عبد الله بوشطارت: "ليركام" الذي حوّله الدستور إلى ركام!
الكاتب :
عبد الله بوشطارت
عبد الله بوشطارت
دأبنا، منذ سنة 2001، على أن يكون أكتوبر شهر الحديث عن الأمازيغية، لكن عن أي أمازيغية يكون الكلام والحديث خلال هذا الشهر؟
طبعا الذين يتحدثون عن الأمازيغية في أكتوبر هم الذين ينتمون إلى المعهد الملكي للثقافة الأمازيغية (IRCAM)، الذي تأسس في 17 أكتوبر سنة 2001، ولا أعرف إن كان هذا التاريخ مقصودا، لأنه يصادف تاريخ تأسيس جمعية تامينوت في 16 أكتوبر 1978، أم أنه مجرد صدفة فقط. وبالتالي فالحديث الأكتوبري عن الأمازيغية هو حديث مخزني وكلام رسمي مرتبط بتأسيس المعهد على إثر خطاب أجدير، والأمازيغ الذين يترأسون المعهد يسمون هذا الحديث بـ"العمل المؤسساتي". لكن السؤال الجوهري هو لماذا تخلى المخزن عن ليركام وقام بتذويبه وتفكيكه وبنى على انقاضه مؤسسة دستورية جديدة وهي "المجلس الوطني للغات والثقافة المغربية"، الذي صدر قانونه التنظيمي رقم 04/16 يوم 30 مارس 2020؟
للإجابة عن هذا السؤال، لابدّ من التذكير بأن المعهد جاء في إطار سياق تدخل الدولة في شأن القضية الأمازيغية بعد سنة 1999، وهو تدخل كان من طرف واحد تنفيذا لمخطط الدولة، بمعنى المعهد الملكي هو من اقتراح المخزن وليس مطلبا شعبيا للحركة الأمازيغية. ولكي تظهر الصورة أكثر، فإن المخزن تدخل لاحتواء الأمازيغية بعد شهور قليلة فقط على منع مؤتمر بوزنيقة الثاني سنة 2001 الذي كان من المنتظر أن يجيب فيه الأمازيغ عن سؤال ما العمل؟ لأنه، بعد تجربة مجلس التنسيق الأمازيغي، ظهرت اقتراحات كثيرة على طاولة النقاش تخص بالأساس الجانب التنظيمي للحركة، أهمها قضية تأسيس الحزب السياسي بمرجعية أمازيغية يجمع مختلف الفعاليات والحساسيات، التي ترى ضرورة العمل السياسي من أجل تحقيق مطالب القضية. لكن بعد المنع، تدخل المخزن لكي لا يترك المجال أمام الفراغ واقترح المعهد بصيغته الحالية بعد تفاوض القصر مع زعماء الحركة الأمازيغية، وقاد المفاوضات من جانب الأمازيغ كل من محمد شفيق وأحمد الدغرني وعبد الحميد الزموري، ومن جانب القصر، مستشارو الملك برئاسة المرحوم مزيان بلفقيه ورشدي الشرايبي وحسن أوريد (انظر كتابنا "الأمازيغية والحزب").
