات التي كانت تتم بين الفينة والأخرى للانفصاليين والمخابرات الجزائرية، ممن كانوا يحترفون الاختطاف والتقتيل في حق سكان الصحراء المغربية.
الجدار، بالإضافة إلى طوله، هو عبارة عن مرتفع رملي يتباين علوه بين 4 و6 أمتار في بعض المناطق، وعرضه يبلغ 6 إلى 100 متر ببعض الجهات، ذلك أنه أكبر من مجرد شريط رملي وخنادق، حيث يضم مواقع محصنة متقاربة في ما بينها ومستقلة، مزودة بوحدات تكنولوجية غاية في الدقة. كما تجوب المواقع دوريات عسكرية وظيفتها الأساسية المراقبة الأمنية والحد من تسربات مقاتلي البوليساريو، ومنعهم من الاختراق والتسرب نحو المناطق المغربية.
وتبعا لمصادر خاصة، فإن الجدار يقوم بوظائف غاية في التعقيد، ففضلا عن حمايته للأقاليم الجنوبية، يضم قواعد تكنولوجية متطورة للرصد، ويجمع بين المراقبة والترصد والتنصت والمتابعة الدقيقة والاتصالات السلكية واللاسلكية، مع ضمه لمختلف أنواع الأسلحة التي قد يحتاجها الجيش للدفاع عن الوطن، فضلا عن يقظة متواصلة على مدار 24 ساعة وطيلة أيام الأسبوع، ذلك أنه بفضل الجدار الأمني، حسب مصادرنا، ليس المغرب في حاجة إلى طائرات استطلاع بالرغم من وجودها، حيث بإمكان هذه المعلمة العسكرية أن ترصد ما يجري في عمق مراكز الخصوم بدقة عالية. وهو ما أكده، اليوم الأحد، حساب "FARMAROC" بالفايسبوك، حين أوضح أنه انتهى زمن حرب العصابات مع ملشيات البوليساريو، وذلك "بوجود الحزام الأمني الذي يُفقد تقنية حرب العصابات معناها، حيث يمكن التنبؤ بأي حركة معادية في كافة المناطق العازلة التي تشكل أكبر مصيدة للفئران بالعالم". وأضاف "الأقمار الصناعية والطائرات بدون طيار وكذا طائرات الاستطلاع وسلسلة الرادارات المنتشرة على طول الحزام الأمني تجعلنا نراقب حتى تحركات النمل بالمناطق العازلة".
لكن قبل الحديث عن بنائه، وخصوصياته وتفرده عن باقي الجدارات في العالم، ينبغي تسليط الضوء عن الأسباب التي دفعت بالملك الراحل الحسن الثاني إلى تشيده في مطلع الثمانينيات من القرن الماضي، وكيف اهتدى إلى الفكرة من بين عشرات الأفكار.
لهذه الأسباب تم التفكير في بناء جدار أمني
ظل الجيش المغربي، منذ سنة 1975 وإلى غاية 1987، خاصة في المناطق الجنوبية وجزء من الصحراء الشرقية، رغم سيطرته شبه المطلقة على المنطقة، يعاني من اختراقات مليشيات البوليساريو التي كانت تعيث في الأرض فسادا عبر حرب العصابات.. إضافة إلى محاولات المؤسسة العسكرية الجزائرية الحثيثة لافتعال مشاكل في الصحراء، كنوع من التشويش، والانتقام لخسارتها الفادحة في "حرب الرمال" سنة 1962، والتي كاد المغرب فيها أن يصل بجيشه إلى قلب وهران الجزائرية.
في هذه المرحلة (1975)، التي دشنها المغرب بانتصار كبير على الآلة الاستعمارية الإسبانية، من خلال المسيرة الخضراء، والتي استرجع بفضلها المغرب أقاليمه الجنوبية، دخلت المملكة منعطفا آخر، بعد أن شرعت الجزائر في دعم كيان على أرضها حمل اسم البوليساريو، تحرض من خلاله على الانفصال في المنطقة، وهو مشروع دعّمه الرئيس الجزائري هواري بومدين بالمال والسلاح والجيش لتغذية إرادة الهيمنة على شمال إفريقيا من جهة، وللوقوف ضد إرادة المغرب الذي كان قد استرجع للتو حقوقه على أراضيه في الجنوب، بناء على اتفاقية مدريد وحكم محكمة العدل الدولية بلاهاي من جهة ثانية.
