أسرار العلاقات الاستثنائية بين المغرب والإمارات.. قصة الشيخ زايد ودوار القواسم بإقليم الجديدة

يلتفت كثيرون اليوم، بقدر كبير من التقدير إلى طبيعة العلاقات المغربية الإماراتية، الممتدة على مدى عقود من الزمن، بالقدر الذي جعلها حاليا مثالا يحتذى به في مجال العلاقات الثنائية بين بلدين في الرقعة الجغرافية العربية.

 

 

ولا غرابة أن هذه العلاقة المتينة، تعكسها طبيعة العلاقة القوية التي تربط بين قائدي البلدين، الملك محمد السادس والرئيس الإماراتي الشيخ خليفة بن زايد آل نهيان، ومن خلفهما، التقارب القوي الذي ميز علاقة الرئيس الراحل الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان والملك الراحل الحسن الثاني، والتي كان لها أثر بارز في التأسيس لمجالات واسعة من التعاون بين المغرب والإمارات العربية المتحدة، ارتقت إلى مرتبة الشراكة الاستراتيجية القائمة على ركائز متينة ضاربة في القدم. لتصبح هذه الدولة الخليجية الوازنة في محيطها، حاليا، أول بلد عربي مستثمر في المغرب في قطاعات واعدة، كالطاقة والصناعة والسياحة والعقار والفلاحة والأشغال العمومية، فضلا عن كونها أول دولة عربية تدشن قنصلية عامة لها بمدينة العيون، حاضرة الصحراء المغربية...

 

 

لفهم طبيعة العلاقات المغربية الإماراتية، والغوص في أسرراها ولمس جذورها، والوقوف عند بدايات تشكلها، لابد من شاهد يروي، من منطلق تأريخي، أصل الحكاية، أو على الأقل وجود روافد دبلوماسية تغذي هذا النهم في سبر أغوار علاقة بلدين، توحدهما الجغرافيا والتاريخ والعروبة والدين، بالرغم من بعد المسافة بين المحيط والخليج. وهنا يبرز المؤرخ الدبلوماسي الراحل عبد الهادي التازي.

 

في عام 1971، كانت العلاقات بين الرباط وأبوظبي في بداياتها الجنينية، ذلك أن البلدين، لم يكونا منفتحين على بعضهما البعض كما هو الحال بالنسبة للمملكة مع بعض دول الخليج والشرق الأوسط. لكن ستحدث انعطافة وطدت من هذه العلاقة، حينما آثر  حاكم إمارة أبوظبي الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان أن يخص المغرب بأول زيارة له لدولة عربية قبل إعلان تشكيل الاتحاد ببلده.

 

 

كان ذلك سنة 1971، إذ أعجب الشيخ زايد بالمملكة وشعبها، ليقول كلمة أثيرية تعكس الأثر الذي خلفته هذه الزيارة في نفسه: "وأنا في المغرب، أعتبر نفسي في بلدي وبين أهلي وفي وطني". قبل أن يفرج عن مشاعره دفعة واحدة: "المغرب بلد شقيق، ونحن نشعر نفس الشعور الذي يشعر به هذا البلد. وإن زيارتنا تهدف إلى التعرف إلى أشقائنا أولا، وتعريفهم إلى أنفسنا ثانيا".

 

لقد كانت هذه الزيارة، بمثابة زيارة تعارف بين قائدين كبيرين (الشيخ زايد والحسن الثاني)، ومن خلالهما تم وضع أول لبنة للعلاقات الثنائية بين الرباط وأبوظبي. إذ مباشرة بعد هذه الزيارة التاريخية، عين الحسن الثاني عبد الهادي التازي سفيرا للمملكة المغربية في دولة الإمارات، ليكون أول سفير غير مقيم للمملكة المغربية لدى أبوظبي..

