الغد 24 خبر الغد تقرأه اليوم

عز الدين بونيت يقتحم طابو مالية الهيئات السياسية ويكتب: اقتصاديات الحزب

 
عز الدين بونيت
 
أريد أن ألقي الضوء على الترابط الوثيق بين العمل السياسي الحزبي والحاجة إلى المال.
 
هل تحتاج الأحزاب إلى تمويل للتمكن من القيام بمهامها؟ هذا شيء مؤكد. ضعف الأداء الحزبي يتناسب مع ضعف موارد الحزب. تحتاج الأحزاب إلى مقرات ومتفرغين يقومون بالمهام الإدارية اليومية، وبتسهيل التواصل بين اعضاء الحزب، وبين الحزب والمتعاملين معه.
 
من أين تأتي الأحزاب بمواردها؟
 
المصدر الأول لذلك، هو التمويل الذاتي القادم من اشتراكات الأعضاء. وقوة هذا المصدر تتوقف على عدد الأعضاء ومدى قدرتهم على المساهمة في التمويل. كلما كان عدد المنخرطين أوسع كلما زاد احتمال توسع قاعدة المموّلين، دون أن يكون ذلك مؤكدا. وكلما كان أعضاء الحزب ذوي قدرة مالية أقوى أو أضعف انعكس ذلك على قدرتهم على التمويل والاستمرار فيه أو الانقطاع عنه.
 
المساهمة في تمويل الحزب، من حيث المبدأ تكون تطوعية. ولا يوجد أي قانون يلزم المنخرطين في الأحزاب بتمويلها، ويبقى هذا متوقفا فقط على أنظمة الحزب ولوائحه ومدى الالتزام الأخلاقي والنضالي للأعضاء. ولذلك فإن التمويل الذاتي للحزب يتأثر بالخلافات السياسية والتنظيمية داخله. وتنعكس تلك الخلافات مباشرة في التزام الأعضاء بالاشتراكات التي يقررونها.
 
قد تكون لدى بعض الأحزاب عقارات أو منقولات يمكن أن تدر عليها بعض الموارد، لكن هذا ليس حال كل الأحزاب. وأحيانا تكون تلك الممتلكات عبئا على الحزب أو محدودة المردود.
 
في الديمقراطيات الناضجة وفي فلسفة السياسة ونظرية الدولة الحديثة، تعتبر الأحزاب تعبيرات سياسية وإطارات لبلورة الإرادة العامة والتعبير عنها، عن طريق مختلف أنشطة الأحزاب السياسية والتنظيمية. ومن هذه الزاوية لا تعتبر الأحزاب ملكا لمنخرطيها ولا لقياداتها ولا للدولة التي تنشأ في كنفها، بل هي ملك للمجتمع أو الجماعة السياسية. ولذلك سُنّت مقتضيات قانونية للتمويل العمومي للأحزاب، لأنها تقدم خدمة عمومية، تتداخل فيها ممارسة حق المشاركة في تقرير المصير وحق التعبير عن الاختلاف وعدم الموافقة، كيف ما كان موضوع ذلك الاختلاف. وتنتهي الأحزاب في مشاوراتها الداخلية إلى بلورة إرادة الجماعة الحزبية والتعبير عنها في المواقف السياسية من القضايا والاختيارات والأولويات.
 
المصدر الثاني إذن لتمويل الأحزاب هو التمويل العمومي. تخصص الديمقراطية لتمويل السياسة قدرا من الثروة العمومية. وتمنع بالمقابل التمويل الخاص إلا في حدود تبرعات مسقّفة. ومرد ذلك هو ثلاثة مبادئ: الأول، هو ضمان تكافؤ الفرص بين كل المواطنين في المشاركة السياسية عبر الحياة الحزبية، بغض النظر عن درجة غناهم أو فقرهم؛ والثاني، هو حق المواطنين جميعا في استعمال جزء من الثروة المشتركة بينهم في ضمان مشاركتهم السياسية، لأن غياب التكافؤ ينتهي إلى هيمنة الأغنياء على مصائر الجميع؛ والثالث هو منع الأغنياء من خوصصة الأحزاب التي هي ملك للجماعة كما أسلفنا، وإلا تحول الحزب إلى ميليشيا.
 