تقول معطيات تاريخية إنه مباشرة بعد استلام الجيش المغربي القيادة والسيطرة على الساقية الحمراء، بناءً على اتفاقية مدريد سنة 1975، جُن جنون الرئيس الهواري بومدين، لم يهدأ له بال، ولم يستقر به مقام، وهو يشاهد كيف أخذ المغرب، بقيادة الملك الراحل الحسن الثاني، يستعيد عافيته بالجنوب، فكان أن أرسل كتيبة من عناصر المخابرات إلى الإقليم لاستقطاب، بوسائل إغرائية، العناصر الصحراوية التي كانت منضوية تحت لواء الجيش الإسباني، سيما المنتمين للقبائل الكبرى بالصحراء المغربية كـ"الركيبات، ولاد الدليم والبيهات" من أجل الانخراط في جبهة البوليساريو، أو بالأحرى لصناعة شعب وهمي يروج للانفصال من قلب الجزائر بتندوف.
لكن الوظيفة الخطيرة لكتيبة المخابرات الجزائرية، خارج لعبة الإغراء والاستقطاب، هي تطبيق سياسة الأرض المحروقة للرئيس بومدين بالمنطقة، حيث كان يتم اختطاف كل عائلة صحراوية من الأراضي المغربية تعارض النزوح نحو مخيمات لحمادة بتندوف، وإخراج سكان الصحراء بالاعتماد على منطق القوة والتخويف والابتزاز والقتل...
وحسب المعطيات ذاتها، ظلت هذه الاختراقات تقض مضجع الجانب المغربي، خاصة وأن الجزائر أكسبت صنيعتها البوليساريو خبرات حرب العصابات من عدة دول، كـ"فيتنام وكوريا الشمالية وكوبا وبعض البلدان في أوربا الشرقية"، حيث كانت بعض العصابات تنفذ في جنح الظلام عمليات غادرة ضد وحدات من الجيش المغربي المرابط بالصحراء، ويحدث أن تخترق عناصر من البوليساريو الأراضي المغربية لتدخل إلى إحدى المدن وتنفذ جرائم الذبح والقتل والاختطاف. لكن الجيش المغربي لم يكن يقف مكتوف الأيدي، ذلك أنه تصدى إلى العديد من الهجمات وأسقط آلاف القتلى والجرحى من عناصر البوليساريو، وأنقذ آلاف الصحراويين من همجية الانفصاليين الذين كانوا ينفذون جرائم بشعة للغاية، من اغتصاب وقتل وتشويه الجثث وجز الرؤوس وبقر البطون وقطع الأصابع وجذع الأنف وفقء العينين وسلخ فروة الرأس...
لقد كانت كل جرائم البوليساريو ووحدات الجيش الجزائري المدعومة بالدبابات الصغيرة وقذائف الـ(RBG) و(SAM7) المحمولة على الأكتاف وغيرها من أنواع السلاح، تصل في شكل تقارير إلى الرباط، حيث يوجد الملك الراحل الحسن الثاني، القائد الأعلى للقوات المسلحة الملكية ورئيس أركان الحرب العامة.
كان الملك آنذاك، يعرف جيدا أنه يتوفر على جيش قوي ذي خبرة عالية في حروب الصحراء، إذ كان بإمكانه، حسب بعض الاستراتيجيين، أن يوقف هجمات العدو بتنفيذ غارة واحدة وهجوم خاطف يزيل جبهة البوليساريو من الوجود، ويعيد الآلة العسكرية الجزائرية إلى الإحساس بعقدة أخرى تنضاف إلى عقدة حرب الرمال سنة 1962، لكنه كان يعرف أن أي عمل من هذا النوع قد يؤلّب المنتظم الدولي ضده، خاصة أنه تمكن بحكمة من استرجاع العديد من الأقاليم بالصحراء المغربية بطريقة سلمية عبر المسيرة الخضراء، لذلك أخذ الحسن الثاني يفكر بحكمة في طريقة ناجعة، تمتد إلى أمد طويل للحد من اختراقات البوليساريو وهجمات وحدات الجيش الجزائري ببعض المناطق المغربية. وهنا تولدت فكرة بناء جدار أمني يفصل بين المغرب وخصومه، بل ويدفعهم إلى التفكير في كيفية إنهاء الحرب، مع تأمين المناطق المغربية من الهجمات التي كانت تتم بشكل خاطف وغادر من طرف العدو.
