بعد تفاقم جائحة كورونا بالمغرب تكاثر الحديث عن "قلة أو تدني الوعي لدى فئات واسعة" وهو حكم جاهز أطلق ويطلق في عدة مناسبات، علما أن تتبع ردود فعل الشعب المغربي في العموم، وباستثناء الحالات الشاذة، أبرز أن التعامل الواعي المعتمد على الاحتياطات وتقبل ما فرضته إجراءات الطوارئ الصحية بمستوى من الانضباط لم يكن متوقعا، بما فيه أكثرية الحالات المكرهة التي حاولت أن تغلب الانضباط حتى على الحدود الدنيا للعيش.
تدني الوعي أم تدني التوعية؟
من المؤكد أن شرائح قليلة من بعض الفئات لم تربط انضباطها أو قلته بوعي ضروري بالجائحة وبالمسؤوليات الفردية والجماعية إزاءها، ووعي بسياقها وبأوضاع البلاد في مختلف المجالات وبمستجدات الجائحة وتطوراتها عالميا... ومن يطلب ذلك من هاته الشرائح فهو كمن يطلب الماء من بئر ناشف.
مع كل هذه النسبية التي ينبغي التعامل بها مع ردود فعل المغاربة، فلاريب أن سؤال التوعية طرح ومازال مطروحا ليس فقط حول طبيعة الفيروس المستجد وكيفية الوقاية منه وكيفية علاجه، بل كذلك حول الأوضاع الصحية بالبلاد والأمراض المنتشرة وواقع المنظومة الصحية وما إلى ذلك. والمؤسسات المكلفة أو المعنية بالتوعية متعددة ّ، ومن ضمنها إن لم نقل في مقدمتها المؤسسة الإعلامية.
وفي انتظار دراسات علمية لمضامين الإعلام وأشكاله خلال الجائحة، تسعفنا المتابعة أن نقدم ملاحظات أولية، تؤكد بخلاصة عامة دون أن تكون تعميمية، بأن عمليات التوعية لم تكن في مستوى تحديات الجائحة وما طرحته من رهانات على علاقتها بوظائف الإعلام وبتجديده وتطويره وملاءمته مع الحاجيات المستحدثة للوطن وللمواطنات والمواطنين...
فهل ساهم الإعلام في "التراخي" الذي تردد الحديث عنه كثيرا، بسبب افتقاده لما يكفي من البيداغوجية؟ وقبل هذا السؤال ألم يساهم في ذلك إعلام الديماغوجية "المزدهر" في بلادنا؟
كان استعمال مصطلح ديماغوجية منتشرا بشكل مبالغ فيه قبل سنوات، ثم تقلص استعماله بشكل ملموس لأسباب قد تحتاج لدراسة الباحثين اللغويين والإعلاميين... ويقصد به العمليات والأنشطة التي تسعى لـ"أكل" الأدمغة أو "لحسها" كما يقال في تعبير آخر...
عند البحث في المصطلح نجد بسهولة التعريف المبسط التالي: "كلمة يونانية مشتقة من كلمة (ديموس)، وتعني الشعب، و(غوجية) وتعني العمل". أما معناها السياسي "فهي الأساليب التي تستعمل لخداع الشعب وإغرائه ظاهرياً للوصول للسلطة وخدمة مصالح محددة"، وتبعا لذلك فالديماغوجي هو الشخص الذي يسعى "لاجتذاب الناس إلى جانبه عن طريق الوعود الكاذبة والتملق وتشويه الحقائق، ويؤكد كلامه مستندا إلى شتى فنون الكلام وضروبه وكذلك الأحداث، ولكنه لا يلجأ إلى البرهان لأن ذلك يبعث على التفكير ويوقظ الحذر، والكلام الديماغوجي مبسط ومتزندق، يعتمد على جهل سامعيه...".
ولا يسمح الحيز بتعريف البيداغوجية، لاسيما أنه مصطلح معروف لدى الكثير من القراء وقليل الالتباس وأقرب للبحث عن معانيه واستعمالاته.
