الغد 24 خبر الغد تقرأه اليوم

في التحليل النقدي لجذور الهيمنة

 
في سياق التفاعلات مع قضية الاتهامات الغربية للمغرب بتوظيف برنامج بيغاسوس للتجسس على صحافيين وشخصيات عامة داخل البلاد وخارجها، اختار الدكتور محمد العودي، الأستاذ الباحث في الجغرافية الاجتماعية، زاوية أخرى للنقاش، تتجاوز ظرفية الحدث الجاري في الزمن، إلى البحث عن الخلفية التاريخية لما يجري، الذي يراه الدكتور محمد العودي شكلا من أشكال الهيمنة، التي وسمت الفعل الاستعماري بمختلف تجلياته، إذ رغم التباين الكبير في الأسلوب بين الأمس واليوم، فإنهما يلتقيان في الهدف الجوهري وهو نهب ثروات المستعمرات السابقة... وبناء على المعطيات، التي قدمها المقال، في هذا الصدد، يطرح الدكتور محمد العودي سؤالا إنكاريا حول الادعاءات بأن عصر المادية التاريخية قد انتهى دون رجعة...
مقال جدير بالقراءة والتأمل والتفاعل...
 
♦♦♦♦
 
د. محمد العودي
 
إن تاريخ الفعل الاستعماري الحديث يتطور باستمرار. الجديد في الأمر، هو أن المقاربة الأخيرة تجعل من إلزامية الديمقراطية المدخل المتجدد للهيمنة. إذ، يتم في غفلة منا وبطريقة جهنمية، استغلال صعوبة المرحلة الانتقالية من أجل تأجيج الأوضاع، وكأنهم وراء اكتشافنا المغفل استبداد البلاط، أو طغيان الزعيم المعبود!
 
إن تاريخ الفعل الاستعماري الحديث يتطور باستمرار. الجديد في الأمر، هو أن المقاربة الأخيرة تجعل من إلزامية الديمقراطية المدخل المتجدد للهيمنة. إذ، يتم في غفلة منا وبطريقة جهنمية، استغلال صعوبة المرحلة الانتقالية لتأجيج الأوضاع، وكأنهم وراء اكتشافنا المغفل استبداد البلاط، أو طغيان الزعيم المعبود!
 
بعد تواطؤ الغرب لمدة ليست بالقصيرة، أصيب فجأة بقلق ضميري على مصير الديمقراطية بين جماهير المنبوذين! هذه الازدواجية التاريخية، تقتضي أن يحضر الفكر النقدي، أكثر من أي وقت مضى، ليس من منطلق مهادنة الديكتاتوريات. ولكن لأن الحدث الثابت، والسبب المعلن عنه، في نهاية المطاف، هو مجرد محاكاة ساخرة. بل أكثر من ذلك، كونه مجرد حبكة أو عملية تنكرية، تثير التفكير العميق، بحيث إن إعادة قراءة التاريخ قد تفضح كل مظاهر هذا الزيف.
 
ذلك أنه، بعد انهيار الاتحاد السوفيتي، سمحت الرأسمالية المالية لنفسها بكل شيء، مستغلةً، هنا أو هناك، مشاعرَ وظروفَ تذمّرٍ اجتماعي شامل، بدءا بظروف العراق وأسلحته التدميرية الوهمية، ثم ليبيا التي تسيلُ نفطا! وبعدها سوريا، بالأمس طرفا في المؤامرة! غدا، سيتم البحث عن مزيد من الدول المقيتة. في كل بقاع العالم، كما يقولون، يتم فيها انتهاك حقوق الإنسان. لكن. بلد الصين؟ من المستحيل تقليم أظافره. إقطاعيات النفط في المشرق والخليج؟ ولو أنها بمثابة فيودالية العصر الحديث! مع ذلك وجب غض الطرف عنها!
 
هنا تنتهي حتما أسطورة التدخل من أجل الديمقراطية وحقوق الإنسان. لسبب وجيه. تسهيلات الوصول إلى النفط من خلال استغلال البحيرات البترولية الضخمة، وعقود أسلحة تسيل اللعاب، بالرغم من أن هده الأسلحة لم تستخدم قط؛ إلا محليا ضد شعوبها المحلية أو ضد باقي الشعوب المقهورة، هذا إلى جانب مهام أخرى. حماية المستوطن الصهيوني الأجحف على حساب حقوق الفلسطيني الذي تم استصدار أراضيه!
 