لقد تناولت العديد من التقارير والقصاصات الغربية، قصصا عن الجدار الأمني بالصحراء المغربية، لكنها كانت في غالب الأحيان، وفق بعض الخبراء في الشأن العسكري والاستراتيجي، مجرد انطباعات، ربما لأن المعلومات حوله شحيحة، أو لغياب مصادر عليمة من شأنها تزويد الباحثين بمعلومات كافية لتشكيل "بروفايل" عن جدار يعتبر إلى حدود الآن من قبيل "المعجزة".
اليوم نعود إلى أصل حكاية الجدار الأعجوبة، ونرتب المعطيات حول هذه المعلمة العسكرية الفريدة من نوعها في العالم، ونبرز قصة تشييده سنة 1980، وكيف قلب موازين القوى بالمنطقة، وكيف اشتغل الملك الراحل الحسن الثاني رفقة نخبة من العسكريين والمهندسين ليلا ونهارا لبنائه في ظرف قياسي لم يتجاوز 7 سنوات.
في هذا الملف، سنكتشف معا أسطورة الجدار الأمني المغربي، أصل فكرته، أسراره، كلفته، محاولات تحطيمه من طرف الجزائر ودول أخرى، وأيضا فعاليته في وقف إطلاق النار بين المغرب والبوليساريو، إضافة إلى معطيات تنشر لأول مرة عن دهاء الملك الراحل الحسن الثاني في بنائه.
الدوافع الأساسية التي جعلت إنشاء الجدار الأمني
في الصحراء غاية ملحة عند الحسن الثاني
ظل الملك الراحل الحسن الثاني منذ استرجاعه للأقاليم الجنوبية، يفكر في وسيلة من شأنها تأمين المكتسبات على الأرض، كان هدفه الأساسي أن تظل الصحراء في مغربها، وأن يجعلها تتمتع بالأمن مثل باقي المناطق بالتراب الوطني. لكن الطرف الآخر، الجزائر وصنيعتها البوليساريو وقفا ضد إرادة الملك والمغاربة، وانخرطا في مشروع يدعم الانفصال في المنطقة، عبر مخطط مدروس ومدعوم من عدة دول في إطار صراع إيديولوجي بائد، تعتبر قضية الصحراء واحدة من مخلفاته الأقدم على الإطلاق.
تقول معطيات عسكرية إنه بتاريخ 25 دجنبر 1975، أي بعد 50 يوما من حدث المسيرة الخضراء في 6 نونبر 1975، ألمحت الجزائر إلى أن منطقة تندوف ستعرف حدثا ذا أهمية قصوى، ذلك أنه لم يمر سوى شهرين فقط ليتم الإعلان في 27 فبراير 1976 عن ميلاد جبهة البوليساريو... آنذاك فهم المغرب أن الجزائر تسعى إلى التشويش على أمنه واستقراره، وهي التي لم تبلع بعد مرارة هزيمتها الثقيلة سنة 1962، فيما سمي بحرب الرمال، ذلك أن المنطق الجزائري، كان يقول آنذاك، إن المغرب الذي استرجع صحراءه من الاستعمار الإسباني، لن يهدأ له بال دون المطالبة باسترجاع صحرائه الشرقية التي ضمها الاستعمار الفرنسي للتراب الجزائري، لذلك كانت العقيدة الجزائرية تقول بضرورة خلق أزمة بالجنوب تصرف أنظار المغرب عن الصحراء الشرقية.. وهكذا، لم تمر سوى اشهر قليلة على تأسيس البوليساريو، حتى أخذ الجيش الجزائري في استفزاز المغرب بحدوده الشرقية، حيث دخل الجيشان المغربي والجزائري سنة 1976 في "معركة أمغالا" والمنسوبة إلى منطقة مغربية تبعد عن تندوف بحوالي 380 كلم، وقد أسفرت عن مقتل حوالي 200 جندي جزائري وأسر أزيد من مائة آخرين، إضافة إلى غنيمة العديد من صواريخ (SAM7) والرشاشات والسيارات والشاحنات العسكرية، وكان من نتائج هذه المعركة أن تقدم الجيش المغربي إلى بئر لحلو وتيفاريتي والمحبس وكلته زمور، ليصبح مسيطرا على عدة نقاط استراتيجية.
