الغد 24 خبر الغد تقرأه اليوم

الفاجعة وجدلها الحقوقي والاجتماعي والاقتصادي.. طنجة وخبزها الحافي الممرغ في ماء العرق والبكاء

 
أحمد طنيش
 
"الخبز الحافي" رواية للكاتب الطنجاوي المرحوم محمد شكري، الذي ساهم في عالمية هذه المدينة على المستوى الأدبي، خصوصا من خلال هذه الرواية التي قاربت لنا طنجة، في السبعينيات، وبالضبط سنة 1972 من القرن العشرين، لكونها رواية واقعية فاضحة، وفضاؤها الروائي هو مدينة طنجة، كان لهذه الرواية الحظ أن ترجمت إلى عدة لغات وأثارت جدلا كبيرا داخل المغرب وخارجه من طرف النقاد وعموم القراء والجهات الرسمية، خصوصا حينما تقرر في إحدى المناسبات إدراجها في دراسة المؤلفات، والأمر راجع إلى أننا وكعادتنا نجتهد لنخبئ عيوبنا ولا نود أن نرى أنفسنا في المرآة، ودائما لا نود أن نفتح أمامنا العلبة السوداء لنبقى في حالة تخفّي وتستر، لكي نعيش الوهم، "الخبز الحافي" عرى عن الواقع وسرد أحداثا تدور حول مأساة إنسانية بحتة بكل المعايير، حيث ينتقل بطل الرواية إلى مدينة طنجة مع أسرته بسبب الفقر، لكن والده كان قاسيا وظالما، صوره الكاتب ببشعه وعنفه وانحرافه، وبذلك صرح السارد بسخطه وكرهه للأب، ومع متواليات الرواية، تستمر معاناة الأسرة، إذ تستغل الأم في القطاع غير مهيكل، والوالد قابع في السجن، والسارد في سن الصبا نادلا في مقاهي فتحت أمامه أبواب السقوط في منحدرات الجهالة ليباشر التسكع والضياع...
 
في العالم السفلي، تقع أكثر من هذه الأحداث، وذلك حينما تغيب مؤسسة الأب ويعنى به المسؤول والمدبر والمراقب، وتغيب مؤسسة القانون الحامي، وتغيب مؤسسة المواطنة التي لها متطلبات، وتغيب مؤسسة التتبع من طرف مدبري الشأن العام والمحلي، في هذا الغياب تحضر سلسلة من الانفلاتات، نحو عوالم بدون خرائط، هو نفسه فضاء "الخبز الحافي" يطل علينا، اليوم، من فضاء خبز حاف نيء ممرغ في ماء العرق في أسفل الأرض، حيث يشغل القاصرون الذي يحملون مآسي البالغين، والبالغون الذين يجدون أنفسهم أمام الواقع المر قاصرين أمام متطلبات الحياة وإكراهاتها، وعددهم في ذلك اليوم كان يقارب 50 نفرا، كانوا أبطال المأساة الإنسانية التي ذهب ضحيتها 29 مواطنا، ذنبهم الوحيد غياب مسؤولية المسؤول بتعددهم، وضنك العيش الذي أوصلتنا إليه اللاديمقراطية واللاتسيير بروح المواطنة.
 
