الغد 24 خبر الغد تقرأه اليوم
مفكر مغربي وباحث مختص في قضايا التجديد الديني

الكارثة والعقاب.. المعادلة الخاطئة

 
سعيد ناشيد
 
عندما نمارس التّفكير داخل مجال معيّن كيفما كان نوعه، غالبا ما يكون المنطلق عبارة عن مقدّمة أو مقدّمات يُبنى عليها تسلسل الأفكار على منوال "إذا كان كذا فإنّ كذا"، وبنحو قد يفضي إلى إنتاج خطاب أو نظريّة أو مذهب، أو يكتفي بالإحالة كما في معظم الأحيان.
عادة ما تكون مقدّمات الانطلاق مضمرة في العقل الجمعيّ الّذي يؤطّر مجال التّفكير، وهو ما يضفي طابع التّكرار على معظم عمليات التّفكير. وطالما النّتائج محكومة بالمقدّمات، فمن الطّبيعيّ أن تكون المرجعيات معدودة، وممكنات الإبداع محدودة، وغالبا ما يقتصر هامش التّفكير على مسائل الشّرح والتّفسير.
لا يوجد نمط من التّفكير يخلو من تسلسل منطقي يجعل الأفكار تبدو مقنعة، سواء في مجالات التّفكير العلميّ أم التّفكير السّحري. فالتّسلسل المنطقي للأفكار يغري العقل طالما يلبّي إحدى أهمّ مطالبه، بيد أنّنا -بمعزل عن مغريات المنطق الصّوريّ- يجب أن نتوقّف عند المنطلقات الّتي يُبنى عليها تسلسل الأفكار، والّتي قد تكون مجرّد مغالطات تأسيسيّة.
 
معضلة الحوار في عديد من التّجارب الإيديولوجيّة أن يتمّ التّغاضي عن المنطلقات حتّى تصبح جلسات الحوار مجرّد حوار للطرشان أو لأجل التقاط الصّور في بعض الأحيان
لعلّ التّسلسل على طريقة "إذا كان كذا فإنّ كذا" يجعل الأفكار تبدو متناسقة وبالتّالي مقنعة، غير أنّنا أثناء التّسلسل الاستدلالي قد نفوّت فرصة اختبار المنطلق الّذي بُني عليه الاستدلال، والّذي عادة ما يكون مضمراً فيسهل الالتفاف عليه. على أنّنا قد نتقبّل فخاخ المسلّمات عن طيب خاطر حين تناسب دوافع لاواعية، أو لأنّنا أحيانا لا نريد أن يتوقّف الحوار قبل البدء. غير أنّ عدم التّوقف لأجل اختبار المنطلقات من شأنه أن يجعل سجال الأفكار بلا طائل. هنا تكمن صعوبة ما يسمّى بالحوار في عديد من التّجارب الإيديولوجيّة، بحيث ما أن يتمّ التّغاضي عن المنطلقات حتّى تصبح جلسات الحوار مجرّد حوار للطرشان، أو لأجل التقاط الصّور في بعض الأحيان.
ينطبق الأمر نفسه على النّقاشات الدّائرة حول مفهوم الكارثة الطّبيعيّة، حيث ثمّة أطروحات تبدو متناقضة أو متعارضة لكنّها تنطلق جميعها من نفس المنطلق الكامن في العقل، والّذي تعود أصوله إلى إنسان عصر الكهوف. يتعلّق الأمر بأطروحات تصرّ على تحميل الإنسان مسؤوليّة الكوارث الطّبيعيّة كلّها، سواء بسبب خطاياه الدّينيّة وفق مزاعم بعض الحركات الدّينيّة، أو بسبب انتهاكاته للبيئة وفق مزاعم بعض الحركات البيئيّة، أو بسبب سلوكيات محدّدة، من قبيل أكل اللّحوم بالنّسبة لبعض النّباتيين، أو العنف بالنّسبة لبعض السّلميين، أو منطق الرّبح بالنّسبة لبعض اليساريين، أو نحو ذلك. يكمن الخطأ الأساسي هنا في مبدأ التّعميم، حيث يسود الاعتقاد بوجود علاقة سببيّة
ضروريّة بين الكارثة وسلوك الإنسان في كلّ الأحوال، وهو تعميم خاطئ، ويؤجّج مشاعر الذّنب.
 