بعد ذلك، توالت الحروب والمعارك بين الجيشين، وكان الجانب الجزائري ينفذ اعتداءات على الحدود المغربية ليواجه بصرامة، غالبا ما تخلف عشرات القتلى في صفوف الطرف الخصم الذي أخذ آنذاك يستعين بمئات المقاتلين من البوليساريو.
ففي 11 غشت 1979، دخل الجيشان في معركة حاسمة حملت اسم "بئر أنزران"، وهي حسب الإخصائيين من أكبر المعارك في الصحراء، وكان المغرب قد انتصر فيها لتمرسه في الميدان، حيث استعمل فيها الطيران الحربي، من خلال غارة جوية على قافلة تظم حوالي 500 سيارة "جيب" وأخرى مصفحة، فكان أن قتل الجيش المغربي حوالي 500 من عناصر البوليساريو، فيما استشهد من المغاربة 125 جنديا، لكن بفضل هذه المعركة، تمكن الجيش المغربي بعد 5 أيام من دخول إقليم وادي الذهب، بعدما نفضت موريتانيا يدها من المنطقة في 14 غشت 1979.
لقد خاض الجيش المغربي عدة معارك ضارية ضد الجيش الجزائري، قبل أن تنتقل المعارك إلى حروب مع جبهة البوليساريو المدعومة من جزائر بومدين، الرئيس الذي كان أشد عداء للمغرب.
فبين سنتي 1979 و1983، نفذت عناصر البوليساريو عدة هجمات على مناطق مغربية، تصدى لها الجيش المغربي بقوة، إذ نفذت عصابات الجبهة التي وصلت في بعض الأحيان إلى 4000 عنصر هجمات على كل من بلدة لمسيد والسمارة وحامية المحبس ومنطقة بوكراع ومركز أبطيح والزاك وبوجدور ومنطقة بين بوكراع والعيون وأقا وكلته زمور وطانطان وطرفاية ومحاميد الغزلان وطاطا ومناطق أخرى... لكن الجيش المغربي كان في أغلب المعارك يرد بالمرصاد، حيث ظل يستعمل الطيران الحربي، بالإضافة إلى القوات البرية في مواجهة الأعداء، مما أسفر عن تحقيق عشرات الانتصارات التي أربكت الخصم، خاصة وأنه خسر في ظرف ثلاث سنوات فقط أزيد من 6000 قتيل وآلاف الجرحى والأسرى من الانفصاليين، لكن بالرغم من كل هذه الانتصارات، إلا أن الملك الراحل الحسن الثاني لم يرفل له جفن، خاصة وأن جبهة البوليساريو بالرغم من خساراتها الفادحة في الأرواح والعتاد، ظلت تنفذ اخترقات إلى داخل التراب المغربي، لذلك فكر الحسن الثاني في وسيلة ناجعة من شأنها جعل الطرف الآخر يتراجع ذاتيا عن المواجهة مع المغرب.
هنا، تقول مصادر مطلعة، اجتمع الملك الراحل مع نخبة من العسكريين والاستراتيجيين والمهندسين في المجال العسكري من أجل ابتكار فكرة ناجعة لدفع البوليساريو والجزائر إلى الاندحار وعدم تكرار أي اختراق أو هجمة مباغتة لوحدات الجيش المغربي والمناطق المغربية، فكان أن جاءت فكرة إنشاء جدار أمني طويل يصد هجمات الخصوم.. لكن كيف برزت هذه الفكرة ومن صاحبها؟
فكرة سديدة للبشير الفكيكي وراء بناء الجدار الأمني
في عز اجتماع الملك الراحل الحسن الثاني مع كبار رجالاته، وانشغاله بإيجاد فكرة عسكرية تمنع عناصر البوليساريو من تنفيذ اختراقات إلى داخل عمق المملكة، كان ضمن من حضروا الاجتماع حسب المختص في الدراسات العسكرية والاستراتيجية عبد الرحمان مكاوي، إدريس البصري ومحمد البشير الفكيكي وبعض الجنرالات والمهندسين العسكريين. فكان أن اقترح البشير الفكيكي، في عز النقاش، على الحسن الثاني فكرة بناء جدار أمني بالصحراء. وكان الرجل بالإضافة إلى كونه مستشاراً سياسيا لوزير الداخلية آنذاك، مهندسا محنكا تعلم في سوريا والعراق وبريطانيا، فضلا عن كونه مقاوما كبيراً، حيث كان من رفاق الشهيد محمد الزرقطوني كما كان في القيادة الرابعة للمنظمة السرية في الدارالبيضاء. فالرجل لم يطرح فكرة بناء الجدار الأمني بالصحراء فقط، بل أقنع الحسن الثاني الذي كان على دراية واسعة بالعلوم العسكرية بجدوى تشييد الجدار، حيث قال له: "إن الفكرة مبنية على نظرية "النخلة والطوفان"، ففي منطقة فكيك، يقولون (من أراد أن يحافظ على النخلة عليه أن يُحَوِّطَها"، أي أن يُسَيِّجَها بجدار أو خندق حتى لا تجرفها السيول.
