الغد 24 خبر الغد تقرأه اليوم

قنصلية واشنطن في الداخلة.. ثلاث إشارات أمريكية لمغرب تحوّل إلى قوة إقليمية

 
نوفل البعمري
 
كان لافتا الاحتفاء الكبير الذي عاشته مدينة الداخلة بالوفد الأمريكي الذي حل بها رفقة وزير الخارجية المغربي والمسؤولين المغاربة، وهو احتفاء يعكس روابط العلاقة التاريخية والاستراتيجية التي تجمع البلدين والشعبين منذ أزيد من مائتي سنة، منذ أن اختار المغرب أن يكون أول بلد يعترف بالولايات المتحدة الأمريكية، واختارت الولايات المتحدة الأمريكية أن تجعل من البعثة الدبلوماسية الأمريكية بالمغرب أقدم بعثة دبلوماسية أمريكية في العالم، هذه العلاقة الدبلوماسية التاريخية فتحت الباب لبناء علاقة مغربية-أمريكية متوازنة، قوية ذات أبعاد متعددة، اقتصاديا وسياسيا وثقافيا...
 
وقد تمثلت هذه الأبعاد في الحضور اللافت للسفير الأمريكي بالداخلة ومساعد وزير الخارجية الأمريكي رفقة وفد كبير ومهم لتحويل حدث التهييء للافتتاح الرسمي للقنصلية الأمريكية بالداخلة إلى حدث دبلوماسي غير عادي، الى حدث ذي قيمة سياسية ودبلوماسية ليس فقط في العلاقة بين البلدين، بل في المنطقة ككل، خاصة وأنها جاءت بعد زيارة دفيد شينكر للجزائر الذي أعلم فيها وزير خارجيتها صبري بوقادوم والشعب الجزائري، بكل وضوح، بالموقف الأمريكي من نزاع الصحراء، من خلال تبنيهم لمبادرة الحكم الذاتي كحل سياسي وحيد لإنهاء هذا النزاع، وبموقفهم القاضي بالاعتراف بسيادة المغرب على كل مناطقه الصحراوية، وهو الموقف الذي شكل سابقة تاريخية، إذ سيسجل التاريخ أن أول من خرج في الإعلام الجزائري الرسمي الذي لم يمتلك الجرأة كما يمتلكها في اختلاق الأخبار في استعمال مقص الرقابة لاقتصاص حديثه، خاصة الجزء المتعلق بتأكيد الموقف الأمريكي من مغربية الصحراء، تصريح جاء بعد لقاء رسمي مع مسؤولين جزائريين في عُقر دارهم ليعلن موقف الولايات المتحدة الأمريكية بشجاعة دبلوماسية تعكس طبيعة الترتيبات المختلفة والجدية التي تمت بين المغرب وأمريكا والتي انتهت بالتوقيع على المرسوم الأمريكي الرئاسي، وإصدار بلاغ الديوان الملكي، ثم الترتيبات المختلفة التي انتهت بالمصالحة العربية-العربية التي شكلت وستشكل دعما كبيرا للمغرب ولمبادرة الحكم الذاتي، وقبلهما توقيع الاتفاق العسكري بين البلدين الذي سيمتد من سنة 2020 إلى سنة 2030.
 
حدث افتتاح القنصلية الأمريكية، ليس حدثا عابرا بل حدث دبلوماسي سيطبع المنطقة ككل وسيجعل من الأقاليم الصحراوية قطبا سياسيا اقتصاديا ذا بعد إقليمي إفريقي-عربي وعالمي، هذا التحول سيكون له وقع على نزاع الصحراء ومناقشاته الأممية التي ستتم مستقبلا بدءا من المباحثات التي ستتم لاختيار مبعوث أممي جديد الذي سيكون متوافقا مع التحولات الدبلوماسية التي تشهدها/ستشهدها الصحراء، ومع الرؤية الجديدة للأمم المتحدة المُعبر عنها في قرار مجلس الأمن حول الصحراء عدد 2548، ومع الموقف الأمريكي من الصحراء ورؤيتها لحل النزاع الداعم لمبادرة الحكم الذاتي كحل سياسي واقعي لإنهاء هذا النزاع.
 
