ذكرى رحيل شاعر المقاومة الفلسطينية.. عندما رفض سميح القاسم جائزة نوبل
الكاتب :
"الغد 24"
فاطمة حوحو
سميح القاسم: "واقع العرب الآن هو واقع صراعات مذهبيَّة وقبليَّة وإقليميَّة وقطريَّة وهو واقع مشين ويجب علينا مواجهة هذه الجاهليَّة الجديدة بدون شك".
هذا ما قاله الشاعر الفلسطيني سميح القاسم في كتابه "لا توقظوا الفتنة"، رحل شاعر الثورة والمقاومة في 19 غشت عام 2014، بعد أن غدره مرض السرطان عن 75 عاما عقب معاناة امتدت ثلاث سنوات. شاعر زمن الحلم العربي وثقافته. ترددت قصائده في الأغاني الثورية وصرخته "لن أساوم وإلى آخر نبض في عروقي سأقاوم" ما زالت تضج في ضمائر صادقة، رغم ما أصاب العالم العربي من تراجع أمام ثقافات الجهل وتمثيليات "التدين" التي تقضي على كل مظاهر الحضارة الإنسانية العربية وتفتك بحاضره، كي لا يكون له مستقبل سوى الظلام.
القاسم.. ثالث الثلاثة
ظل سميح القاسم متمسكا بتجربته، إذ صح وصف وزير الثقافة الفلسطيني السابق الكاتب يحيى يخلف بأنه "شاعر فلسطين وتاريخها ومقاومتها وكرامتها وعنفوانها وألقها". فهو يعتبر أحد ثالوث شعراء الذين أشعلت أشعارهم وجدان الشباب العربي، إلى جانب محمود درويش وتوفيق زياد، فهؤلاء جسدوا قضية فلسطين وغرسوها في كل ضمير حر، صارت قصائدهم أغاني يرددونها مشرقا ومغربا، وهوية انتساب إلى الوطن المسلوب، الذي لم يغادره القاسم رغم الملاحقات والسجن والتنكيل من قبل الاحتلال الإسرائيلي، بل ظل في الداخل، هناك على أرض فلسطينه استلهم القصيدة وقاوم ولم يتراجع عن خياراته.
يعتبر الشاعر والكاتب اللبناني عباس بيضون أن "صوت (درويش ـ القاسم) كان أكثر من قصيدة، كان صوتاً مجروحاً ومعذباً وصارخا، بقدر ما كان استذكاراً وهوية واسماً آخر وعنواناً لفلسطين. لقد ظهر ذلك الصوت قبل السلاح، وكان بالتأكيد يحمل في طياته كل الكثافة وكل الزخم اللذين تكدست فيهما لا الذكريات فحسب، ولكن أيضاً الرعف والحنين والتواريخ الدامية والمضيئة وسلسلة الثورات والمعارك والبطولات المكسورة والحروب الخاسرة".
تأثر القاسم برحيل صديقه محمود درويش فخاطبه في قصيدة طويلة صارخا "خذني معك"، وهي قصيدة حزينة جدا يقول في مطلعها:
"ما مِن حوارٍ مَعك بعدَ الآن.
إنَّهُ مُجرَّدُ انفجارٍ آخر!
تَخلَّيتَ عن وِزرِ حُزني
ووزرِ حياتي
وحَمَّلتَني وزرَ مَوتِكَ،
أنتَ تركْتَ الحصانَ وَحيداً.. لماذا؟
وآثَرْتَ صَهوةَ مَوتِكَ أُفقاً،
وآثَرتَ حُزني مَلاذا
أجبني. أجبني.. لماذا؟".