لا ننكر وجود كوارث يتحمّل فيها الإنسان قدرا معينا من المسؤوليّة، لكنّ المشكلة تكمن في النّزوع نحو تحميل الإنسان مسؤوليّة كلّ الكوارث في كلّ الأحوال، وهذا ما لا يخلو من مبالغة، لكنّها مبالغة تخفي حقيقة من نوع آخر: ثمّة معتقد يعود إلى إنسان الأزمنة البدائيّة، ولا يزال راسخا في اللاّوعي الجمعيّ، بموجبه يتصوّر الإنسان أنّ الكارثة الّتي قد تصيبه، أو تصيب الآخرين، ليست سوى عقاب من الله، أو الطّبيعة، أو القدر، أو الحياة، أو أي مصدر آخر.
هي معادلة راسخة في اللاّوعي الجمعيّ للبشريّة جمعاء، بحيث يكون ردّ الفعل الغريزيّ الأوّل أمام المصيبة أن يشعر الإنسان بأنّ هناك عقابا معيّنا، سواء أكان في الإطار الفردي أم الجماعي. ذلك الشّعور قد يتخلّص منه الإنسان جزئيا عن طريق المعرفة والمنطق والحكمة، لكنّه يبقى كامنا بدرجات متفاوتة، وقد يتّخذ مظاهر معلمنة أحيانا، من قبيل أنّ البيئة تعاقب الإنسان لأنّه يلوّث المناخ، أو أنّ التّاريخ يعاقب الشّعوب الّتي تأخّرت عن الرّكب، أو ما شابه ذلك، غير أنّ الدّافع الأساسي يكمن في أنّ الإنسان يريد أن يشعر بوجود عدالة معيّنة وراء كلّ الضّربات القاسية الّتي قد يتلقّاها من طرف الطّبيعة والحياة والقدر.
ثمّة معتقد قديم بموجبه يتصوّر الإنسان أنّ الكارثة الّتي قد تصيبه أو تصيب الآخرين ليست سوى عقاب من الله أو الطّبيعة أو القدر أو الحياة
 
لذلك، فانطلاقا من معادلة أنّ الكارثة تمثّل نوعا من أنواع العقاب، ينشأ تسلسل للأفكار على النّحو التّالي:
إذا كانت الكارثة عقابا، فالإنسان بطبعه لا يستطيع أن يتحمّل عقابا لا يراه مبرّرا. بهذا المعنى يمثّل تبرير الكوارث الطّبيعيّة حاجة أساسيّة للإنسان. لذلك ستكون عبارات التّشفي والتّأثيم الّتي يطلقها البعض في ظروف الكوارث مجرّد جهد انفعالي لإقناع العقل بأنّ "العقاب" مبرّر! ولا نتشفّى في المنكوبين إلاّ لأنّنا لا نتحمّل الشّعور بأنّهم مظلومين!
بوسعنا إعادة توضيح تسلسل الاستنباط على النّحو التّالي:
في لحظة من لحظات ارتقاء الإنسان، تطوّر جانب من العقل والوجدان بنحو جعل الإنسان لا يتحّمل العيش في عالم لا يبدو عادلا كما ينبغي. لذلك سيكون الميزان بمثابة الرّمز الإنسانيّ الأكثر كثافة ودلالة عن رحلة الإنسان الشّاقة والطّويلة بحثا عن عالم عادل لا يزال مفقودا. لقد جعلت معظم شعوب الأرض من الميزان رمزا مكثّفا لمفاهيم العدالة والمساواة والحقّ والإنصاف والقسط والاعتدال، داخل الكثير من المجالات، كالتّجارة، والقضاء، وعالم الحساب الأخروي أيضا. الميزان هو الأداة الأكثر تعبيرا عن حلم العدالة إذاً. لذلك بوسعي أن أفترض بأنّ أساس الأديان لا يكمن في فكرة الخلود كما يظنّ كثيرون، بل يكمن في فكرة العدالة، لا سيّما في بعدها الأخرويّ، وذلك بعد أن أيقن الإنسان بأنّ الحياة ليست عادلة كما تتصوّر بعض قصص الخيال الّتي تمثّل تعويضا أدبيا عن حلم العدالة. لذلك أيضا سيمثّل الميزان الأخروي، والّذي يظهر مجسّما في الدّيانات المصريّة القديمة، عزاء للإنسان الّذي يعاني من ظلم الطّبيعة والحياة والقدر. ولذلك أيضا نفهم البعد العزائي لفكرة المخلّص في عديد من التّقاليد الدّينيّة، والّذي سيعود إلى الأرض لأجل هدف واحد، أن يملأ الأرض عدلا، على طريقة المسيح، والمهدي، وبوذا، في آخر الزّمان.
لكي يكون العالم مكانا قابلا للعيش، يحتاج الإنسان إلى إعادة تأويل العالم بنحو يجعل وجود العدالة أصليا في العالم، أو حتميا في النّهاية، ويجعل الظّلم طارئا أو مؤقّتا. لكن تبقى هناك مشكلة عالقة، ما الّذي يبرّر وجود الكوارث إذاً؟
انسجاما مع نفس المنطق الاستدلاليّ، لا يبرّر الكارثة سوى أن تكون عقابا مستحقّا، بمعنى عادلا ومنصفا. وهو ما يجعل الكوارث تحيل إلى وجود أنواع من الآثام وجب كشفها وبالتّالي التّكفير عنها.
بهذا النّحو تنتصر في النّهاية المشاعر، الّتي يعتبرها نيتشه من أسوأ غرائز الانحطاط، مشاعر التّأثيم والشّعور بالذّنب. على أنّ هناك قوى اجتماعيّة مهيأة دوما لاستثمار ذلك الشّعور لغايات تتعلق بالتّسلط على أرواح النّاس.
لأجل ذلك سيكون تفكيك معادلة أن الكارثة تساوي العقاب إجراء نقديا، وصحيا كذلك.
كيف ذلك؟
طالما يعتقد الإنسان بأنّ الكارثة عقاب، لا شكّ أنّ العقاب يحتاج إلى مبرّرات، غير أنّ كلّ المبررات الّتي أمكن للإنسان أن يتصوّرها بصدد الكوارث كافّة، لا يمكنها أن تصمد طويلا أمام اختبارات المنطق والأخلاق. كما أنّ حسّ العدالة نفسه لا يستطيع أن يبرّر أن يكون العقاب جماعيا لا يستثني الطّيبين، ولا الصّغار، ولا الضّعفاء، ولا الصّلحاء، ولا غيرهم. بحيثإنّ منطق العقاب الجماعيّ الّذي كان يقنع العقل القديم بسهولة يجد اليوم صعوبة كبيرة في إقناع العقل الحديث. ذلك أنّ المستوى الأخلاقي للعقل القديم كان يسمح له بأن يتقبّل مفهوم "العقاب الجماعيّ" بسلاسة وسهولة، أمّا اليوم فمستوى التّطور الأخلاقيّ للعقل الإنسانيّ لا يسمح له بتقبّل مبدأ "العقاب الجماعي". هنا تكمن إحدى المعضلات الأساسيّة للقيم الأخلاقيّة التّقليديّة.
 
