وأنا أتصفح بعض المواقع، لمحت عناوين تتحدث عن مسيرة يُزمع تنظيمها وسط العاصمة الرباط، اعتقدت أن الأمر يتعلق برد على الاستفزازات الإسبانية، والمطالبة بتحرير سبتة ومليلية، أو ربما من أجل التنديد بمواقف العسكر الجزائري اللامتناهية ضد وحدتنا الترابية...
بعد بحث سريع، وجدت أن الأمر يتعلق بفلسطين، وإن كنت أتضامن مع فلسطين، فإنني تعجبت للأمر، القصف والمعركة انتهت، لقد تم وقف إطلاق النار فعلا، وخرج زعيم "حماس" ليعلن عن ذلك رسميا، شاكرا دولا عديدة دون ذكر اسمها، وخص بالاسم ثلاث دول يفهم أنها لعبت الدور المركزي في القضية: مصر لوساطتها، قطر لدعمها الديبلوماسي، وإيران على تقديمها للمال والسلاح...
قلت ربما كان خالد السفياني وإخوان التوحيد والإصلاح والعدل والإحسان وغيرهم من بعض أعضاء "يسار الكساح السياسي"، منشغلين بأمور معينة ولم يتابعوا آخر الأخبار.
استغربت لأمر هؤلاء الناس، خصوصا أنهم تحدوا قرار السلطات التي أعلنت عن منع الوقفة للحيلولة دون انتشار الفيروس اللعين، يبدو أنهم لا يرون شيئا آخر يستحق التنديد والإصرار على التظاهر، في زمن يحتاج فيه الوطن إلى تكتل ووحدة جميع قواه الحية للدفاع عن كرامته ضد التحرشات المعادية لمصالحه العليا وقضاياه المصيرية، إنهم فعلا مصابون بمرض "L'hypermétropie" حيث يرون الأشياء البعيدة بوضوح، لكن الأجسام القريبة تظل في مقلهم ضبابية!
إن التضامن الإنساني واجب على الجميع تجاه الجميع، بغض النظر عن الاختلافات الدينية والسياسية والعرقية والثقافية وغيرها، وأي تضامن "انتقائي" سيكون خارج السياق "الإنساني" المزعوم، وسيسقط في دائرة الإيديولوجيا، وهنا نتساءل: كم من المسيرات نظمت حينما أباد صدام حسين عشرات الآلاف من أبناء شعبه في ثمانينيات القرن الماضي، خلال حملتي الأنفال والحلبجة الإرهابيتين؟ كم من المظاهرات أطلقت تضامنا مع اليمنيين الذين قتلوا، والسوريين الذين أبيدوا من طرف إيران وبشار وداعش، والكرد الذين كانوا ضحايا للقومية التركية والإيرانية، مع الإيزيديين وغيرهم؟ كم وقفة شاهدناها في شارع محمد الخامس مع الصوماليين والنيجيريين والكشميريين والنيوزيلانديين وغيرهم؟، إن التضامن مع قضايا إنسانية وتجاهل أخرى، ينم عن أدلجة واضحة لا تمت للإنسانية بصلة، وقبل التضامن مع البعيد، ادعم القريب أولا.
اطلعت على مواقع أخرى مغربية وأجنبية، عجت بفيديوهات شباب وأطفال اقتحموا سياج "الحدود الوهمية" مع سبتة المحتلة، بلباس محترم وملامح لا تظهر عليها علامات البؤس، بعضهم ردد شعارات "تشيد بإسبانيا"، تذكرت طفولتي بمنطقة نائية بأزيلال، هناك عشنا حياة بسيطة، كانت تنقصنا الكثير من الأشياء، لكننا كنا أغنياء للغاية بقيمنا السامية، ومعنوياتنا كانت دوما مرتفعة، قال لي صديق من أصدقاء الطفولة يشتغل اليوم مهندسا: "لو كانت هناك إمكانية للعودة إلى الوراء، وخيروني بين نفس حياة الصبا التي عشتها، أو أن أولد وفي فمي ملعقة من ذهب، سأفضل حتما أن أعيش نفس تفاصيل طفولتي، كنت غنيا بقيمي، وكان للأشياء طعم لا يقاوم، كان الجوهر متينا، والتربية قويمة، أخوض معارك الصمود والتحدي وأنا أصنع طريقي "المادي" بشغف، خطوة خطوة، من اللاشيء، كان للسعادة ذوق لن أستطيع أبدا وصفه".
في بلدتي، ذات زمن مضى، يمكن للإنسان أن ينام دون عشاء، ألا يجد ما يسد به رمقه أحيانا، رغم أنه يملك أراضي تغنيه عن الحاجة، لكنك حينما تنصحه ببيع قطعة منها ينتفض في وجهك، وقد يشتمك، وكأنك تريد أن تقتطع جزءا من جسده أو روحه، الارتباط بالأرض قوي جدا، والفقر هناك لم يكن أبدا مبررا للتخلي عن "أكال/ الأرض" والافتخار بالانتماء إليها، وحتى إن أجبر المرء على الهجرة خارج الوطن، يبقى الارتباط بالبلدة قويا، والافتخار بالوطن متينا.