لعبة الرسائل بين سميح ومحمود
لكن علاقته مع درويش لم تكن دائما "سمن على عسل"، لكنها كانت عميقة، ومرت كأي علاقة إنسانية بين صديقين بمراحل عديدة، ولم تكن الآراء دائما متفقة، فالخلافات في وجهات النظر قائمة إلا أنها لا تفسد للود قضية، إذ يعترف القاسم في سيرته الذاتية "إنها مجرد منفضة"، إنها "شهدت انعطافات مختلفة". ويروي أنه في منتصف الثمانينيات كان درويش في باريس، وكنا نتداول الرسائل التي نشرت أسبوعيًا، ثم جمعت في كتاب "الرسائل"، إذ "بدأت لعبةً بين صديقين، لكنّ الإقبال الواسع لدى القرّاء على متابعتها جعلها ظاهرة "أدبية" استثنائية"، موضحا أنا ودرويش لم نبحث "عن فكرة تجديد أدب الرسائل. وكل ما في الأمر هو أنّ الضرورة دفعتهما إلى هذا الشكل من أشكال التواصل نتيجة البعد والفراق عقب رحيل محمود من البلاد عام 1971".
تعود الصداقة بين الشاعرين إلى العام 1958، عندما أصدر القاسم مجموعته الشعرية الأولى "مواكب الشمس"، فهو روى واقعة بدء صداقتهما في مجلة "نزوى" الصادرة بسلطنة عمان، قائلا: "بعد إصدار ديواني الأول تلقيت رسالة من طلاب من مدرسة ثانوية يني يني في كفر ياسيف، قالوا لي إنهم قرأوا مجموعتي الشعرية، وأعجبوا بها ويريدون زيارتي والتعرف علي، وكان بين الموقعين: محمود درويش، محمد علي طه وسالم جبران، وكلهم تحولوا مستقبلاً إلى شعراء وكتاب كبار، فرددتُ عليهم برسالة رحبت بهم، فزاروني في بيتي في الرامة، كنت أكبر منهم بعامين، لذا تخرجت من الثانوية قبلهم. تعرفنا إلى بعضنا البعض، وقضوا ذلك اليوم في بيت أسرتي وباتوا عندنا، وبقينا طوال الليل نتحدث في الشعر والأدب، وعلى سبيل المداعبة قلت لمحمود درويش: "أنت يا شاب لديك حساسية شيلي"، قاصداً الشاعر الإنجليزي شيلي، فقال لي: "وأنت عندك عنفوان بيرون"، منذ ذلك الحين أصبحنا صديقين طيلة خمسين عامًا الفائتة، ولكن بعض الناس يعتقدون أن صداقتنا كانت دائماً، كما يقول إخواننا في مصر (سمن على عسل)، هذا غير طبيعي وخصوصاً بين شاعرين، كنا نختلف على قضية سياسية، وعلى قضية فنية، ونختلف على امرأة أيضًا".
ويستدرك القاسم ذاكراً الحقيقة التي جسّدها محمود درويش في رسالته الأخيرة له عندما كتب: (صداقتنا أقوى من الحب). مؤكداً أنهما كانا يختلفان وهذا فقط هو الطبيعي، ولكن، "لم يكن إنسان أقرب إلى قلبي من محمود، ولم يكن إنسان أقرب إلى قلب محمود مني، هكذا عشنا الخمسين سنة في صداقتنا الأقوى من الحب كما قال درويش، وأنا اتفق معه في هذا الطرح".
ويردف: "كنا نختلف، ولكن لم نكن نسمح لأي إنسان بالتدخل في علاقتنا الإنسانية الاستثنائية، وهو كان واحداً من أفراد أسرتي عندما تسألني أمي عن صحتي، كانت تسأل عن صحة محمود، وعندما تسأل أمه عنه كانت تسأل عني".
وعن المنافسة أو الغيرة بينهما، يقول القاسم: "أمور لم تطرق ولو لثانية علاقتنا، فهو يعبر لي عن مدى حبه لقصيدتي، وأنا أعبر عن مدى حبي لقصيدته. نحن كملنا بعضنا البعض، بالتأكيد نحن لم نكتب بنفس الأسلوب والأداء، فلكل واحد منا شخصيته، وبالفعل الفرق بيننا كالفرق بين "شيلي" و"بيرون". "بيرون" المغامر الصاخب العنفواني، و"شيلي" الحالم الوديع الرقيق. قد يتناقض أحدنا مع الآخر ولكنه يكمله، ولو كانت طبيعتنا واحدة لما كان هنالك أي مبرر لصداقتنا".