 التأمل في الأسس الحقيقية للتدخل الخارجي يعكس في الواقع وضعا مؤسفا. ذلك أن النزعة الإنسية الغربية التي يُفترض أنها تخلصت من الأفكار الإمبريالية القديمة، لا تتوانى في استغلال أدنى فرصة لأي أوضاع مضطربة لنهب ثروات المستعمرات السابقة
 
إن الطبيعة المتجذرة للهيمنة التاريخية لم تتغير، بحيث يتم اللجوء لنفس الدوافع والأسباب المفتعلة، بما أن المكاسب والأرباح، هي على الدوام جوهر الجغرافيا السياسية. لذا، فإن التأمل في الأسس الحقيقية للتدخل الخارجي يعكس، في الواقع، وضعا مؤسفا. ذلك أن النزعة الإنسية الغربية التي يُفترض أنها تخلصت من الأفكار الإمبريالية القديمة، لا تتوانى في استغلال أدنى فرصة لأي أوضاع مضطربة لنهب ثروات المستعمرات السابقة. الأمم المتحدة؟ القانون الدولي؟ مجرد خرافة وأحلام يقظة. لذا فإن الدافع الحقيقي للهيمنة يظهر فقط من خلال المساءلة التاريخية. أي بعد فوات الأوان. بعد دمار، فوضى، تقتيل، نهب، انتشار المجاعات... وفي كل مرة، يتم التعبير عن أسف ماكر.
 
حقا، إن التاريخ اعترف، بعد حين، أن حرب طروادة لم تكن بسبب الأميرة هيلانة الجميلة. لكن نظرا لوفرة خيرات المنطقة. وأن روما دمرت قرطاجة ليس بذريعة تحرير الأمازيغ من المستعمر. وإنما من أجل القضاء على منافس، وفرض توسع إمبراطورتيها في إطار الـ"باكس رومانا". وأن الفتوحات العربية والتركية لم تكن روحية قط. بل لطمع المحاربين الأشداء في الغنائم وخضرة الأراضي الأندلسية. فيما قام الانكشارية بتمديد مجال سراي سليمان القانوني حتى فيينا. ومن سخرية التاريخ، أن الباب العالي سمح لنفسه باحتلال أرض الإسلام، مهد أسلمة أجدادهم الأتراك! فيما تذرع الصليبيون بالصلاة في البقاع المقدسة في القدس من أجل، في الواقع، نهب بلاد الشام كاملة. كما لم يكن غزو القارة الأمريكية، وما صاحب ذلك من إبادة جماعية للسكان المحليين، قضية تبشير. وإنما من أجل أن يصبح الفاتح مستعمرًا، من أجل الاستحواذ على الذهب مثار أطماع المعمرين، لتصير ثروات القارة وذهبها لعنة على سكانها الأصلييين، تماما كما هو، اليوم، حال شعوبٍ ضحيةَ ثرواتها النفطية.
 
نهاية الحصاد، خلق قوة إرهابية؛ ليتحول الغول المبتكر إلى ضامن القانون الإلهي. من خلال استغلال الجهل والفقر وظهور نزوع شبابي يطمح، على عجل، إلى الارتقاء إلى السلطة. ومن ثمة إنشاء مشيخات أصولية غامضة، حيث تصبح الدولة غنيمة إلآهية!
 
سيحدثوننا، في ما بعد، عن المهمة الحضارية للإمبراطوريات الاستعمارية، منها الإنجليزية والفرنسية... وسيقولون لنا، في ما بعد، إن غزو الجزائر سنة 1830 لم يكن بسبب الإهانة الدبلوماسية المزعومة، ولكن لأن إمبريالية رأس المال أطلقت العنان لنفسها، وأن الحماية المفروضة على المغرب لم تكن إلا خدعة، بل إن فرنسا بالألوان الاشتراكية صعب عليها أيضا التخلص من شرارة العبقرية الاستعمارية. لقد تورطت في فيتنام، وفي السويس، وفي أماكن أخرى في إفريقيا، والآن في سوريا.
 
بدورهم الرفاق السوفييت، الذين لم يتخلصوا من شياطين القيصرية القديمة، فإنهم عبثوا برفاقهم في المجر، في تشيكوسلوفاكيا... إنها مجرد إلزامية بناء إمبراطورية سوفييتية الشكل والبنية! أما بلد العم سام، فانه يجسد الأسوأ، بحيث لا يجاريه أحد في ميدان الشدة والبأس. إذ أينما تدخل، فإن ظاهرة العنف المسلح تخرج عن نطاق السيطرة، ليتحول الوضع إلى مذابح. بما أنه يكن كل الاحتقار لحضارة الآخرين، بل يحرص على إشعار شعوب العالم بتبعيتها التامة، بالأحرى بدونيتها أمام جبروت اليانكيز.
 
