جمال المحافظ: رؤية 2045 من أجل عقد اجتماعي عربي جديد
الكاتب :
د. جمال المحافظ
د. جمال المحافظ
احتضن "بيت الأمم المتحدة" في العاصمة اللبنانية بيروت مؤخرا لقاء ضم عددا من الإعلامين والخبراء والأكاديميين، خُصص لمناقشة مشروع "رؤية العالم العربي عام 2045"، التي تشرف عليها لجنة الأمم المتحدة الاقتصادية والاجتماعية لغربي آسيا "الإسكوا"، بالتعاون مع جامعة الدول العربية، بهدف إعادة الأمل ومحاولة الخروج من حالة الإحباط والعجز العام الذي تشهده المنطقة.
مشاركون في لقاء بيروت حول مشروع "رؤية العالم العربي عام 2045"
ويتضمن مشروع هاته الرؤية ستة أركان رئيسة هي الأمن والأمان والعدل والعدالة والازدهار والتنمية والابتكار والإبداع والتنوع والانفتاح والتجدد الثقافي والحضاري، حسبما أوضحت الأمينة التنفيذية لـ"الإسكوا " رولا دوشتى، التي أعلنت، في بداية الجلسات، أن مشروع رؤية 2045 "سيقدم إلى القمة العربية كوثيقة يقرأها المواطن العربي ويكون له دور فيها".
ومن جهته، شدد الطيب الدجاني، منسق فريق عمل، على أن هذا المشروع، الذي يرمى إلى تعزيز فرص التنمية المستدامة ومواكبة التقدم الحاصل على مستوى العالم، يؤكد على ضرورة تنسيق السياسات العربية لبناء المؤسسات وحفظ المجتمعات من الهشاشة، في حين أبرز أمين سر "الإسكوا"، كريم خليل، أهمية وجود نمط جديد في التفكير المواكب للتطور في العصر الحديث.
عقد اجتماعي عربي جديد
وإذا كان مشروع "الرؤية العربية لعام 2045" يهدف -حسب واضعيه- إلى تحقيق عدة أهداف تتعلق بالخصوص بـ"استعادة الأمل بمستقبل أفضل للمنطقة العربية"، و"اقتراح عقد اجتماعي عربي جديد"، و"ولوج المنطقة العربية ثورة العلوم والمعرفة والاتصالات وتطبيقات الثورتين الرابعة والخامسة"، فإن من شأن عدم مواكبة التحولات الجارية أن تتفاقم الهوة ما بين المجتمعات العربية وتساهم في تعميق المزيد من اللامساواة والفقر متعدد الأبعاد، وهجرة الأدمغة لما لها من آثار سلبية اقتصاديا واجتماعيا وسياسيا.
فهذه الرؤية، التي تشتمل على مبادرات وخطط عمل استراتيجية وتوصيات تهدف إلى تحقيق أركانها الستة (الأمان والعدالة والابتكار والازدهار والتنوع والتجدد الثقافي والحضاري)، يتعين أن تستحضر التفاوت القائم بين الدول العربية في مؤشرات التنمية ومستويات المعيشة ونوعية الخدمات، فضلا عن التقدم السريع للتكنولوجيا والأبحاث العلمية، بما يغير بشكل كامل مفهوم التربية والتعليم وارتباطه بسوق العمل، مع الأخذ بعين الاعتبار التكنولوجيات الحديثة وتحديات الثورة الرقمية التي غزت كافة القطاعات والأنشطة، وساهمت في تغيير العادات والعلاقات الاجتماعية، وساهمت في التأثير في المعرفة وفي مختلف مناحي الحياة وفي طرق الترفيه كذلك، وفي تغيير محيط الشبكات الاجتماعية.
فهذه الرؤية الاستشرافية للمنطقة العربية، التي تنخرط في التفكير الاستراتيجي، ترمى إلى بناء رؤية مستقبلية للعالم العربي في أفق عام 2045، الذى سيتزامن مع ذكرى تأسيس كل من هيئة الأمم المتحدة والجامعة العربية. كما أن هذا المشروع يتوخى ضبط الأولويات الواقعية والقابلة للتحقيق من خلال إعداد خارطة طريق واضحة وقابلة للتنفيذ والحياة، وهو ما يتطلب بناء تصور جديد يمكّن من الانخراط في المستقبل والمساهمة الفاعلة في رسم ملامحه.
