الغد 24 خبر الغد تقرأه اليوم

نموذج الفلاحة الموجهة للتصدير واستنزاف مواردنا المائية

 
د. عبد السلام الصديقي
 
أصبح الخصاص المائي الناتج أساسا عن التغيرات المناخية يسائل بجدية نموذجنا التنموي الفلاحي القائم على الاستعمال المكثف للماء، والذي أصبح مادة نادرة ومكلفة، خاصة إذا علمنا أن القطاع الفلاحي هو المستعمل الرئيسي للموارد المائية المتاحة، وذلك بنسبة تفوق 80% (وتصل أحيانا إلى 86%). والباقي يتوزع بين الماء الشروب والماء المستخدم في الصناعة. وتبين هذه المعطيات، وهو أمر بديهي، أن أي مجهود لعقلنة وترشيد استعمال الماء، وهو أمر ضروري وملح، ينبغي أن ينصب بالأساس على القطاع الفلاحي. ومن هنا تبرز ضرورة مراجعة التوجهات الحالية لنموذجنا التنموي القائم حاليا، مراجعة شاملة وعميقة، كما يتضح ذلك من خلال توصيات اللجنة الخاصة بالنموذج التنموي الجديد، ومقترحات العديد من الدراسات الأكاديمية ومواقف بعض التكوينات الأساسية.
 
أصبح الخصاص المائي الناتج أساسا عن التغيرات المناخية يسائل بجدية نموذجنا التنموي الفلاحي القائم على الاستعمال المكثف للماء، والذي أصبح مادة نادرة ومكلفة، خاصة إذا علمنا أن القطاع الفلاحي هو المستعمل الرئيسي للموارد المائية المتاحة، وذلك بنسبة تفوق 80% وتصل أحيانا إلى 86%
 
بداية، يجب التذكير بكون السياق السائد عندما تم إطلاق سياسة السدود في الستينيات من القرن الماضي بهدف سقي مليون هكتار، قد تغير تماما وعلى مختلف الأصعدة. أولا على مستوى الموارد المائية، فقد تراجعت من 2500 متر مكعب للفرد إلى ما دون 700 متر مكعب حاليا. ومن جهة ثانية، لا أحد كان يتحدث في تلك الفترة عن التغيرات المناخية وتأثيراتها على الاقتصاد والمجتمع، على الأقل على صعيد المؤسسات الرسمية سواء كانت وطنية أو دولية. والنقاش حول التغير المناخي لم يكتسي أهمية تذكر إلا منذ بداية التسعينيات بعد إنشاء الهيئة الحكومية الدولية المعنية بتغير المناخ (GIEC) سنة 1988.
 
وكان من المنطقي والمنتظر أن يتم التعامل مع هذه التغيرات بالإقبال على مراجعة عميقة لاختياراتنا الفلاحية، وتغيير سلوكنا تجاه الماء. بيد أن ذلك لم يحدث نظرا لسببين على الأقل: الأول يعود إلى كون المغرب قد سبق له أن تعهد بالتزامات في إطار اتفاقيات التبادل الحر، من خلال تبني النظرية الريكاردية (نسبة إلى ريكاردو Ricardo) للمزايا المقارنة. وبحسب هذه النظرية، التي هي محط انتقاد واسع، سيكون من مصلحة بلد معين أن ينتج المواد، التي يتوفر فيها على امتياز وتبادلها مقابل مواد أخرى يتوفر فيها على امتياز أقل. وذلك دون طرح سؤال الاستقلال الاقتصادي وضرورة ضمان السيادة الغذائية أو غيرها! أما السبب الثاني فيتمثل في الرضوخ لضغوطات المصدرين الفلاحيين والذين يتوفرون على تنظيم محكم في الإطار الجمعوي والسياسي وتأثير كبير في الإدارة المغربية.
 
لم يحدث التعامل مع التغيرات المناخية بمراجعة عميقة لاختياراتنا الفلاحية، لسببين: الأول التزامات المغرب في إطار اتفاقيات التبادل الحر، والثاني يتمثل في الرضوخ لضغوطات المصدرين الفلاحيين الذين يتوفرون على تنظيم محكم في الإطار الجمعوي والسياسي وتأثير كبير في الإدارة المغربية
 
وهكذا نجد أن مخطط المغرب الأخضر (2008-2020)، الذي أعقبه "مخطط الجيل الأخضر"، يندرج ضمن هذا التصور حيث عمل على تكريس هذه الخيارات، وذلك بتمييزه بين دعامتين: الأولى تهم الفلاحة العصرية (أي الفلاحة الرأسمالية الموجهة للتصدير) وتشمل بعض الآلاف من الأشخاص. استفادت من حصة الأسد في ما يخص الاستثمارات والإعانات العمومية (100 مليار درهم خلال عشر سنوات، تم تخفيضها إلى 78 مليار درهم). أما الدعامة الثانية، أي الفلاحة التضامنية، وهي التي تهم الأغلبية الساحقة من الفلاحين، وتنتج بالتالي المواد الضرورية لتغذية السكان، فلم تستفد إلا بمبلغ متواضع للغاية؛ 20 مليار درهم، الذي انتقل إلى 21,4 مليار درهم. وهذه الأرقام تتحدث عن نفسها وتوضح بكل جلاء الاختيار الطبقي.
 