ليست الكارثة عقابا كما يتوهّم الّذين في قلوبهم مرض التّأثيم ولا هي مؤامرة كما يتوهّم الّذين في قلوبهم مرض الحقد بل إنّها من صميم الحياة
لقد كان لمبدأ العقاب الإلهيّ الجماعيّ على الدّوام نتائج خطيرة في مستوى علاقة النّاس بعضهم ببعض إذ يجعلها علاقة قائمة على التّأثيم المتبادل، وتبادل اللّوم والتّذمر، وبالتّالي تسلّط الجميع على رقاب الجميع، خوفاً في كلّ مرّة من أن يحلّ العقاب الجماعي جرّاء أفعال البعض. غير أنّ هذا المبدأ لم يعد مستساغا من قبل العقل الأخلاقيّ المعاصر، وهذا خبر جيّد.
ستكون المعادلة المناسبة اليوم على النّحو التّالي:
الكارثة ليست عقابا.
الكارثة ظاهرة طبيعيّة، وهي جزء من نظام الحياة، لا شكّ أنّها تسبّب المآسي للإنسان والحيوان، بلا سبب، بلا مبرّر، بلا طائل، ولا خيار آخر سوى مقاوّمتها عن طريق العلم والمعرفة والفنّ، وأمّا عندما تفرض نفسها كواقع، فيجب التّعايش معها عن طريق الحكمة وفلسفات العيش.
ليست الكارثة عقابا كما يتوهّم الّذين في قلوبهم مرض التّأثيم، ولا هي مؤامرة كما يتوهّم الّذين في قلوبهم مرض الحقد، بل إنّها من صميم الحياة، لعلّها تؤلمنا بالفعل، ولعلّها تدمّرنا أيضا، غير أنّها لا تستطيع أن تدمّر قلوبنا حين تكون قلوبنا معافاة كما ينبغي.
كثيرون من يزيدهم المرض مرضا، غير أنّ الكثيرين في المقابل يخرجون من المرض أكثر نبلا وشهامة. كذلك الكوارث، هناك من تدمّره، وهناك من يخرج منها أكثر قوّة وعنفوانا.
يصدق ذلك على الأفراد، كما يصدق على المجتمعات أيضا.
مفكر مغربي وباحث مختص في قضايا التجديد الديني