دفيد شينكر مساعد وزير الخارجية الأمريكي لشؤون الشرق الأدنى، في ندوته الصحفية التي تزامنت مع زيارته رفقة السفير الأمريكي للقنصلية، كان تعبيره لافتا عن المواقف الرسمية التي تتكامل مع المواقف التي أكد عليها في الجزائر، وهي مواقف تحمل إشارات نلخصها في:
 
أولا، إشارة شينكر إلى كون تطور العلاقة الأمريكية المغربية راجع بالأساس لريادة الملك محمد السادس كملك إصلاحي قام، منذ اعتلائه العرش، بإصلاحات جريئة، ثم دوره الموازي على مستوى الشرق الأوسط وأفريقيا في حفظ السلم والأمن بالمنطقة، إنها إشارة قوية تؤكد وتثمّن دور الملكية المغربية وروحها الإصلاحية في دعم صورة المغرب خارجيا مما جعلها تحظى بثقة دولة فاعلة ومؤثرة في العالم هي الولايات المتحدة الأمريكية، وجعل من المغرب، من خلال مؤسسته الملكية دولة قادرة على لعب دور إيجابي في مختلف النزاعات الإقليمية والعربية، وهنا كانت الإشارة الذكية لشينكير للدور الذي يلعبه الملك محمد السادس في إحلال السلم بالشرق الأوسط، وفي هذا تأكيد، لمن هم في حاجة إلى هذه الإشارة القوية، على أن عودة الاتصال بين المغرب واسرائيل لم تكن عودة مقايضة، بل كانت تقديرا لمكانة وقدرة الملك، باعتباره رئيس لجنة القدس وأمير المؤمنين لكل المؤمنين مسلمين ويهود ومسيحيين، على ممارسة تأثيره الرمزي والسياسي داخل إسرائيل وكذلك داخل الأوساط الفلسطينية، للقيام بدور إيجابي مستقبلي لبعث السلام بين الطرفين وفي المنطقة.
 
ثانيا، إشارة شينكر من قلب الجزائر إلى ضرورة اتخاذ خطوة شجاعة لإنهاء نزاع الصحراء، هي إشارة قوية إلى الدولة الجزائرية للخروج من إسار مواقفها التقليدية، نحو اتخاذ خطوة إيجابية وشجاعة اتجاه المغرب لفتح الحدود، والاستجابة لليد المغربية الممدودة التي أطلقها الملك محمد السادس، وطي صفحة الماضي وسنوات من الرواسب السلبية التي لم تخلف سوى الحقد داخل بنية الدولة الجزائرية اتجاه كل ما هو مغربي للأسف، ضدا على التاريخ وعلى إرادة الشعبين وغالبية نخبه، إشارة شينكر هي تعبير عن موقف واضح في هذا الاتجاه، أي اتجاه أن تتخلى ويتخلى النظام الجزائري عن عدائه للمغرب وتدخله السلبي في نزاع الصحراء المعرقل لكل إمكانية للتوصل لحل سياسي على قاعدة الحكم الذاتي.
 
ثالثا، إشارة شينكر إلى الموقف الأمريكي من النزاع، الذي يُعتبر موقفا رسميا داخل الإدارة الأمريكية ولم يتأثر بالوضع السياسي المضطرب، الذي تعيشه الولايات المتحدة الأمريكية على مستوى نقل السلطة بين الرئيس ترامب وبايدن، وهذه إشارة قوية في اتجاه كل المتشككين والمشككين على السواء، إشارة تشدد على استمرار مختلف الترتيبات المقررة لافتتاح القنصلية، وتأكيد شينكر على المواقف الأمريكية من نزاع الصحراء الداعم لمغربية الصحراء ولمبادرة الحكم الذاتي أمميا في هذه الظروف، هذه المواقف التي أصبحت جزءا من السياسة الدبلوماسية الأمريكية الخارجية، التي لن تتأثر بخروج ترامب من كرسي الرئاسة الأمريكية وتقلد بايدن للحكم بهذا البلد الشريك الاستراتيجي للمغرب، بل ستتعزز لأنها أصبحت وستصبح أكثر عمقا وقوة بين البلدين، وأصبحت جزءا من السياسة الثابتة في العلاقة بين البلدين.
 
لقاء الداخلة الدبلوماسي الكبير الذي جمع دبلوماسيي البلدين شكل علامة فارقة في تاريخ الدبلوماسية المغربية التي يقودها الملك محمد السادس، والتي وضع أسسها منذ سنوات، وأصبح المغرب يجني ثمارها السياسية والاقتصادية، والتي جعلت من المغرب قبلة للاستثمار ولرجال الأعمال نظرا لريادته، داخليا من خلال الإصلاحات التي قام ويقوم بها الملك منذ اعتلائه للعرش، وخارجيا من خلال وضع أسس دبلوماسية قوية، واضحة، متنوعة، ومنفتحة، جعلت من المغرب قوة ذات وزن إقليمي حقيقي، قادرة على أن تلعب دورا إيجابيا في إحقاق السلم والأمن بإفريقيا والشرق الأوسط.
 
محام وباحث في ملف الصحراء