ما على الديماغوجية وما للبيداغوجية
إعلام الديماغوجية يتذاكى على المتلقين، إعلام البيداغوجية يحترم ذكاءهم..
هذا يتقن التبسيطية الفجة ويغرق في المصطلحات الضخمة والكلمات المفخمة، وذاك يعمل على البساطة وعلى التفكير في الرسائل المقدمة و"يدير لسانه في فمه سبع مرات" قبل النطق بكلمة أو كتابتها..
إعلام الديماغوجية "يتعالم" على العلماء والخبراء ويقدمهم بشكل مفخم ومضخم ويشوه ما يقولونه.
إعلام البيداغوجية يحترم العلم والعلماء والخبرة والخبراء ويحرص على تقريب أفكار الخبرة والعلم للمتلقين واستنباط الرسائل الإعلامية منهما..
هذا يجعل التنشيط تهريجا والتهريج علما، وذاك يجعل التنشيط شراكة مع المتلقي وارتقاء بالعملية التواصلية..
إعلام الديماغوجية يغلف الحقيقة والحقيقة عنده هي ما يقدم وهي مطلقة لا نقاش فيها، إعلام البيداغوجية ينقل ما توصل إليه من الحقيقة، وهي نبراسه، والحقيقة دائما غير مكتملة ونسبية..
هذا يكتب او يتحدث أكثر مما يهيء، وذاك يهيء أكثر مما يقدم أو يكتب..
إعلام الديماغوجية يفتي الناس في الوطنية ويخلطها بالشوفينية، إعلام البيداغوجية يتناقش مع الناس في المواطنة وبالمواطنة ويجعلها أساسا لمعادلاته..
في هذا الإعلام يفرض على الضيف أن يخاطب "المنشط" بالأستاذ ويتقبل حتى سخافاته،
في ذاك الإعلام الحوار متعة والصحافية أو الصحافي ضمنه متواضع بمعرفته ونشيط بتواضعه..
إعلام الديماغوجية "أستاذية "ودروس ملقاة من فوق، إعلام البيداغوجية تعلم متبادل بين الصحافي والمتلقي..
في إعلام الديماغوجية يكثر أشباه الصحافيين وأدعياء الإعلام ومن يعتبرون أن الشهرة هي الأساس ولو تمت على جثة الحقيقة وعلى حساب النزاهة، وفي إعلام البيداغوجية الصحافي ناكر لذاته، يساهم في بناء الوعي الجماعي وتقدم الوطن ضمن تطور الإنسانية..
هذا خطاب لليقين واللغة الحاسمة، وذاك طرح للاحتمالات وتعايش معها..
إعلام الديماغوجية تدجين للعواطف وسعي خائب للبراعة في دغدغتها، إعلام البيداغوجية تحريك للوجدان الجماعي وربط له بالوعي وبالعقل..
لدى هذا الترفيه بهرجة وإضاعة للوقت و"بسالة وحموضة" كما يتم وصفه عادة، ولدى الآخر الترفيه مضمون وفن رفيع لا ينفصل عن الرسالة الإعلامية..
إعلام الديماغوجية خيالات استيهامية واستيهامات خيالية، إعلام البيداغوجية لا يمل من المساهمة في بناء المخيال الجماعي، وتحفيز خيالات الأفراد ليولد الإبداع..
خط تحرير هذا مرتكز على الاتجاه الواحد والرأي الوحيد، وخط تحرير ذاك أساسه التعدد الذي يجمع ولا يشتت.
إعلام البيداغوجية يستعمل الإعادة المدروسة والرسائل المتراكمة والمتسلسلة وشعاره: "المتلقي هو الأذكى"..
إعلام الديماغوجية يحول السبق الصحافي إلى "سلق" وخرق للأخلاقيات، إعلام البيداغوجية يعتمد الآنية المؤسسة على التحري الدائم والإحاطة بالملفات والقضايا..
ويمكن أن نستمر في استعراض مفارقات "الإعلامين" بقدر تتبع خروقات وحماقات غالبية ما يقدم لنا على أنه إعلام وتخلياته واختلالاته، وكلما استحضرنا القواعد المهنية وقيم ومبادئ أخلاقيات الإعلام...