لم تكن المرة الأولى، التي تتهدد بها المحكمة الجنائية الدولية من الولايات المتحدة الأميركية من قِبل دونالد ترامب مؤخرا، بسبب ما تقدمه للقضية الفلسطينية، بل تم تهديدها من قبل دافيد شيفر المبعوث الأميركي لجرائم الحرب ورئيس وفد الولايات المتحدة الأميركية للمؤتمر الدبلوماسي المعني بإنشاء المحكمة الجنائية الدولية في خطاب له أمام لجنة العلاقات الخارجية بمجلس الشيوخ في 21 تشرين الأول 1998 أمام اللجنة السادسة رقم 35مؤكدا أن مصير المحكمة الجنائية الدولية كمصير عصبة الأمم عندما رفض الكونغرس الأميركي التصديق على ميثاقها.
تم رفض التوقيع على نظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية من قبل الولايات المتحدة الأميركية بعد تعديل 14 بندا في نظامها، أهم تلك التعديلات ربط المحكمة الجنائية الدولية بمجلس الأمن الذي يعطل دور المحكمة الجنائية الدولية سنة قابلة للتجديد، إلا أن المبعوث الأميركي أشارإلى أن الولايات المتحدة الأميركية لم تنجح بتعديل كل نظام المحكمة أبرزها جريمة العدوان التي رفضت الولايات المتحدة الأميركية أن تضعها بيد المحكمة الجنائية الدولية باعتبارها أنها تحل مكان مجلس الأمن.
إن المحكمة الجنائية الدولية تشكل فرصة نادرة أمام المجتمع الدولي لتصحيح مساره وإبعاد جريمة العدوان عن الطابع السياسي، الذي يسيطر عليه مجلس الأمن، ومنحها صفة قانونية قضائية دولية.
وهنا أود الإشارة إلى أنه لو قبلنا بأن يكون لمجلس الأمن وحده سلطة تحديد وقوع جريمة العدوان، فهذا معناه أن المحكمة لن تباشر اختصاصها إلا عندما يوافق المجلس على ذلك، وهو أمر لن يتم إلا عندما تتوافق آراء الدول الدائمة العضوية على أن جريمة عدوان قد ارتكبت، وأن قادة الدولة المعتدية يستحقون أن يساقوا إلى العقاب، وهو توافق لن يتم بسهولة، وربما لن يتم أبداً.
فمن الطبيعي أن تستثني الدول الكبرى نفسها عندئذ من مثل هذه المسألة، وأن تعفي أيضاً حلفاءها من مثل هذا العقاب، فضلاً عن أن حق النقض سيعرقل وقتذاك أي إحالة للمحكمةإن رغبت بذلك دولة واحدة دائمة العضوية، وهو ما يعني القضاء على فكرة العدالة ومبادئ العدل والمساواة. فالمحكمة ستفرغ من مضمونها وستكون مقيدة بدورها بالقيود التي جعلت مجلس الأمن عاجزاً في مناسبات كثيرة عن ردع العدوان وفرض الجزاء على المعتدي، بل جعلته عاجزاً حتى عن إثبات وجود حالة العدوان.
الولايات المتحدة الأميركية تريد إنشاء محكمة جنائية دولية وفق مصالحها لحماية مواطنيها وحلفائها عن المساءلة والعقاب
إن قبول هذا يعني أن نسمح منذ البداية بإنشاء محكمة ضعيفة عليلة تخضع للاعتبارات السياسية ومصالح الدول الكبرى، وتجعلنا نبحث، من الآن، وقبل أن تباشر مهمتها، عن وسائل إصلاحها ومعالجة أوجه الخلل في آلية عملها.
إن الولايات المتحدة الأميركية تحبذ إنشاء محكمة جنائية دولية ولكن وفق مصالحها، خصوصا أنها لا تريد من المحكمة الجنائية الدولية معاقبة المواطنين الأميركيين ومساءلتهم خصوصا الذين هم من قوات حفظ السلام في الأمم المتحدة عن أي جريمة يرتكبونها أو ارتكبوها.
يمكن اعتبار هجوم ترامب ليس مستغربا من دولة مهيمنة، وهو ليس بالأمر الجديد عليها، ويبرز ذلك في صفقة القرن عندما أشار ترامبإلى أن شرط تطبيق صفقة القرن هو التنازل عن الشكاوى المقدمة في المحاكم الدولية، أي الشكوى ضد الولايات المتحدة الأميركية لنقل سفارتها إلى القدس في محكمة العدل الدولية، والشكوى ضد القيادات الإسرائيلية في المحكمة الجنائية الدولية.
إن هذه العقوبات تشيرإلى أن سلاح القانون الدولي لا يسري إلا على البلاد الضعيفة، ولا يستخدم بوجه الدول القوية، باعتبارها المدافع الأول عن الحريات والديمقراطية، ولم يعد للقانون الدولي أي قيمة في نظرها.
مازلنا نؤكد على الشرعية الدولية واحترام القانون الدولي وميثاق الأمم المتحدة، ونشدد على معاقبة أي مسؤول أو أي رئيس مهما علا شأنه وهيمنت دولته على القرارات الدولية وشرعيتها. ولابد من اعتبار ما قام به ترامب هو جريمة ضد الإنسانية التي يلجأ إليها الضعفاء، وباعتبار أن هذه العقوبات لا تريد إلا ضرب هيبة المحكمة الجنائية الدولية، التي تخاف على سمعتها، بما أنها مخالفة للقانون الدولي العرفي والإنساني وكافة الميثاقيات والمبادئ الدولية.