ما زلت أتذكر الخطاب الملكي، الذي كان الملك محمد السادس وجهه إلى الشعب، يوم 30 يوليوز 2014، بمناسبة الذكرى 15 لعيد العرش، وما أحدثه من ضجة واسعة بين المغاربة حول موضوع "الثروة الوطنية"، والذي دعا فيه ملك البلاد، لأول مرة منذ اعتلائه العرش، بل لأول مرة في تاريخ المغرب، إلى "ضرورة تسليط الضوء على قيمة رأس المال غير المادي للمغرب"، كما شدد على ضرورة الاستناد على هذا الخطاب كمعيار أساسي لوضع السياسات العامة لكي يستفيد المغاربة من ثرواتهم.
وما زلت أتذر كذلك، أن العاهل المغربي دعا، في الخطاب ذاته، إلى إجراء دراسة لتقدير القيمة الإجمالية لثروة المغرب من بداية سنة 1999 (سنة توليه الحكم) إلى نهاية سنة 2013.
ونحن اليوم في سنة 2021، هل أجريت هذه الدراسة بالشكل الذي يجب وكما أرادها ملك البلاد؟
وما زلت أستحضر مدى التأثير، الذي تركه في نفسي ذلك الخطاب حول الثروة، والحق في استفادة كل المغربيات والمغاربة من كل ثروات وخيرات بلادهم، وهو حق مشروع يكفله دستور المملكة المغربية، وهو كذلك في انسجام تام مع المعاهدات والاتفاقات الدولية.
كانت قد مرت 5 سنوات على رجوعي من فرنسا/ منفاي الاختياري، الذي دام ما يقرب 10 سنوات، حينما أنصت وتتبعت بإمعان لخطاب "الحق في الثروة الوطنية". وهو الخطاب الذي حمّس العديد من الفاعلين من مشارب مختلفة، واعتبرته شخصيا مقدمة لفتح نقاش جدي ومسؤول حول "الفضاء الأخضر" (القطاع الغابوي والفلاحي والأراضي السلالية)، و"الفضاء الأزرق" (قطاع الصيد البحري) و"الفضاء الرمادي والبرونزي والذهبي" (قطاع المعادن)، بالإضافة الى قطاعات أخرى تصنع الثروة المغربية بامتياز.
فانغمرت في تتبع ما جاء في خطاب الملك ثلاث سنوات، تعرفت من خلالها على موسوعات عديدة تخص الحق في الثروة الوطنية والبحث عن كيفية تفعيل مضمونه، ليس للاستشهاد به والتعامل معه بشكل انتهازي لقضاء المآرب، بل من أجل مصالحة حقيقية طبقا للمعايير الدولية الأكثر صرامة.
وبالرغم من قساوة هذا الاختيار الجديد، كانت وما زالت هناك متعة زودتني بمعارف غزيرة، تتناسبت مع الجهد الذي بذلته صحبة ثلة من بنات وأبناء الوطن البسطاء الطيبين، فبقيت إلى الآن متشبثا بالحبل بهدوء، وبالأمل في ولادة مغرب المستقبل، مغرب أفضل يتسع للجميع.
في الواقع، لم يكن سؤال "الثروة الوطنية" في خطاب 30 يوليوز 2014 أكثر معنى من الخطب الأخرى التي أرخت لمحطات تاريخية مختلفة، وعلى رأسها خطاب الملك بمناسبة انتهاء مهمة هيئة الإنصاف والمصالحة وتقديم الدراسة حول التنمية البشرية بالمغرب (خطاب 6 يناير 2005)؛ بل كان امتدادا لمسار التعبئة والثقة والأمل، ذلك المسار الذي بدأ مع "الإنصاف والمصالحة والعدالة الانتقالية" وما ترتب عنه من توصيات شملت مواصلة التحريات حول الحالات العالقة، واستكمال معالجة جبر الضرر الفردي، وبرامج جبر الضرر الجماعي، وتدابير حفظ الذاكرة والأرشيف والتاريخ، وإرساء ضمانات عدم تكرار الانتهاكات.