 

منذ ذلك التاريخ، كانت العلاقات المغربية الإماراتية تنمو بسرعة، بالقدر الذي أصبح الشيخ زايد شديد الارتباط بالمغرب، يتردد عليه، ويزوره بوتيرة منتظمة، كطقس من طقوس رئيس الدولة.. لكن ما هي مقدمات هذه الزيارة الأولى من نوعها للشيخ زايد للمغرب؟

 

 

في حوار مطول مع جريدة الاتحاد الإماراتية، كشف الراحل عبد الهادي التازي عن لحظة بداية تشكل علاقة المغرب بالإمارات، وعن التقارب بين البلدين الذي ارتقى على امتداد حوالي نصف قرن، إلى مستويات عليا من التعاون والتضامن والتطابق بين البلدين.

 

 

"كان ذلك في العام 1970 من القرن الماضي، جئت يومها أحمل رسالة من الملك الحسن الثاني إلى الشيخ زايد يدعوه فيها لزيارة المملكة المغربية.. لم تكن الإمارات حينها قد بدأت مسيرة وحدتها"، يقول التازي عن أول تواصل بين الملك المغربي والرئيس الإماراتي، قبل أن يضيف، "كان الجواب بالإيجاب وكانت تلك أول رحلة للشيخ زايد إلى المغرب، وقد اعتبرتها نجاحاً دبلوماسياً لي استبشرت به. كنت وقتها سفيراً للمغرب في بغداد وكنت أغطي المنطقة كلها.. وعندما تكون النيات صادقة يتحقق النجاح في العلاقات الدبلوماسية ويظل الوفاق حاضراً. أما الشيخ زايد فمنذ وصوله إلى المغرب، شعر بأنه أمام قوم ينتسبون لأصول عربية شريفة ولمس حبهم الصادق له، فما كان منه إلا أن فتح لهم قلبه هو أيضا".

 

وعن طبيعة اللقاء الذي جمع الشيخ زايد بالمؤرخ، كشف التازي عن سر تعلق الرئيس الإماراتي الراحل بالمغرب حتى قبل أن يزوره، إذ قال "تحدثنا طويلاً عن المغرب، وسألني عن أحوالها وأهلها، وكان أعجب سؤال وجهه إليّ عمّا إذا كان أهل المغرب يهتمون بالقنص (الصيد بالصقور)، وهي هواية كان يحبها (رحمه الله) حباً شديداً، فأجبته بأن هناك ولعاً بهذه الهواية في المغرب". ولكي يبرز هذا الولع، أخبره التازي بأن في المملكة، هناك مدينة اسمها الجديدة، يسكن فيها قوم يسمون "القواسم"، لهم ولع بالقنص بالصقر، مضيفا "ثم لاحظت أن لديه رغبة قوية في أن يبدأ زيارته ببلاد المغرب الأقصى".

 

لم يكن التازي، الذي لمس إعجاب الشيخ زايد بالمغرب، ليتردد في إخبار الحسن الثاني بذلك "أخبرت جلالة الملك بهذا الأمر فهشَّ وبشَّ - كما تقول العرب – وما شعرت إلا وأنا أقرأ في الصحافة تصريحاته (الشيخ زايد) بأنه سيذهب لزيارة المملكة المغربية الشقيقة".

من هنا، يقول التازي، ابتدأت المسيرة، أو تلك العلاقة الفريدة التي ربطت بين البلدين بأواصر قوية وروابط متينة. "كان لقائي بالشيخ زايد (رحمه الله) حدثاً غير عادي بكل معنى الكلمة. نظراً لطبيعة الرجل وما يتوفر عليه من أهمية ونفوذ وقوة سياسية ومجتمعية. كان لقاء على مستوى عالٍ، يهدف إلى ربط الصلة بين دولتين. وكانت تلك المرة الأولى التي يأتي فيها سفير من المغرب إلى دولة الإمارات العربية المتحدة حاملاً رسالة من الملك الحسن الثاني. لم تكن مهمة سهلة، لكن الشيخ زايد (رحمه الله) قابلني بحفاوة، بل لقد سحرني ببسمته المعهودة".