والتمويل العمومي للحياة الحزبية معيار من معايير نضج الديمقراطية. وهو يستند في المبدأ على معايير موضوعية قابلة للقياس في أرقام، مثل عدد المرشحين وعدد المقاعد المحصّلة حسب أنواع الانتداب (البرلمان، الجهة، الجماعة) وعدد الأصوات المعبر عنها لفائدة الحزب.
 
المصدر الثالث للتمويل هو مساهمات المنتخبين، من حصيص تعويضاتهم الانتدابية. والتعويض عن الانتداب، عنصر في غاية الأهمية بالنسبة للحياة السياسية، عكس الخطاب الشعبوي الرائج حول الموضوع. والادعاء بأن المنتدب لا ينبغي أن يحصل على تعويض، هو ادعاء يقوم على فكرة في عمقها قاتلة للديمقراطية، لأنها تنتهي بحرمان الشعب، ولا سيما الفقراء، من سياسييه، ومن القدرة على الولوج إلى السلطة.
 
بعد هذا البسط لمصادر التمويل الحزبي، يتضح لنا الترابط العضوي بين التمويل والقدرة على العمل السياسي. كما تتضح لنا المعضلة التي تواجهها كل الأحزاب المتنافسة فعليا في الحقل السياسي:
 
1- يفترض أن المسعى الأول لكل حزب هو الولوج إلى السلطة. لا يفترض وجود حزب هدفه الدائم هو البقاء في المعارضة. لا معنى لوجود مثل هذا الحزب، ولا معنى لبرنامج سياسي لا يسعى أصحابه إلى تطبيقه. والتطبيق لا يكون إلا من خلال الوصول إلى السلطة (كلمة سلطة بالعربية ليست دقيقة في التعبير عن مفهوم le pouvoir الذي يعني حرفيا القدرة، اي القدرة على تحويل الأفكار والأقوال إلى أفعال ملموسة).
 
2- الوصول إلى السلطة يحتاج أحزابا قوية. وقوة الأحزاب تحتاج إلى المال. والحصول على المال يحتاج إلى مناضلين قادرين على أداء الاشتراكات والتبرع للحزب. فتضطر الأحزاب للبحث عن منخرطين قادرين على تحمل نفقات الحزب، من أجل الوصول إلى السلطة.
 
3- تموقع الأحزاب في الخريطة السياسية يتحدد بالمشاركة في الانتخابات. ونتائج هذه المشاركة هي التي تحدد حجم التمويل العمومي الذي يحصل عليه الحزب. ولذلك تراهن الأحزاب على مرشحين جاهزين قادرين على استقطاب الأصوات والحصول على مقاعد، وتتنافس في ذلك. ويراهن السياسيون على أحزاب ذات جاذبية من حيث الاصطفافات الموجودة فيها، ومن حيث الولاءات التي تتمتع بها.
 
4- قوة الحزب وقوة العضو الذي يروم الترشح باسم الحزب متلازمتان. والقيادة الحزبية الرشيدة هي التي تستطيع، بحنكة، التوفيق بين القوتين، فتغذي الحزب بمزيد من المناضلين الفاعلين، عبر إحداث التوازن بين الترشيحات الاستراتيجية والترشيحات النضالية، وفسح المجال لتنامي القيادات الحزبية الوسيطة، وتلبية الطموحات المتنافرة، وإنتاج خطاب سياسي جديد ومتجدد قادر على بلورة الاتجاهات في الرأي، وقادر على اقتراح حلول مبتكرة للقضايا المطروحة، والرفع الدائم من وتيرة الطموحات.
 
الواقعية في التدبير التنظيمي الحزبي تقتضي إدماج هذه المتطلبات كلها، بصراحة ووضوح في وعي المناضلين في الأحزاب الشعبية، التي تقوم على قاعدة واسعة من المناضلين الملتزمين، لكي يفهم الجميع وبوضوح منطق العمل السياسي الهادف إلى الوصول إلى السلطة، المختلف عن منطق إشباع الموقف السياسي الثقافي المجرد للمناضل القنوع غير الطامح إلى ولوج نطاق السلطة...
 
كاتب وباحث ومخرج مسرحي