لقد شهدت هذه السنوات تناميا ملحوظا لأشكال وصيغ التقدم الديمقراطي ببلادنا، وعناء البحث والتنقيب في رفوف مكتبات التاريخ والجغرافيا وحقوق الانسان والتنمية البشرية بكل أصنافها وعناوينها. ففي أكثر من مناسبة تزاحمنا على المعارض والندوات والمؤتمرات، هروبا من برودة وقساوة الماضي، باحثين عن الدفء الذي يغمر بضوعه النفاد، وكلنا أمل في رمز المصالحة المغربية، التي ألهمت ميثاق الحقوق والحريات الذي يمثله اليوم دستور المملكة (دستور 2011).
إلا أن هذا المسار ظل عصيا على الإدراك، وظلت مخرجاته تحتاج إلى دفع يساوي وزنها بين أزمنة الإصلاح المغربي المتعاقبة منذ مطلع العهد الجديد: من ميلاد المجلس الوطني لحقوق الإنسان كمؤسسة وطنية للحماية والنهوض بحقوق الإنسان في المغرب سنة 2011 (والتي حلت محل المجلس الاستشاري لحقوق الإنسان الذي أنُشئ سنة 1990)، إلى "خطاب الثروة" سنة 2014، مرورا بإقرار التنوع الإثنو-ثقافي بمناسبة خطاب أجدير سنة 2001 وإنشاء المعهد الملكي للثقافة الأمازيغية في 2004، وإحداث الهيئة العليا للاتصال السمعي البصري (الهاكا سنة 2002)، وإصلاح مدونة الأسرة (2004)، وخلق هيئة الانصاف والمصالحة (2004-2005).
ومنذ خطاب العرش الـ15، والمغرب ينتظر من يسلط الضوء على هذا المسار الإنساني والحقوقي والاجتماعي، ومن ينقذ قيمة رأس ماله غير المادي كذلك، واعتباره من المعايير الأساسية في وضع السياسات العامة، ليتمكن المغاربة من الاستفادة منها.
لقد أعرب الملك بنفسه عن أسفه بالمناسبة ذاتها (الذكرى 15) لـ"حدة الفوارق الاجتماعية" بين المغاربة، متعهدا بالسعي إلى "تعميم استفادة جميع المغاربة من ثروات وطنهم"، وهو ما يدفعنا اليوم لاستحضار ما ضاع منا من فرص، من دون عدم الاعتراف بما حققته بلادنا من تقدم كبير في مختلف المجالات، وفي مقدمتها التطور الديمقراطي، الذي يجسده دستور 2011، ومنظومة الحقوق والحريات، والإقدام على ورش مغرب الجهات. لكن ورغم ذلك يظل اليوم المشهد الاجتماعي بئيسا ومتأزما، لأن الأثر الملموس لـ"خطاب الثروة"، وكذا لكل الأوراش الكبرى، لم يجد النخب المؤهلة لتفعيله.
لقد كبرنا وكبر معنا السؤال حول نخب المركز، وخاصة تلك التي قادت المجتمع المدني لأزيد من 20 سنة، كوسيط وكشريك للدولة ولمؤسساتها وللمنظمات الأجنبية في العديد من الأوراش الشبابية والنسائية والاجتماعية. ففي الوقت الذي نطالب اليوم من الحكومات المتعاقبة ومن يمثلها من السياسيين أن يقدموا لنا حصيلة إنجازاتهم وإخفاقاتهم وعجزهم ومآل التنمية في زمنهم، نطالب كذلك من قادة المجتمع المدني التاريخيين أن يقدموا للمغاربة حصيلتهم، لتمكين الجميع من الحق في المعلومة.
إن مسلسل الإصلاحات لا يزال مفتوحا، والعديد من الأوراش مازالت متعثرة وقيد الإعمال (باستثناء أوراش الملك الكبرى: مشروع ميناء طنجة المتوسط، مشروع نور للطاقة الشمسية، مشروع التي جي في، ومشروع الجرف الأصفر، ومشروع الترامواي، إلخ)، وما نعيشه اليوم من تردي على مستوى القيم، ومن تفسخ أخلاقي واجتماعي، ومن عنف وجريمة وانحراف، ونفور من المؤسسات، وتيهان على مستوى الحريات، يسائل نخبة المجتمع المدني والسياسيين قبل غيرهم، تلك النخبة التي تربعت على عرش المجتمعين المدني والسياسي المغربي لعقود طويلة من الزمن..