 

 

ويحكي التازي كيف كان الشيخ زايد ودودا ومنصتا أثناء استقباله، إذ قال "سألني عن المغرب وأحواله.. وقلت له إن الملك طلب مني أن لا أغادر أبوظبي إلا إذا عدت بالجواب، فقال: هذا من حسن حظنا لكي تبقى بيننا.. أمر (رحمه الله) لي بنزهة إلى جزيرة داس، لا أنسى حلاوتها إلى الآن. فقد غصت في البحر وتمتعت بالجولة البحرية الرائعة، ورأيت ألوان السمك وأشكاله، ثم أخذت الجواب وعدت، وكتبت تقريرا عما شاهدت وحدث معي. كان سعيد الدرمكي رئيس التشريفات في ذلك الوقت يحضر المقابلة، وقد أحالني الشيخ زايد (رحمه الله) على رؤية ولي عهده صاحب السمو الشيخ خليفة بن زايد آل نهيان (حفظه الله) الذي وجدته شبه أبيه. كان مليئاً بالطموح والثقافة والعلم".

 

وبنظرة المؤرخ، قارب التازي في هذا الحوار الذي أجراه في 2012 بين إمارات الأمس وإمارات القرن الواحد والعشرين، وكيف طورها الشيخ زايد لتصبح لؤلؤة الخليج وجوهرة المنطقة العربية. حيث قال جوابا عن سؤال: هل كان يخطر في بالك أن الإمارات ستصبح كما هي عليه الآن من نهضة وتطور؟ "لم أشك يومها أن الشيخ زايد سوف يبني البلاد ويطورها، وهذا الانطباع كان يتشكل لدى كل من يقابله، فالرجل كان ذا عقل وحكمة وطموح وشخصية قوية لها تأثير على الناس، كان محبوباً جداً، متواضعاً مع البدو، يتلمّس ما يريدون ويحلم بأن يبني لهم دولة قوية، لكن بصراحة، لم يكن ليخطر على بال أي شخص مهما كان خياله مجنحاً أن الإمارات ستغدو بهذا الرقي والجمال، إنني أشعر أنني أمام معجزة تحققت ولا غرابة في ذلك، فالإرادة تصنع كل شيء، وما التاريخ إلا جملة من الإرادات".

 

 

منذ ذلك التاريخ (سنة 1971)، أصبحت علاقة المغرب بالإمارات العربية المتحدة مميزة فوق العادة، إذ توحدت الرؤى بين البلدين، وتقاربت الأفكار، فانعكست على عدة مجالات، سياسية ودبلوماسية واقتصادية وصناعية وأمنية وثقافية ورياضية... ويبرز حجم هذا الانصهار في الموقف القوي الذي عبر عنه الراحل الشيخ زايد حول الوحدة الترابية للمملكة سنة 1975، حينما كان الراحل الحسن الثاني منهمكا في التخطيط والإعداد اللوجستيكي للمسيرة الخضراء.. إذ بعث بخطاب إلى الملك، يبرز فيه موقفه من الصحراء المغربية الخاضعة وقتها للاستعمار الإسباني، أعلن من خلاله أنه يؤيد من صميم قلبه حق المغرب بالمطالبة بأراضيه الصحراوية، ويؤكد وقوفه مع الملك الحسن الثاني لتحقيق هذه المطالبة الشرعية، ويعلن أنه يتابع بكل اهتمام المسيرة التي أعلن عنها الملك وقتها.

 

ولم يكتف الشيخ زايد بالإعلان عن تأييده حق المغرب في استرجاع أراضيه فحسب، بل دفع بنجله الشيخ محمد بن زايد آل نهيان إلى المشاركة في المسيرة الخضراء سنة 1975، وهو مجرد طفل صغير.. وقد أشار إلى هذا الموقف الجريء والبارز، الملك محمد السادس في خطابه الذي ألقاه في القمة المغربية الخليجية في الرياض في مارس 2016، حين أشار إلى أنه في سنة 1975، شاركتْ في المسيرة الخضراء، لاسترجاع الأقاليم الجنوبية للمملكة، عدةُ وفود من دول الخليج، قبل أن يلتفت إلى الشيخ الإماراتي، قائلا إن هذه المشاركة "تميزت بحضور أخينا سمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان ولي عهد أبو ظبي، الذي كان عمره آنذاك 14 سنة".