لقد كانت الفكرة حكيمة بالقدر الذي جعلت الملك الحسن الثاني ينهمك في كيفية إسقاطها على أرض الواقع، وكيف ينقل النظرية من الحفاظ على النخلة من السيول، إلى الحفاظ على المنطقة من اختراقات البوليساريو..
وانطلاقا مما توصلنا إليه من معطيات، لم يكن الأمر سهلا بالنسبة للحسن الثاني، ذلك أن جزءا من المنطقة الشرقية والمنطقة الجنوبية كانت عارية تماما أمام خصوم الوحدة الترابية، وبناء جدار فاصل أمامهم يتطلب جهدا كبيراً واستراتيجية محكمة تمنع أي اختراق محتمل للأعداء، إضافة إلى كيفية الاهتداء إلى بنائه دون أن يفصل بين القبائل المغربية، وعدم تشويه المنطقة، بل وإمكانية إزالته في حال تم الحل النهائي لقضية الصحراء، لذلك دخل الملك الراحل إضافة إلى خبراء ومهندسين بالقوات المسلحة الملكية في ما يشبه "العصف الذهني" لتنفيذ الفكرة على أرض الواقع مع مطلع الثمانينيات، بالاعتماد على وسائل محلية، وفي سرية تامة.
الحسن الثاني يستحضر سور الصين وجدار برلين
ويقتدي بغزوة الخندق لبناء الجدار الأمني
قبل تنفيذ فكرة محمد البشير الفكيكي على أرض الواقع، طلب الملك الراحل الحسن الثاني، وفق مصادر متطابقة، من بعض رجالاته مده بدراسات مفصلة عن مختلف الجدارات في العالم، بما فيها القديمة، للاستفادة من تجاربها والبحث عن ثغراتها ومكامن القوة فيها للخروج بفكرة مغربية مائة في المائة. ذلك أنه أخذ من سور الصين العظيم، وجدار برلين وجدار ستالينغراد، وجدار موريس الذي أقامته السلطات الاستعمارية بين تونس والجزائر، وكذا جدار شارل دوغول الذي وضعه الفرنسيون بين المغرب والجزائر، وجدارات أخرى في محاولة لبناء جدار مغربي أمني صلب ومانع لأي اختراق. بل إن الحسن الثاني، حسب عبد الرحمان مكاوي، استفاد حتى من غزوة الخندق التي اقترح فيها الصحابي سلمان الفارسي على الرسول عليه الصلاة والسلام، حفر خندق كبير حول المدينة لمواجهة قريش.
وتبعا للمعطيات المحصل عليها، عندما نضجت الفكرة لدى الجالس على العرش آنذاك، شرع الجنود المغاربة سنة 1980 بتوجيهات من رؤسائهم ومتابعة حثيثة ودقيقة من الحسن الثاني في بناء جدار أمني، من خلال حفر خنادق طويلة انطلاقا من منطقة آسا الزاك، ورفع الرمال لتأخذ شكل كتبان رملية، بلغ علوها ما بين 4 و6 أمتار، فيما كان عرض الجدار يصل في بعض المناطق إلى 100 متر، وهكذا تمكن الجيش المغربي في ظرف قياسي من بناء هذا الجدار الذي يعتبر إعجازا عسكريا في مدة زمنية لم تتجاوز سبع سنوات، خاصة وأن طوله امتد إلى الحدود الموريتانية على مسافة 2720 كلم، علما أن تكلفته وفق تقديرات بعض الدراسات العسكرية الأمريكية والفرنسية والإسبانية، تباينت بين 3 و7 ملايير دولار خلال 7 سنوات.