إن مجرد التأمل في الأوضاع الكارثية الناجمة عن "الفوضى الخلاقة"، يجعل المرء يُصاب حتما بالدوار. فالسكان الذين يراد تحريرهم بواسطة ديمقراطية محمولة على الدبابات لم يعد لهم كيان. لقد أصبح المواطنون يتقاتلون في ما بينهم، وهم مذمومون، ممزّقون، مفقّرون
 
منذ زمن بعيد وحتى لوقت قريب، تعددت الحجج الزائفة، بحيث ظلت الديمقراطية الغائبة مجرد ذريعة، ومبررا للعديد من الحجج الزائفة. وذلك للصيد، بالأحرى الاصطياد في المياه العكرة للأنظمة الشمولية. ففي العراق وسوريا، تم الدفع بتلك النماذج المفترسة باسم الليبرالية، من قبيل سيء السمعة الجلبي وأمثاله بالعراق، كما في النسخة السورية، "الغليون"، أو "الجربة"، التي تحمل ضمنا معناها في اللغة العربية! خليط يضم أصوليين من جميع أنحاء العالم. أولئك الذين خلقهم العم سام لكسر شوكة اليسار، والوطنيين، من أجل أيضا الحد من توسع السوفييت.
 
نهاية الحصاد، خلق قوة إرهابية؛ ليتحول الغول المبتكر إلى ضامن القانون الإلهي. من خلال استغلال الجهل والفقر وظهور نزوع شبابي يطمح، على عجل، إلى الارتقاء إلى السلطة. ومن ثمة إنشاء مشيخات أصولية غامضة، حيث تصبح الدولة غنيمة إلآهية! لنبحر في التاريخ صاغرين نحو مصير دموي. ويبقى نفس السؤال يطرح نفسه بقسوة، أي لماذا، وكيف؟
 
النتيجة: ضحايا بالملايين، مدن سوّيت بالأرض، أسر هُجّرت بعيدا عن ديارها؛ الأطفال يغادرون المدرسة للالتحاق بمخيمات اللاجئين...
 
إن مجرد التأمل في الأوضاع الكارثية الناجمة عن "الفوضى الخلاقة"، يجعل المرء يُصاب حتما بالدوار. فالسكان الذين يراد تحريرهم بواسطة ديمقراطية محمولة على الدبابات لم يعد لهم كيان. لقد أصبح المواطنون يتقاتلون في ما بينهم، وهم مذمومون، ممزّقون، مفقّرون. ولنا في العراق نموذج أمثل. حتى الغرب الذي كان يقوم ظاهريا بجمع التبرعات أضحى شحيحا، بحكم ظرفية الأزمة. ومن ثمة، أصبح لِزاما على الضحايا وأبناء عمومتهم من أثرياء النفط تحمّل فاتورة الحروب القذرة!
 
إن جوقة كورال مرسيليا ورسل الغرب، وأتباعهم من أبناء الوطن، يدركون، عبر التاريخ، تاريخهم الخاص، أن إقامة الديمقراطية لا يمكن أن تجري وكأنها مجرد عملية دخيلة، بل هي عملية مواطنة نابعة من رحم الإفرازات الداخلية، من حتمية نتائج حركية الطبقات الاجتماعية، من عمق جوف الوطن
 
أخيرا وليس آخرا! إن جوقة كورال مرسيليا ورسل الغرب، وأتباعهم من أبناء الوطن، يدركون، عبر التاريخ، تاريخهم الخاص، أن إقامة الديمقراطية لا يمكن أن تجري وكأنها مجرد عملية دخيلة، بل هي عملية مواطنة نابعة من رحم الإفرازات الداخلية، من حتمية نتائج حركية الطبقات الاجتماعية، من عمق جوف الوطن. الكل متداخل. بحيث إن عقيدة الحريات تنبثق من عقيدة مجتمع المواطنة، من وجود خلايا عصبية محلية تكون وراء صياغة القواعد الأولية للديمقراطية.
 
وإنها لحقيقة تكاد تكون مؤكدة. إن تراكمات التاريخ، كما حدث فعلا، لا كما تمت روايته، سوف تفرض حتما مناشدة الحقائق المؤرشفة، من قبيل ويكيليكس، سنودن... ربما يتأتى دلك في ظرف متأخر. بل حتى بعد فوات الأوان. لكن ما من أي وقت مضى، لابد أن تظهر الحقيقة، ما دام هناك علماء باحثون.
 
السؤال؟ هل يمكن، بعد كل هذه المعطيات والإيجاز المتجاور لصيرورة التاريخ، الادعاء أن عصر المادية التاريخية قد انتهى دون رجعة!؟
 
__________________________
ترجمه عن الفرنسية حميد أحمد المرادي
مراجعة د. محمد العودي
__________________________
 
أستاذ باحث في الجغرافية الاجتماعية