ترسيم السنة الأمازيغية.. مطلب شعبي بسند دستوري وبأبعاد "مواطناتية"
الكاتب :
عمر إسرى
عمر إسرى
من الاحتفال بالنصر إلى الاحتفاء بالأرض
بعد أيام سيحتفل الملايين من سكان المغرب وشمال إفريقيا بالسنة الأمازيغية الجديدة 2971، احتفال ببعد هوياتي وعبق تاريخي عميق، وإن اختلفت التسميات بين "ايض ن ناير" و"حاكوزا" و"السنة الفلاحية" وغيرها، فالدلالات تتوحد جميعها حول نفس التقويم الأمازيغي الذي يعود إلى 971 سنة قبل الميلاد، حينما دخلت قبائل ليبية أمازيغية كان المصريون يطلقون عليها اسم "المشواش"، في نزاع مع حكام مصر الفرعونية لاستيطان نهري النيل والدلتا، وصولا إلى الحرب التي نشبت بين شيشونغ الأمازيغي والفراعنة، وانتهت بانتصار الأمازيغ وتولي شيشو نغ حكم مصر الفرعونية.
شيشونغ ليس شخصية أسطورية، بل هو زعيم مغاربي حكم مصر لمدة 38 سنة، وبموته تفككت مملكة الليبيين الأمازيغ إلى ولايات متفرقة (تافناخت بسايس وبوتو، أسركون الرابع ببوباستس وتانيس...)، بل إن الزعيم شيشو نغ (تعني بالدارجة شيشو ديالنا) مذكور في الثوراة وقبره اكتشف سنة 1940.
لا شك أن التقويم الأمازيغي ارتبط بهذا الحدث التاريخي، لكن من المؤكد أيضا أن الناس احتفظوا به دون ربطه بالضرورة بمنبعه، حتى صار مرتبطا بالأرض الأم التي تطعمهم من جوع وتؤمنهم من خوف، مناسبة يتيمّن خلالها فلاحو شمال إفريقيا كل سنة، بخصوبة الأرض وبالغلة الوفيرة والخير والرفاه.
ترسيم "إيض ن ناير"... خطوة أخرى في اتجاه تجذير قيم المواطنة
الأمر يتعلق اليوم، رغم رياح العولمة والاستلاب العاتية، بمناسبة مغربية ومغاربية عريقة، مازال يحتفل بها الكثير من سكان شمال إفريقيا عامة والمغرب خاصة، دون تمييز بين الناطقين بالأمازيغية أو الدارجة أو الحسانية، مجسدة لرمزية عريقة ترتبط ارتباطا وثيقا بمكانة "أكال/ الأرض" عند أبناء المنطقة منذ ما يقارب 30 قرنا.
إن الاعتراف الرسمي بهذه المناسبة وجعلها عيدا وطنيا، سيكون خطوة مهمة نحو تجديد قيم "تامغربيت" وترسيخها في خدمة الوحدة والتشبث بالأرض، ومن شأن ذلك القرار الرمزي أن يساهم كذلك في تربية الأجيال الصاعدة على الافتخار بتاريخها العريق، وتمكين الشباب من تملك قيم حضارتهم المجيدة، التي انبنت عبر التاريخ على قيم التعايش والتسامح والانفتاح على كل الشعوب والثقافات.
هي مناسبة للتربية على المواطنة، والتشبث بالوطن والاحتفاء بملاحم الأجداد، وبوحدة شعبنا وغنى تنوعه الثقافي واللسني، وإنقاذ الكثير من الشباب من الاستلاب والولاء لغير الوطن، فلن نستغرب أبدا من سماع هذا يردد "أصلي من اليمن" وذاك "من فلسطين" وهذه "الوطن هو أوروبا" وتلك " الله يجيب شي فيزا نخرجو من هاذ البلاد"...، وغيرها من الجمل المحبطة التي نراها مجسدة في السلوك اليومي للكثير من المواطنين، حيث صار الوطن بالنسبة لبعضهم مجرد أرض مرور، منهم طبعا من يفعل ذلك محبطا بسبب أوضاعه الاجتماعية المزرية، لكن لا شك أيضا أن لمقررات الاستلاب والانسلاخ عن الذات جزءا من المسؤولية في ذلك.
حان الوقت لنربي شبابنا على اختلاف ألسنتهم وعقيدتهم وألوانهم وطبقاتهم الاجتماعية، على الافتخار بوطنهم وحضارتهم العريقة، وتاريخ أجدادهم الذين اشتهروا بالانفتاح والتعايش منذ عشرات القرون، وهي بلا شك لحظات رمزية ترسخ وحدة الثقافة المغربية مع إمكانية التعبير عنها من خلال تعبيرات لسنية متنوعة.
مطلب شعبي بسند دستوري
إن حدث دسترة الأمازيغية لغة رسمية سنة 2011، كان لحظة وطنية تحقق خلالها مطلب شعبي هوياتي ديمقراطي رفيع، إلا أن الترسيم الفعلي على أرض الواقع مازال يتأرجح بين أرجل جيوب المقاومة بمختلف تمظهراتها، وعلى رأسها قوى النكوص، مع عدم إمكانية إنكار المكاسب المهمة التي ترسخت فعلا.
بعد مرور تسع سنوات على هذا الحدث التاريخي، مازال الكثير من المغاربة يطالبون بتجسيد روحه فعليا في شقيها الرمزي والمادي، ومازال مطلب ترسيم السنة الأمازيغية تردده الحناجر وتنبض به القلوب، كمناسبة رمزية تحمل دلالات العراقة التاريخية والتجذر في أرض شمال إفريقيا، وهو مطلب يتماهى مع فقرة وردت في القانون التنظيمي لتفعيل الطابع الرسمي للأمازيغية الذي صدر في الجريدة الرسمية، الفقرة تتعلق بضرورة النهوض بكل عناصر وأبعاد ورموز الثقافة الأمازيغية، ولا يمكن لعاقلين أن يختلفا حول كون الاعتبار بـ"ايض ن ناير" و"حاكوزا" يمثل رمزا مهما جدا من رموز هذه الثقافة.
الاعتراف بالجوانب الرمزية للثقافة المغربية ولغتيها الرسميتين العربية والأمازيغية وروافدها العبرية وأبعادها المتوسطية والإفريقية، هي عناصر تقوي اللحمة الوطنية وتزرع قيم المواطنة، ولن تكون أبدا عنصرا للتفرقة كما يدعي أعداء "الوحدة في ظل التنوع"، ولعل القرارات السيادية الأخيرة التي اتخذها المغرب والتي تتوافق مع مصالحه العليا، أظهرت جليا أن من كانوا ينعتون بزارعي الفتنة هم في الحقيقة أكثر الناس تشبثا بالوحدة وبالوطن وقيم "تامغربيت السامية"، وأن جرعة "الوطنية" متدنية لدى بعض الموالين لتنظيمات خارجية ولاء يغلب ولاءهم لأرضهم التي يأكلون غلتها ويسبون ملتها.