الجزائر والبوليساريو يشتريان خبرات دولية لتحطيم الجدار
خلال بناء الجدار الأمني بالصحراء، لم تقف الجزائر والبوليساريو مكتوفتي الأيدي، ولم تأخذا وضع المتفرج لما يجري في صفوف الجيش المغربي المنهمك في الحفر وجرف الرمال والصخور، بل ظلتا تناوران في محاولة للاختراق إلى العمق المغربي، لكن القوات المغربية ظلت تصد الهجمات، ليس تلك الموجهة للداخل فحسب، بل حتى تلك التي كانت تنفذ ضد عناصر الجيش المغربي التي تشتغل ليلا ونهارا في تشييد الجدار.
في هذا الصدد، تقول مصادر عايشت سير الأشغال آنذاك، أن الجزائر والبوليساريو استغلا نفوذهما ببعض دول العالم من أجل البحث عن وسيلة فعالة لمنع المغرب من تنفيذ فكرته في تشييد معلمته العسكرية، حيث حاولا شراء خبرات بعض الخبراء في العالم المتخصصين في المجال العسكري، كالجنرال الفيتنامي الشهير "جياب" وخبرات بعض الدول ذات الباع الطويل في الحروب ككوبا، وبعض دول أوربا الشرقية المنضوية آنذاك تحت لواء الاتحاد السوفياتي، وألمانيا الشرقية (قبل هدم جدار برلين) وكوريا الشمالية، لكن بالرغم من كل هذه الخبرات لم تتمكن الجزائر والبوليساريو من تحطيم متانة الجدار الذي كان وقت ذاك في طور البناء.
وحسب مصادرنا، لم تكن سبع سنوات (عمر بناء الجدار) قصيرة عند الجنود المغاربة، فخلافا لما يعتقده البعض، كانت طويلة جدا. ذلك أن العمل كان متواصلا بالليل والنهار، بل وكان يتم تحت هجمات البوليساريو والجزائر، من خلال قذائف الغراد والكاتيوشا... وفي هذا الصدد يقول عبد الرحمان مكاوي "لقد كان هناك جيش مغربي يحارب الخصوم وآخر يبني الجدار.. في الوقت نفسه، كان الحسن الثاني ينتقل سراً إلى حيث يجري البناء بوتيرة سريعة، كان يلتقي الضباط ويناقش معهم آخر الترتيبات، وفق كل ذلك كان بخبرته العسكرية محبوبا عند الجنود، حيث اقتسم وإياهم بالخنادق الرغيف نفسه"... وهكذا، ومع مطلع سنة 1984، أخذت وتيرة هجمات البوليساريو تقل، قبل أن تنعدم مع توالي السنوات، بفضل قوة وصلابة الجدار الذي أصبح يدرس بالعديد من الأكاديميات العسكرية في العالم، كمعلمة عسكرية فعالة وغير مسبوقة في تاريخ البشرية، بل إنه (الجدار الأمني) كان عاملا حاسما في وقف إطلاق النار بين المغرب والبوليساريو سنة 1991.
وحسب سعيد الصديقي، أستاذ العلاقات الدولية والقانون الدولي، فإن بناء الجدار الأمني يعكس تطوراً واضحا في العقيدة العسكرية المغربية مع بداية الثمانينيات من القرن الماضي، ذلك أن القوات المسلحة الملكية، وفق الصديقي، توجهت إلى تأمين الأقاليم الصحراوية انطلاقا من استراتيجية دفاعية شاملة، ممهدة لمرحلة وقف إطلاق النار والبدء في المسلسل السلمي لحل النزاع.
وقال الصديقي إن الجدار الأمني استطاع أن يضيق هامش المناورة عند جبهة البوليساريو، ويفرض عليها التكيُّف مع الوضع الجديد الذي أوجده الجدار الرملي، وهذا ما يفسر الانخفاض الكبير لعدد هجمات عناصر البوليساريو بمجرد الانتهاء من عملية بناء الجدار، لتتوقف بعد ذلك الأعمال العسكرية من الجانبين، وأضاف الصديقي، أن الجدار بعدما عجل بوقف إطلاق النار، دفع جبهة البوليساريو إلى الإحساس بأن استمرار الحرب مكلف جدا لها، وأن كل عملياتها العسكرية بعد بناء الجدار الأمني هي مجرد انتحار جماعي لأفرادها، نظرا لكون الوظيفة الأساسية له هي أمنية بالدرجة الأولى.