إننا نحتاج إلى وقفة تأملية وإلى حوار صريح بين الفاعلين السياسيين والمدنيين والنقابيين، حوار مجتمعي Débat societal يمكننا من فهم ما جرى وما يجري من حولنا، وتقييم الوضع، وتحديد أوجه القصور وسقف التطلعات لاسترجاع الثقة والأمل في مغرب المستقبل، عبر تخطي الأزمة الاجتماعية الخانقة التي تجتازها بلادنا.
إن احتكاكنا بالواقع، وزيارتنا لما يزيد عن 50 منطقة بالمغرب، ووقوفنا على الفراغ القاتل في مناطق العالم القروي وسكان الجبل والواحات والسهوب، يجعلنا نطالب بحوار جاد ومسؤول ليس فقط مع المسؤولين الإداريين والترابيين، بل كذلك مع الفاعلين المدنيين المركزيين الذين مارسوا الوساطة بين الشعب ومؤسساته من جهة، وبين الوطن والعديد من المنظمات الدولية التي مكنت العديد من الأنسجة المدنية من إمكانات باهظة في العديد من المناسبات، باسم الحوار المدني وقيم التسامح واحترام التعددية الثقافية ومرجعياتها ودعامتها المادية واللامادية.
ومعلوم أن هذا الواقع المر الذي وقفنا عليه في عشرات المناطق، والذي ذهب ضحيته آلاف الشباب والنساء، يستحق اليوم النقد والنقاش والحوار المسؤول أكثر من أي وقت مضى، وليس الإدانة والسب والشتم والتكفير. فلا يخفى اليوم على أحد أن مغرب الهامش لم تصله بعد نخب المجتمع المدني المركزي منذ عقود طويلة من الزمن، كما لا يخفى على أحد أن التجارب المضيئة في هذه المناطق كانت بعرق الجبين وبالإمكانات الذاتية المحدودة، المبنية على قيم التطوع والتضامن والتآزر الاجتماعي.
أخيرا، في انتظار التفاعل مع مساهمتنا هذه، لن نلوم الدهماء إذا تكلمت، بل نلوم من احتكر الكلام والرأي، ومن توفرت لهم مساحات خاصة من الكتابة والكلام، مساحات يبنيها المال والسلطة، نخبة مركزية تنتج لنفسها وعوام مغرب الهامش تستهلك؛ سنواصل بهدوء التفكير في ابتكار آليات جديدة، تشاركية ومندمجة مع الجميع، من أجل تفعيل "خطاب الثروة الوطنية" وتحقيق العدالة المجالية بين الجهات، وتوفير البنيات الأساسية الأربعة: التعليم، الصحة، الشغل والسكن.
إن حصيلة المغرب، منذ ميلاد العهد الجديد، تراث جماعي وجزء من ذاكرتنا الجماعية، وخزان من مخازن الرأسمال المادي واللامادي، علينا الحفاظ عليه، والاعتراف بنواقصه من دون مركب نقص، من أجل الإسراع بوتيرته وبتقوية النسيج المدني في العالم القروي وسكان الجبال، والاعتناء بالشباب المغربي عبر ربوع الوطن، والنهوض بآليات الحماية في مجال حقوق الإنسان ومسار النضال التطوعي، وفي مجال حرية التعبير والرأي والصحافة، وإشراك المجتمع المدني الحقيقي والحركات الاجتماعية في أوراش التغيير، ونبذ مختلف أنواع العنف الاجتماعي والتعصب الديني أو العرقي، والاعتراف بالكفاءات والأطر أينما تواجدت، وتقوية دعائم كل ما يتسم به المجتمع المغربي من وحدة وتنوع ثقافي وحضاري، واعتبار الثقافة المدنية كفكر إنساني وكأسلوب حياة، مدخلا حقيقيا وضروريا للمصالحة الشاملة مع المجتمع، لأنها (الثقافة) تحولنا إلى بشر وترتقي بنا إلى المستوى الإنساني، بل أكثر من ذلك، هناك من يعتبر أنه من غير ثقافة المصالحة والصفح لن تكون لنا لغة نعبر بها عن أنفسنا، فـ"نعم للصفح، لا للنسيان" كما قال نيلسون مانديلا...
الرئيس الناطق الرسمي لمنتدى مغرب المستقبل (حركة قادمون وقادرون)