فماذا عن منجزات هذا المخطط الأخضر؟ إذا كانت بعض المؤشرات قد سجلت بالفعل تحسنا ملحوظا مثل الاستثمار والصادرات والقيمة المضافة الفلاحية مع تحول كبير في بنيتها، وكثافة الرأسمال، فينبغي أن نعترف في المقابل بفشله في جوانب أخرى، كما هو الحال في ما يتعلق بتحقيق الأمن الغذائي، والتدبير العقلاني للموارد المائية، وتحول العالم القروي من خلال ضعف تصنيع المنتوج الفلاحي الذي يهم فقط 40 في المائة، واستمرار الفقر والهشاشة، وتراجع المؤشرات الاجتماعية... وهو ما يجعلنا نستخلص أن مخطط المغرب الأخضر قد نجح فعلا في تطوير الرأسمالية الزراعية، حيث تمكنت فئة محدودة من الزيادة ثراءً، في حين عمل على تفقير البلاد وتعميق تبعيتها بالنسبة للمواد الضرورية كالحبوب والسكر والزيوت الغذائية، التي نسجل فيها معدلات للتبعية يفوق المعدلات السائدة خلال الستينيات من القرن الماضي.
 
مخطط المغرب الأخضر نجح فعلا في تطوير الرأسمالية الزراعية، حيث تمكنت فئة محدودة من الزيادة ثراءً، في حين عمل على تفقير البلاد وتعميق تبعيتها بالنسبة للمواد الضرورية كالحبوب والسكر والزيوت الغذائية، التي نسجل فيها معدلات للتبعية يفوق المعدلات السائدة خلال الستينيات من القرن الماضي
 
علاوة على ذلك، إذا كان مروجو هذا المخطط يتبجحون بالزيادة الهائلة في الصادرات الفلاحية، التي تجاوزت 44 مليار درهم، فهم يتغافلون، في الوقت ذاته، أن مشترياتنا من الخارج في ما يخص المواد الغذائية قد اقتربت من 60 مليار درهم. إلا أن الأهم ليس هذه الفجوة بين الصادرات والواردات الفلاحية، بل نوعية مبيعاتنا الفلاحية، فكلما أقبلنا على تصدير المواد الفلاحية، نقوم بـ"بيع" مادة نادرة بأبخس ثمن، ألا وهي الماء. وهكذا فبينما تقدر تكلفة إنتاج مياه الري، بحسب الأحواض المائية، ما بين 2,7 و5 دراهم للمتر المربع (حسب تقرير قديم نسبيا للوكالة الفرنسية للتنمية)، لا يؤدي الفلاحون المصدرون إلا ثمنا رمزيا يبلغ في أحسن الأحوال ما قدره 0,4 درهم (40 سنتيما). وباعتمادنا تكلفة متوسطة بـ5 دراهم لكل متر مكعب، توصلنا حسب الحسابات التي قمنا بها بالإعتماد على المساحات المغروسة أو المزروعة، إلى النتائج الآتية والتي ينبغي اعتبارها نسبية بالنظر إلى شح المعلومة. وهكذا فشجرة الأفوكادو (avocat) التي تغطي حوالي 4000 هكتار، تستهلك في المتوسط 24 مليون متر مكعب من الماء، وهو ما يعادل تكلفة مالية تقدر بـ120 مليون درهم. وبخصوص الطماطم التي تغطي 20 ألف هكتار وتستهلك 9200 متر مكعب في الهكتار الواحد، فإن التكلفة الإجمالية الحقيقية للماء المستعمل قد تبلع 920 مليون درهم. أما البرتقال، الذي يمتد على مساحة تقدر بـ60 ألف هكتار ويستهلك بدوره 7700 متر مكعب في الري الموضعي و14500 متر مكعب في الري بالجاذبية للهكتار الواحد، فإن هذه التكلفة تتجاوز 3 ملايير درهم، وإذا أخذنا بعين الاعتبار الحوامض برمتها، التي تغطي 130 ألف هكتار، فإن التكلفة الحقيقية للماء قد تتجاوز 7 ملايير درهم. ويمكن القيام بنفس التحليل بخصوص باقي الخضر والفواكه الموجهة للتصدير، والتي تعود إلى بعض المستثمرين الأجانب، كما هو الشأن في مجال إنتاج الفراولة (fraises) والتوت (framboise). وتشكل هذه الملايير خسارة فادحة للبلاد وريعا لفائدة المصدرين المغاربة والمستهلك الأوروبي، وتكشف عن الوجه البشع لعملة التبادل الحر.
 
أليس من المناسب أن نقف وقفة تأمل في هذا السباق الأعمى وبدون حذر لنحتكم لوعينا الجماعي ونزن بكل موضوعية فداحة الخسارة التي يتكبدها بلدنا؟ مع وضع المصالح الحيوية لشعبنا وأمتنا فوق كل اعتبار. إن تحقيق أمننا المائي والغذائي رهين بهذه المراجعة. وأمننا بصفة عامة، والذي لا يمكن أن يقدر بثمن، يقتضي أن نسير في هذا الاتجاه.
 
اقتصادي وأستاذ جامعي ووزير سابق