 

 

لقد امتدت علاقة الشيخ زايد بالملك الحسن الثاني لتشمل علاقته بالملك محمد السادس، إذ تميزت هذه العلاقة بزيارة الرئيس الإماراتي الراحل إلى المغرب سنة 2002، وهي التي تطورت قبل ذلك من خلال علاقة الصداقة القوية التي ربطت الملك محمد السادس بأبناء الرئيس القائد الراحل، خاصة الرئيس الحالي الشيخ خليفة بن زايد آل نهيان وشقيقه الشيخ محمد بن زايد آل نهيان ولي عهد ابو ظبي. وهنا ينبغي تسليط الضوء على عشق الشيخ محمد للمملكة، التي دأب على زيارتها بوتيرة منتظمة، ومن خلالها علاقته بالملك محمد السادس، التي تكشف عنها صورهما الكثيرة في المناسبات الرسمية والخاصة.

 

وتبعا لمصادر إعلامية، يرجع سر عشق الشيخ محمد بن زايد آل نهيان للمغرب إلى بداية سبعينيات القرن الماضي، حينما كان طفلا صغيرا، بالكاد أنهى تعليمه الأولي في الإمارات العربية المتحدة.. حيث كان والده الشيخ زايد، معجبا بطريقة الحسن الثاني في تربية أبنائه وبأسلوبه الجدي في تنشئتهم على الأخلاق والتحصيل الدراسي والإلمام بأسرار الحياة، فكان أن أرسل ابنه إلى المغرب لمتابعة دراسته في المدرسة المولوية. وقد تزامن ذلك مع إعلان الملك الراحل الحسن الثاني عن تنظيم المسيرة الخضراء، ليعجب الطفل محمد بن زايد بالفكرة، ويبدي حماسة في المشاركة في هذا الحدث التاريخي. وخلال مقامه في المملكة، لمس عن قرب حفاوة الشعب، وربط علاقة صداقة مع الأميرين ولي العهد سيدي محمد والأمير مولاي رشيد، قبل أن يغادر المغرب في اتجاه بريطانيا لإتمام مشواره الدراسي بأكاديمية "ساندهيرست" العسكرية، التي تخرج منها في نهاية سبعينيات القرن الماضي.

 

 

موازاة مع علاقات الصداقة القوية، التي تجمع الملك محمد السادس بأبناء الشيخ زايد، شهدت العلاقات المغربية الإماراتية طفرة نوعية، تحقق وهجها في عدة مجالات، ما جعل هذا البلد الخليجي أول مستثمر عربي في المغرب.

 

ففي سنة 2016، بلغت الاستثمارات الإماراتية المباشرة في المغرب 4,043 مليار درهم، وحوالي ملياري درهم خلال النصف الأول من سنة 2017، في حين شهد التجارة الخارجية بين بين البلدين سنة 2016 انتعاشة قوية.. إذ بلغ حجم صادرات الإمارات إلى المغرب 6526.7 مليون درهم مغربي و3377 مليون درهم إلى غاية شتنبر 2017، بينما حققت الواردات الإماراتية من المغرب معدل 956.6 مليون درهم في سنة 2016 و786 مليون درهم خلال الفترة الممتدة بين يناير وشتنبر 2017، مقابل واردات وصادرات المغرب إلى الإمارات، بمعدل إجمالي بلغ سنة 2016 حوالي 633 مليون درهم، و680.4 مليون درهم خلال سنة 2017.

 

وبعيدا عن التعاون التجاري والاقتصادي، تتوحد الرؤى والتصورات بين المغرب والإمارات حول أهم القضايا التي تحتل صدارة أولويات الأمة العربية والإسلامية، ولاسيما وقوفهما بحزم من أجل محاربة الإرهاب والتطرف والأفكار الظلامية. وهذا إلى جانب خاصية متميزة، بشهادة المنتظم الدولي، وهي حرصهما المشترك على التعبير بصوت واحد، وإن كان كل بطريقته الخاصة، عن وقوفهما إلى جانب القضايا العربية والإسلامية العادلة، وفي مقدمتها القضية الفلسطينية، والقدس الشريف. كل ذلك، جاء ثمرة للشراكة الاستراتيجية بين البلدين، الممتدة إلى سبعينيات القرن الماضي...