نقف هنا عند حدثين قريبين من بعضهما البعض من خلال المأساة ومتشابهين من خلال الأسباب والدوافع، الأول حدث سنة 2008 مع معمل الأفرشة "روزامور" بالدارالبيضاء، الشبيه بالحدث الجديد بطنجة فبراير 2021 مع فارق في عدد الضحايا، الأول أُحرق فيه 55 مواطنا، وبقي صدى النجدة يديننا لسنا ندري ماذا وقع في ما بعد في إطار إحقاق الحق ومتابعة المخل بالقانون وتعويض المتضررين أو بالأحرى أسرهم وذوي الحقوق، وبعد مرور 13 سنة يأتي حدث طنجة وعدد ضحاياه 29 مواطنا، مازال صدى البكاء والتحيب والنجدة يحاكمنا، وهذه الأعداد (55 +29) تدرج الحدثين معا في خانة إرهاب اجتماعي واقتصادي، من خلال عدد الضحايا، أليس الإرهاب هو أن تزهق أرواح أبرياء بدون ذنب؟!، وتترك ضحايا أحياء يعانون نفسيا واجتماعيا وحتى اقتصاديا، أليس الإرهاب أن تملأ عقول مستلبين من خلال وضعهم الاجتماعي والمادي وترمي بهم إلى المجهول؟!، أليس الإرهاب أن تمرّغ في الوحل قيمة وطن له فتوحات ديبلوماسية كبرى ويتربصون به وبإسهاماته وبنائه لمغرب حداثي ديمقراطي؟!، أليس من الإرهاب أن ينتمي هذا المعمل إلى الفضاءات السرية وهو معلن عنه عند الجهات المعنية من خلال ما نعرفه عنها من مراقبة وتتبع ويقظة عيون من أهم أدوراها أن تحارب الفضاءات السرية التي يأتينا منها البلاء، وعلى رأسها الإرهاب، مع العلم أن هذا المعمل ليس سريا ولكنه متستر عليه...
 
لكل هذه المعطيات يندرج هذا الحدث في الإرهاب، وكل من ساهم في التستر ساهم في حماية الإرهاب، وأتمنى في هذه النازلة بهذه اللبوسات أن يتدخل فقهاء القانون في هذا المجال ليجتهد المشرع، ويضع القوانين لحماية المواطنين من تجار الأزمات، الذي يشتبه فعلهم بالإرهاب، وكم تضم يا وطني أجنحتك ومخافرك الخفية وسراديبك المظلمة من فضاءات سرية يتربص فيها الموت والمآسي بمغاربة الخبز الحافي...
 
مع حدث طنجة كتبت رواية واقعية أخرى لها نفس الدراما اسمها الخبز المر المبلل بالماء والعرق والمطر والدموع، دموع شهداء الفقر ودموع آهالي الفقر، ذنبهم أن لهم طموح العيش بكرامة وإن تنازلوا على راحة البال من أجل دريهمات يواجهون بها ضنك عيش أو مطلب لعبة لطفل أصبح الآن يتيما، أو امرأة أصبحت الآن أرملة، أو أب أو أم فقدا عزيزهما أو شابة أو شاب يعيش من وراء دخلهما أب وأم مسنان وأخ عاطل أو تلميذ أو طالب يتابع دراسته عن قرب بمعاناة وعن بعد يحتاج آليات، نقود مرة مبللة بعرق عالم سفلي يشترى بها دواء مريض، وعكازة ذوي الاحتياجات الخاصة، أو بالأحرى شراء أسمال تغطي العورة، هي صورة واقعية مؤهلة لسرد رواية حقيقية تنتمي للأدب العالمي حول صراع من أجل الحق في الحياة، ليأتي غول الإرهاب الاجتماعي والقانوني والاقتصادي الذي تقوده باطرونا الجشع والاستغلال فيحطم كل شيء، في زمن نحارب فيه كورونا كوباء حتما سيغادر وكورونا جشع لن يغادر بل يتكاثر، وهي الكارثة الكبرى التي تنخر مجتمعنا والمرتبطة مباشرة بواقع حال القطاع غير المهيكل، هذا القطاع الذي فك عنه حصار التعتيم وأعلن عن العدد الرسمي بتأشير من الدولة في زمن كورونا، والملف مازال مفتوحا من طرف لجنة اليقظة التي ندعوها ويقظتها بأن تكون في مستوى الرهان، وتساهم في المرحلة المركزية الهامة لمعالجة الملف، وهي أن تفتح قضية تأهيل قطاعات غير مهيكلة إلى مجال الهيكلة، في إطار عدالة مجتمعية مواطنية نرى مدخلها هو تخصيص كناش التحملات يلزم الجميع، ومن ثَمَّ سيظهر المتهرب من الضرائب باسم القطاع غير المهيكل وسيظهر تجار الأزمة وسيظهر التاجر الحقيقي من المزيف وسيظهر من يصطاد في الماء العكر وستظهر الفئة الحقيقية التي هي القطاع غير المهيكل بلحمها ودمها وواقعها، بل وحتى وطنيتها.
 
كاتب صحافي