سميح القاسم والموت
استعد القاسم لموته بأناقة، كان يحب الترتيب في كل شيء، مكتبه، منزله، كتاباته، قصائده، ثيابه، هو الذي لم يخف الموت، اذ قال للشاعر اللبناني إسكندر حبش في حديث معه: "لا أخاف الموت ولا أحبه ولا أستدرجه، لكني أيضًا لا أستعجله. أما إذا جاء فلن يجد رجلا بركبتين مرتجفتين هلعًا".
ومع ذلك خاطبه قائلا:
"أنا لا أحبك يا موت
لكنني لا أخافك
أعلمُ أنّي تضيق عليّ ضفافك
وأعلمُ أن سريرك جسمي
وروحي لحافك
أنا لا أحبك يا موت
لكنني لا أخافك!".
هو أيضا، كان يفضل أن توصف قصيدته "بقصيدة الحياة وليس بالقصيدة السياسية أو الوطنية، او قصيدة حب أو روح أو جسد".
قصيدة المقاومة
ولد القاسم في 11 ماي 1939 في مدينة الزرقاء الأردنية، وهومن عائلة تتحدر من بلدة الرامة شمال فلسطين، درس فيها ومن ثم انتقل الى الناصرة واعتقل عدة مرات وفرضت عليه سلطات الاحتلال الإقامة الجبرية لمواقفه، إذ قاوم التجنيد الذي فرضته "إسرائيل" على الطائفة الدرزية التي ينتمي إليها. تعرض للكثير من التضييق بسبب قصائده الشعرية، إذ اعتبرت قصيدة "تقدموا" التي تسببت في أزمة داخل إسرائيل، بيانا شعريا ــ سياسيا، ففي أبياتها دعوة صريحة للمقاومة، إذ يقول في أبياتها:
"تقدموا.. تقدموا
كل سماء فوقكم جهنم
وكل أرض تحتكم جهنم.
تقدموا..
يموت منا الشيخ والطفل ولا يستسلم
وتسقط الأم على أبنائها القتلى ولا تستسلم
تقدموا..
بناقلات جندكم وراجمات حقدكم
وهددوا وشردوا ويتموا وهدموا.
لن تكسروا أعماقنا
لن تهزموا أشواقنا
نحن قضاء مبرم".
لن يقوى أحد على إسكاتي
وكانَ والدُ سميح القاسم ضابطاً برتبةِ رئيس (كابتن) في قوّة حدود شرق الأردن، وكانَ الضباط يقيمونَ هناك مع عائلاتهم. حينَ كانت العائلة في طريق العودة إلى فلسطين في القطار، في غمرة الحرب العالمية الثانية ونظام التعتيم، بكى الطفل سميح فذُعرَ الركَّاب وخافوا أنْ تهتدي إليهم الطائرات الألمانية! وبلغَ بهم الذعر درجة التهديد بقتل الطفل إلى أن اضطر الوالد إلى إشهار سلاحه في وجوههم لردعهم، وحينَ رُوِيَت الحكاية لسميح فيما بعد تركَتْ أثراً عميقاً في نفسه: "حسناً لقد حاولوا إخراسي منذ الطفولة، سأريهم، سأتكلّم متى أشاء، وفي أيّ وقت وبأعلى صَوت، لنْ يقوى أحدٌ على إسكاتي".
ضمن مسلسل ملاحقته يكشف القاسم في سيرته، عن محاولة أفشلها أقاربه في آخر لحظة لمغادرة البلاد بحثاً عن أفق جديد في لحظة ضجر وغضب عام 1958، عقب تضييق الخناق عليه وتراكم تهديده وعائلته ومنعه من المشاركة في مهرجان شعري، وهي لحظة كادت تفضي به إلى طريق سلكها زميله لاحقًا محمود درويش.
في ريعان شبابه، انتقل إلى مدينة حيفا، وهناك التحق بالحزب الشيوعي وعمل في وسائل إعلامه بعدما اكتوى بنار البطالة، عمل مدرسا وصحافيا، إذ أسّس عدة صحف، كان أهمها "كل العرب" الحيفاوية.