وبعد ذلك، تم تأسيس المعهد، واستقطب في مجلسه الإداري حوالي 40 باحثا وفاعلا أمازيغيا الذين كانوا يتحركون في "المشهد الأمازيغي"، باستثناء بعض الأساتذة والباحثين مثل الأستاذ أحمد الدغرني والأستاذ الحسين جهادي والأستاذ محمد مستاوي، إضافة إلى معتقلي تيليلي 94 بگلميمة، (الذين يبدو أنهم يرفضون هذه الخطة)، ولم تظهر إلى الآن أسباب ذلك. وزاد من الغموض الحرب الشنعاء، التي شنها بعض أعضاء المجلس الإداري آنذاك على شخص أحمد الدغرني على صفحات الجرائد (الأحداث المغربية) والذي كان يترأس المجلس الوطني للتنسيق وأسّس جريدة تامزيغت وكان من بين أعضاء لجنة البيان الأمازيغي. وظهر أيضا أن المخزن كان يلح على إبعاد ملف الأمازيغية عن الحكومة والوزارة الأولى، التي كان على رأسها آنذاك عبد الرحمان اليوسفي. يعني، باختصار، أن المعهد كان يمثل ويجسد سياسة المخزن في الأمازيغية. فكيف تخلى عنه إذن بعد عشر سنوات فقط على تأسيسه؟
بيد أن استراتيجية الدولة في الأمازيغية عبر تأسيس "ليركام"، وإن استطاع تشطيب وتجديب الساحة من المناضلين والفاعلين ونهج سياسة احتواء كبيرة عن طريق دعم الجمعيات بأموال طائلة وضخمة جدا عبر اتفاقيات شراكة لتمويل الأنشطة الثقافية دون سواها، إلا أن الدينامية الشعبية الأمازيغية داخل المجتمع لم تتوقف، فقد استمر الأستاذ الدغرني في ديناميته النضالية، رغم حصاره من جميع الجهات، ونجح في إصدار أطروحة سياسة أمازيغية سماها "البديل الأمازيغي"، وهي عبارة عن مشروع مجتمعي، وفق مرجعية حضارية أمازيغية، وبناء على هذه الأطروحة، تم تأسيس الحزب الديمقراطي الأمازيغي المغربي في نهاية يوليوز 2005. إضافة إلى الزخم النضالي، الذي تخلقه الحركة الثقافية الأمازيغية بالجامعات والكليات.
وقد حدث هذا التأسيس التاريخي العظيم في ظروف صعبة جدا، وإن لم نقل قاسية. ولم يكن ذلك يتحقق بدون وجود رغبة حقيقية وصمود نضالي مستميت من قبل ثلة من المناضلين، الذين يرغبون في تأسيس تنظيم سياسي بمرجعية أمازيغية خارج أجندة المخزن وامتداداته السياسية، خاصة بعض الشباب خريجي الجامعات. وبما أن الأمور تجري في إطار القوانين المعمول بها، لاسيما التي تنظم وتؤطر الأحزاب السياسية خاصة مسألة التأسيس، بكل حرية واستقلالية القرار الحزبي، قبل إصدار قانون تأسيس الأحزاب السياسية الجديد، الذي جاء كرد فعل من قبل الدولة على تأسيس الحزب الديمقراطي الأمازيغي، وقامت بالتنصيص على منع أي حزب يتأسس على أسس عرقية ودينية وإثنية وجهوية. وأمام تنامي وانتشار الحزب الديمقراطي الأمازيغي، الذي أحدث خلخلة في النسق الحزبي والسياسي المغربي، وتأسيس الفروع في الأقاليم والجهات، فإن الدولة، في شخص وزارة الداخلية، قامت برفع دعوى قضائية لحل وإبطال الحزب في غشت 2007، وحكمت عليه ابتدائيا سنة 2008، ثم استئنافيا سنة 2010، يوم رأس السنة الأمازيغية الجديدة.
ولابدّ من الإشارة أيضا إلى أن تأسيس الحزب الديمقراطي الأمازيغي سنة 2005 ورفع دعوى قضائية ضده سنة 2007 والحكم عليه، كلها أحداث ساهمت في التحولات السياسية الكبرى، التي طرأت خلال تلك الفترة بالذات، فالدولة لم تكتف فقط بحل الحزب، وإنما قامت بسرقة فكرته وماهيته عن طريق طرح بديل سياسي من داخل الإدارة، بتجميع أحزاب صغيرة وتأسيس حزب كبير مدعم من السلطة، وهو الذي أريد له أن يكون بديلا للحزب بمرجعية أمازيغية من خلال الترويج لأفكاره ومشروعه، ولكن بصيغة أخرى، من قبيل شعار تامغربيت، الذي نحته الحزب الأمازيغي، ومشروعه في الجهوية ودولة الجهات والأمازيغية والعلمانية والفيدرالية، وحقوق المرأة، وتقاسم الثروة، ونقاش حول المعادن الذي انفرد الحزب الأمازيغي بخوضه داخل الساحة السياسية والحزبية (أنظر بلاغات الحزب ما بين 2005 و2007 خاصة وثيقة 11 ماي).