الأمر هنا، وإن كنت ضد الفوارق الطبقية والتهميش والإقصاء، ومن مناصري العدالة الاجتماعية والمساواة، لا يتعلق بالفقر حصريا، كما الإرهاب ليس مرتبطا بالهشاشة والإقصاء بشكل محوري، قد يكون عاملا مغذيا، لكنه ليس الجوهر، الجوهر يا سادتي في تدني القيم، بعد تفتت "الشعور الوطني" القوي الذي تربى عليه أجدادنا الذين قدموا دماءهم قربانا مقابل حرية الوطن وكرامته، والتاريخ يخبرنا أن أغلب المقاومين كانوا يعيشون في مناطق معزولة ومهمشة، والعدد الأكبر منهم ليسوا من الميسورين.
إن التعليم والإعلام وحتى ما يؤلفه بعض "المثقفين" وأشباههم هنا، كرس لدى الكثير من مواطنينا قيما وقناعات "تقسو على الذات" إن لم نقل "تحتقرها"، بالنسبة لهم، كل الأشياء الثمينة والمقدسة توجد في أي مكان، سوى هنا فوق هذه الأرض التي تطعمهم من جوع وتؤمنهم من خوف، كما أن ربط جوهر ومنبع تاريخنا وهويتنا بمناطق أخرى، يجعل الكثيرين أكثر وفاء لها باعتبارها المنبع والأصل، عوض تلقين الناس تفاصيل حضارتهم المرتبطة بهذا الوطن الأبي الذي بنى حضارة كبرى، بموروث ثقافي أثيل.
إن جزءا من شعبنا يعيش حالة غير مسبوقة من التفريط في الذات، تدعونا للوقوف جميعا وقفة تأمل حقيقية، لإعادة النظر في عدد من المسلمات والقيم والأفكار والسلوكات التي رسخت هذا الوضع النشاز، الذي ينم عن ظلم كبير لهذا الوطن العريق.
الإحساس بالانتماء لـ"الوطن" كلمة ثقيلة ثمينة، تختزل كل المشاعر والأحاسيس، الوطن هو في الآن ذاته، الماضي والحاضر والمستقبل، الذات والعائلة والعشيرة والمجتمع والأرض والذكريات والثقافة والهوية...، الوطن حينما نولد يتجسد في عالم صغير يختزل الكون في قلوبنا، في الوالدين والإخوة والأهل والتراب الذي نلهو فوقه، ونربي حاسة شمنا قياسا على رائحته الزكية، وإدراكنا على إيقاع تأملنا لتطوره وتغير تفاصيله، ثم بعدها نكتسب القيم والتاريخ الذي نتعلمه في المدرسة، فالعادات والتقاليد التي نتربى عليها، لنحتفظ بها دوما في ذاكرتنا إلى الأبد، وكلما كبرنا اتسعت دائرة الأشياء والأفكار التي تربطنا بالوطن، وفي كل حين يتقوى إحساسنا بالانتماء إليه، الوطن بيتنا.
لكل وطن خصوصياته، وحينما نقول "تمغربيت" فنحن نتحدث عن كل القيم والتقاليد وأنماط الحياة التي ننسجها فوق هذا الوطن، باستمرار، كل الثقافات والعادات والقيم التي نتميز بها عن باقي الشعوب والبلدان، حينما نكون أشد ارتباطا بهذه الخصوصيات، بهذه الأرض بثقافاتها وهويتها الجمعية، في تفاعلها وسط كافة الانتماءات في هذا العالم الواسع المتنوع.
إن قيم "تمغربيت" وقيم "الوطنية" تتفكك بشكل متواصل، فيصير ارتباط الكثير من الشباب بأرضهم وعبقها سطحيا شيئا فشيئا، لم يعد مفاجئا أبدا أن نرى يوميا سلوكات ومواقف تعبر عن هذا الواقع الذي يترسخ بصمت، لذلك وجب إطلاق مبادرات عاجلة من شأنها أن تشكل بداية حقيقية لصحوة جماعية، للعودة إلى الذات، للافتخار بتاريخنا غير المجزأ، بهويتنا الجماعية وثقافتنا التي تعد ملتقى لعدد من الروافد التي لقحت جسد وروح هذه الأرض وشعوبها عبر عشرات القرون، حان الوقت لفك الارتباط بكل الأفكار الهدامة المستوردة، وتلقيح الشعب ضد الفيروسات التخريبية التي تتعارض مع جوهر "تمغربيت" المبنية على التسامح والتعايش والتضامن وتقبل الآخر، والانتصار لقضايانا المصيرية، فنحن شعب "حر" وإن كنا لا نتوانى في أي وقت في التضامن مع كل الشعوب المظلومة، فلسنا نحن "المفتاح" لكل المشاكل، يكفي أن نركز على قضايانا أولا، ونغلب مصالحنا، وبعدها نتآزر مع الآخرين، ويمكن أن نفعل الأمرين معا دون التفريط في "ذاتنا"، في "تمغربيتنا".
زرع ونشر "قيم تمغربيت" من خلال التعليم والإعلام والأسرة والأحزاب والجمعيات والدولة بمختلف مؤسساتها، صار ضرورة ملحة، لكن بالموازاة مع إصلاحات قانونية ومؤسساتية ترسخ المساواة والعدالة والكرامة، وتقلص الفوارق الطبقية وتنصف الجميع، وتقتلع الفقر والإقصاء من جذوره، حتى يحس المواطن بمواطنته الحقيقية التي تجعل تشبثه بالوطن والأرض والثقافة قويا محصنا.