تنوعت أعماله بين الشعر والنثر والمسرحية، وتجاوز عددها السبعين، كما تُرجمت عدد كبير من قصائده إلى معظم لغات العالم، وحصل على العديد من الجوائز والدروع وشهادات التقدير وعضوية الشرف في عدّة مؤسسات فنالَ جائزة "غار الشعر" من إسبانيا، وعلى جائزتين من فرنسا عن مختاراته التي ترجمها إلى الفرنسية الشاعر والكاتب المغربي عبد اللطيف اللعبي، وحصلَ على جائزة البابطين، وحصل مرّتين على "وسام القدس للثقافة" من الرئيس الراحل ياسر عرفات، وحصلَ على جائزة نجيب محفوظ من مصر وجائزة "السلام" من واحة السلام، وجائزة "الشعر» الفلسطينية.
نوبل الإسرائيلية
كشف القاسم في أحاديث له بأنه أول شاعر عربي عرضت عليه نوبل مقابل الحصول على جائزة إسرائيل. لكن رده كان: "أنا أخذت أعظم جائزة من شاب سوري في بلودان بعد الغداء، عندما قدّم لي القهوة، فشربتها فتناول الشاب السوري الفنجان وكسره على الأرض. كان إلى جانبي محافظ ريف دمشق فقال لي: "يا بختك. هذا الشاب كسر الفنجان بالتقليد الشامي القديم، ليعني أنه لا أحد يستحق أن يشرب من فنجانك بعدك". اقشعر بدني وقلتُ هذه أكبر جائزة يتمناها شاعر. كان يكفي أن أقبل بجائزة "إسرائيل" لأحصل على جائزة نوبل، ولكني رفضت".
شاعر الحداثة الوحيد
صدَرتْ في الوطن العربي وفي العالم عدّة كُتب ودراسات نقدية، تناولَت أعمال الشاعر وسيرته الأدبية وإنجازاته وإضافاته الخاصة والمتميّزة، شكلاً ومضموناً، ليصبح كما ترى الشاعرة والباحثة الدكتورة سلمى الخضراء الجيوسي، الشاعر الوحيد الذي تظهر في أعماله ملامح ما بعد الحداثة في الشِّعر العربي.
مؤطر: سميح القاسم المغربي
في العام 2014 أحيا القاسم، بمناسبة يوم الأرض ثلاث أمسيات شعرية، في مدن فاس والرباط والدار البيضاء بالمملكة المغربية، بدعوة من جمعية التضامن المغربي ـــ الفلسطيني، وتعاون اتحاد كتاب المغرب وبيت الشعر والجمعية المغربية لحقوق الإنسان، وبتنسيق مع سفارة دولة فلسطين بالمغرب، وقد غصت القاعات بجموع المواطنين المغاربة، إضافة إلى رجال الفكر والسياسة والثقافة والإعلام والطلبة الذين احتفوا بالشاعر احتفاءً كبيراً، تجلى بسيل الكتابات التي حفلت بها الصحف المغربية على مختلف اتجاهاتها، وكذلك سلسلة اللقاءات المتلفزة والإذاعية والصحفية، التي أكدت أولا على أن الهم الفلسطيني لا زال يسكن المغاربة، وثانياً أن سميح القاسم يحظى بمحبة وتقدير الشعب المغربي بكل مشاربه.
قال القاسم في احدى حواراته الصحافية: "إنني من أعماق المغرب، مثل أي مغربي تماما، ولا أسمح لأي مغربي، من أكبر رأس إلى أصغر رأس، أن يزايد علي في مغربيتي، ولا أن يزايد علي المصريون في مصريتي، ولا العراقيون ولا اللبنانيون. الجغرافيا لا تحكمني، إلا بقدر ما يحكمني الظرف التاريخي، في هذه الجغرافيا. نكبت فلسطين، فحكمت بنكبتها، ينكب العراق اليوم، فأحكم بنكبته، ولا سمح الله، ولا سمح الله، أن تقام دولة معادن في صحراء المغرب، فينكب المغرب، فيكون ذلك نكبة لي أيضا، أنا لست ابنا لجغرافية محددة، ولا أسمح لأحد بوضعي في خانة، بل إنني أعتبر نفسي أكثر الشعراء في المغرب مغربية، وأيضا في مصر والعراق، لأنني شاعر هذا الوطن وهذه الأمة وهذه الإنسانية. إنني ضد هذه الاقليمية، أنا ضد سايكس بيكو".