والحزب الأمازيغي، بالرغم من أنه ممنوع، إلا أنه حقق المطلوب منه وأكثر، وحقق مكتسبات كثيرة لصالح الأمازيغية، بالرغم من أن البعض لا يريد الاعتراف بها، كيف؟
أولا: لأنه قام بتنبيه الدولة إلى وجود خلل في البنية الحزبية السياسية، التي لم تعد توافق وتواكب تطورات المجتمع المغربي واتساع رقعة التعليم داخل الأوساط الشعبية والقروية، وبالتالي، فالحزب نبّه إلى ذلك التحول السوسيوثقافي في البنية السياسية والاجتماعية المغربية؛ والدولة التقطت الإشارة بسرعة، وعوض أن تترك الحزب يشتغل بحرية أو التفاوض معه حول القضايا التي يتمحور عليها الخلاف، التجأت إلى المنع والحل، وقامت بإخراج حزب سياسي آخر من رحمها، أي من رحم السلطة.
ثانيا: الحزب الديمقراطي الأمازيغي تم تأسيسه نتيجة وجود حاجة سياسية واجتماعية واقتصادية وثقافية ووجود سياق يحتّم تأسيسه، وهو إفراز موضوعي لما كان يعيشه المغرب بعد الانفتاح السياسي والديمقراطي، خاصة منذ خطاب أجدير 2001، فتأسيسه يعني نهاية أحزاب ما يسمى بالحركة الوطنية، التي تناوبت على حكم المغرب منذ الخمسينيات من القرن الماضي، وكذلك فشل اليسار في مهامه وعدم قدرته في استيعاب الخطاب الأمازيغي والجماهير الأمازيغية، وبالتالي وجدت الحركات الإسلامية وأحزابها الساحة فارغة امامها للانفراد بالمجتمع والتحكم فيه، وإلى حد الآن فالخطاب الأمازيغي هو الوحيد القادر على مواجهة الخطاب الإسلاموي علميا وسياسيا وإيديولوجيا، وهذا ما جعل السلطة تفكر في منع الحزب الأمازيغي، ولكن ترغب في استقطاب كوادر الحركة الأمازيغية إلى حزبها "الكبير"، تحت ذريعة النضال من أجل "المشروع الديمقراطي الحداثي".
ثالثا: بتأسيس الحزب الديمقراطي الأمازيغي، اقتنع المخزن بمحدودية مقاربته في تأسيس "ليركام"، لأن الأموال الطائلة التي صرفت على الجمعيات لم تعط أكلها في إيقاف المد السياسي الأمازيغي، ونفس الشيء مع التمثيلية في المجلس الإداري للمعهد، الذي يتم تعيين فيه ما يزيد عن 40 فاعلا وفاعلة محسوبين على الحركة الأمازيغية، بتعويض مالي محترم بدون أية وظائف ولا مهام، وذلك ما يفهم منه غضب هذه النخب "الإيركامية" ومحاربتها للحزب الأمازيغي. ولا غرابة أن يتم إيقاف المنح المالية التي يتم إعطاؤها للجمعيات، وإلغاء التعيين في المجلس الإداري، لأنها لم تعد لها معنى. وما يؤكد محدودية "ليركام" هو بيان المنسحبين السبعة من المجلس الإداري، وطرحهم لوثيقة سياسية سموها "الاختيار الأمازيغي" لتأسيس حزب سياسي، بمعنى رجعوا إلى فكرة دّاحماد الدغرني الأولى قبل وأثناء تأسيس "ليركام" 2001.
