روسيا - أوكرانيا.. حرب تتداخل فيها الحسابات الجيوسياسية والأمنية والاقتصادية والعقائد والعنصرية
الكاتب :
محمد نجيب كومينة
محمد نجيب كومينة
عداء الغرب لروسيا ليس جديدا، ولم يفلت منه حتى كارل ماركس، الذي قال إنه لا يمكن أن تأتي من روسيا إلا الرجعية... ومن المفارقات أن هذه الرقعة الكبيرة من العالم هي التي شهدت أكبر انتشار لأفكاره ولأفكار خصومه في كومونة باريس، وضمنهم الروسي باكونين، وحققت جانبا من نظريته من خلال ثورة أكتوبر 1917 والنظام السوفياتي الذي أقامته واستمر لقرابة 70 سنة.
الغرب، وخصوصا أوروبا، يخاف روسيا، سواء كانت شيوعية أو رأسمالية أو إقطاعية، وخوفه هذا ليس وليد اليوم، بل يعود إلى القرون الوسطى، وهو خوف نابع من الإمبراطورية الروسية الشاسعة، التي لم تسقط كما سقطت الإمبراطوريتان النمساوية الهنغارية والعثمانية، ولم تكن موضوع القسمة التي حدثت في مؤتمر وستفاليا الذي أعطى انطلاقة نشوء الدول الوطنية الحديثة في أوروبا في نهاية القرون الوسطى على أنقاض الإمبراطوريات المتفككة والضعيفة، وقد تنبأ فيلسوف الأنوار ووزير خارجية فرنسا في القرن التاسع عشر، صاحب كتاب الديمقراطية الأمريكية، أن عالَم المستقبل سيتميز بالمنافسة على قيادته بين الولايات المتحدة وروسيا، وجاءت تلك النبوءة في وقت كانت فيه المنافسة قائمة بين الإمبراطوريتين الاستعماريتين البريطانية والفرنسية، ولم تكن الولايات المتحدة، الدولة الفتية، قد أصبحت القوة الاقتصادية العالمية الأولى، وهو المركز الذي بلغته في نهاية القرن التاسع عشر، أو القوة العظمى السياسية والعسكرية الأولى، وهو الموقع الذي اكتسبته فعليا بعد الحرب العالمية الثانية، كما لم تكن روسيا غير بلد زراعي متخلف وليست القوة التي تملك السلاح النووي والقدرات العسكرية والفضائية والتكنولوجية والعلمية المخيفة اليوم...
روسيا بالنسبة لأوروبا لم تكن وليست اليوم ذلك العملاق المخيف بحجمه، بل إنها أيضا ذلك المجال السلافي، والأوروبي الغربي عرقيا إلى اليوم، الذي يدين بالمسيحية الأرثوذوكسية التي كانت تعاديها الكاثوليكية المنتشرة في أوروبا الغربية إلى حدود الثورة البروستانتية، التي تلا انتشارها حروبا دينية أجهضت النهضة، وكان الخروج منها باتفاقية وستفاليا سالفة الذكر التي وفرت أطول فترة سلام في أوروبا، وكذلك إمكانية نشوء دول مركزية هنا وهناك.
في عمق النزاع الجاري الآن تحضر القرون الوسطى، لكن مع حصول متغيرات كبيرة لا يسع المجال للعودة إلى تاريخ حدوثها وإليها مجتمعة، ومن بين تلك المتغيرات أن أوروبا الغربية، وكما تظهر بوضوح اليوم، أضعف من أن تواجه القوة الروسية، لأنها شائخة بشريا وضعيفة عسكريا، بعدما فشلت في تطوير سياسة دفاعية في إطار الاتحاد الأوروبي، وتعتمد على المظلة الأمريكية لضمان أمنها، إذ إن فرنسا هي القوة العسكرية الوحيدة اليوم في الاتحاد الأوروبي بعد انسحاب بريطانيا، وهي اليوم في حجم قوة متوسطة مقارنة مع العمالقة.
والبين أن الاعتماد على المظلة الأمريكية يخلق تبعية من نوع نادر تاريخيا، إذ إن الولايات المتحدة تتصرف في مجموعتها الأمنية الأطلسية، وفق تعبير المفكر والباحث كارل دوتش، communauté de sécurité atlantique كما تشاء مستغلة الخوف الأوروبي، وتصرفها ذاك من شأنه أن يؤدي بأوروبا إلى الدخول إلى الجحيم الذي تعول على أمريكا لحمايتها منه، بل ومن شأنه أن يؤدي حتى إلى تفكك الاتحاد الأوروبي، الذي لم يكن مشروعا يحظى بتزكية ودعم أمريكا لدى انطلاقه، خصوصا وأن الحسابات الوطنية ماتزال غالبة لدى دوله، وبناؤه يظل هشا سياسيا ومؤسساتيا، ومن شأن الصعود المتواصل لليمين المتطرف المستوحي للأفكار الفاشية والمعادي للأجنبي أن يزيده هشاشة، وقد يسرّع تفككه، والبركسيت نموذج فقط، والتفكك لا يضير الولايات المتحدة التي أظهرت رئاسة ترامب أن الميل الانعزالي قد ينتصر فيها هي أيضا.
الحرب الجارية الآن في أوكرانيا أكثر تعقيدا مما تظهره الدعاية الحربية للغرب ولروسيا، لأنها ليست حربا بين أشرار وأخيار، وليست حتى حربا أوكرانية، هي حرب تتداخل فيها الحسابات الاستراتيجية والجيوسياسية والأمنية والاقتصادية، وأيضا التاريخ والثقافة والعقائد والعنصرية وأمور أخرى، وهي حرب لها ما بعدها، وما بعدها قد لا يكون في صالح السلم والرخاء، وهذا هو الأهم.
الحرب سيئة دائما، وقد تكون بدايتها معلومة، لكن نهايتها تبقى غامضة حتى ولو كان طرفاها يعتبرانها تحريكا غايته التفاوض حول المشاكل والخلافات العالقة. الحرب يؤدي ثمنها الجميع حتى من لا يشاركون فيها ولا يوجدون بالقرب من مجالها...