بعد منع الحزب سنة 2010، ظهرت حركة 20 فبراير سنة 2011 انخرط فيها مناضلو الحزب والحركة الأمازيغية بكل قوة وحيوية في كل مناطق ومدن المغرب، وترأس شبابها اللجان المحلية وتزعموا نضالاتها، وحققوا مطلب الترسيم بالاحتجاج الميداني السلمي. ومنذ ظهور حركة 20 فبراير، تصاعد الوعي السياسي لدى الشباب الأمازيغي، من إفرازاته "حركة تاودا"، التي عقدت أولى اجتماعاتها في مقر الحزب الديمقراطي الأمازيغي بحي حسان بالرباط (يوجد محضر الاجتماع في أرشيف الحزب).
وأمام تحقيق مطلب الترسيم الدستوري للأمازيغية وتنامي الوعي السياسي الأمازيغي وظهور مبادرات تطالب بتأسيس مشاريع سياسية بمرجعية أمازيغية ورفض المناضلين الأمازيغ الدخول إلى أحزاب السلطة والإدارة، قامت الدولة بـ"تفكيك" ليركام عن طريق التنصيص في الدستور على إنشاء المجلس الوطني للغات والثقافة المغربية، وبعد خروج القانون التنظيمي لهذا المجلس، اتضح فعلا أن المستهدف هو ليركام، إذ تم استغلال مقر ليركام ليكون مقرا للمجلس الوطني، الذي يضم عدة مؤسسات أخرى لم تُخلق بعد، منها أكاديمية محمد السادس للغة العربية، والهيأة الخاصة بالحسانية، وهيأة خاصة بالتنمية الثقافية والتراث، وهيأة خاصة باللغات الأجنبية والترجمة، وهيأة خاصة باللغة العبرية.. كل هذه الهيئات لم تؤسس بعد، والمعهد الملكي للثقافة الأمازيغية هو الوحيد الذي تم تأسيسه منذ 20 سنة، وأيضا الوظائف والمهام، التي سيقوم بها المجلس الوطني قام بها المعهد منذ سنوات. يعني ما دور هذا المجلس؟ من وجهة نظري، لا توجد له أدوار ذات أهمية، اللهم تذويب معهد ليركام داخل المجلس الوطني.
بالرغم من الأعمال، التي أنجزها على المستوى الأكاديمي، وفي ما يتعلق بتقعيد اللغة الأمازيغية، فإن الدولة كانت تنتظر منه أدوارا أخرى غير صريحة، وهي الأدوار، التي لم تفهمها النخبة، التي هيمنت على عمادة وإدارة ليركام منذ تأسيسه.
وانتهى الأمر بمنع الحزب الأمازيغي وحله وإخراج حزب البام لاحتواء الأمازيغ والأمازيغية خاصة في الريف (الأمين العام السابق للبام إلياس العماري كان عضوا بالمجلس الإداري للمعهد الملكي للثقافة الأمازيغية)، وفشل هو أيضا (البام) في مخططه فشلا ذريعا باندلاع حراك الريف، ثم أعادت السلطة حزب الأحرار إلى الواجهة لاستقطاب الأمازيغ، خاصة في جهة سوس، ويبدو أنه سيفشل هو الآخر.
والآن بعد تذويب ليركام في مجلس وطني، فلم يتبقَّ لا حزب ولا إيركام ولا إيباون ولا إيفراون... وبقيت الأمازيغية يتيمة تتناوب أحزاب السلطة والمال في استغلالها...
باختصار، الدولة كانت تراهن على حصر الأمازيغية في ما هو أكاديمي - ثقافوي وبحثي صرف، لكن الأمازيغية قضية سياسية وتاريخية معقدة تحتاج إلى حل سياسي صريح وجدّي.
لذلك... سيستمر النضال من أجل إحقاق الحقوق الأمازيغية...
18 أكتوبر 2020
إعلامي وناشط أمازيغي وباحث متخصص في تاريخ الصحراء والساحل