مركز للابتكار والبحث العلمي
ويبدو أن المشرفين على "الرؤية العربية لعام 2045"، انتبهوا إلى هذا الأمر حينما اقترحوا "إنشاء مركز إقليمي للابتكار والتعاون في البحث العلمي"، مع تطوير بنية الاتصالات وتأمين الأمن الكافي لها. كما اعتمد القائمون على هذه الرؤية في قياس توجه الرأي حول مضمونها على "الراصد الإلكتروني"، الذي حول مضمونها إلى كلمات دلالية في وسائل التواصل الاجتماعي باستخدام تقنيات الذكاء الاصطناعي والإحصاء لجمع وتحليل المعلومات الخاصة بهدف الخروج بخلاصات واستنتاجات جماعية مبنية وتستخلص من مجموع الآراء الواردة في مواقع التواصل بعد تحليلها.
ويرى وزير الخارجية اللبناني السابق، ناصيف حتى، الذي أطّر جانبا من هذا اللقاء التشاوري الذي نظم ما بين 28 و29 يوليوز الماضي، أن "توسيع طريق بين عاصمتين عربيتين أهم من ألف بيان قومي"، مقترحا إحداث "هيئة حكماء عربية" تكون جاهزة للتدخل فور ظهور أية أزمة لحلها قبل استفحالها.
جهاز لرصد الأزمات قبل وقوعها
كما دعا ناصيف حتى إلى وضع جهاز لرصد الأزمات قبل وقوعها معتبرا أن التداعيات الحالية للحرب الروسية الأوكرانية ولجائحة كوفيد 19، التي ضربت العالم، والمشاكل التي يعيشها العالم العربي حاليا، أحداث تؤكد الحاجة الماسة في الظرف الراهن إلى تغيير طرق التفكير والعمل وكذا أسلوب التعامل مع المتغيرات والتحولات الجارية على الصعيدين الإقليمي والدولي.
كما أُلقيت، خلال هذا اللقاء، عدة مداخلات تمحورت حول قضايا العدالة ومنها العدالة الانتقالية والاقتصادية وحقوق الانسان والحكامة والتكنولوجيا المتطورة والذكاء الاصطناعي والتجدد الثقافي. ودعا المشاركون إلى ضرورة التخلي عن فكرة التعصب القومية والنظر إلى العروبة كقومية باعتبارها وعاءً حضاريًا يتسع لمختلف القوميات والأديان. كما طرح المشاركون ملاحظات وتقدموا بمقترحات لإثراء هذه المبادرة.
وإذا كانت فكرة وضع رؤية تنموية مشتركة للمنطقة العربية تمتد إلى غاية 2045 "تبدو عبثية وبلا جدوى"، في نظر البعض في ضوء الواقع العربي الراهن المتخم بالنزاعات العسكرية والسياسية بين دوله، وبالتشوهات التنموية والاجتماعية، فضلا عن القناعة التي رسختها عقود من فشل مشروعات التعاون العربي، والمتمثلة باستحالة أن يجد ما تتفق عليه الدول العربية مجتمعة طريقه إلى التنفيذ الفعلي، بدليل العشرات من القرارات الصادرة عن الجامعة العربية بمؤسساتها المختلفة والتي لم تُنفذ، كما كتبت احدى الصحف اللبنانية في إطار تغطيتها لأشغال هذا اللقاء.
إحياء الأمل لمواجهة اليأس
بيد أن الصحيفة ذاتها استدركت قائلة: "لكن ما يشجع على إنجاز هذه الرؤية عاملان أساسيان"، حددت أولهما في كونها "قد تشكل بادرة موضوعية وحيادية، لإعادة إحياء جهود التعاون والتنسيق العربيين في مجالات حيوية تهم كل دولة عربية"، وثانيهما في أنها "ستكشف للمواطن والمسؤول العربي الفرص التنموية المتاحة خلال العقدين القادمين أو تلك التي باتت تفرض نفسها على المجتمعات بحكم ثورة المعلومات والتكنولوجيا والمتغيرات العالمية".
وإذا كان من شأن وضع رؤية عربية موضوعية وقابلة للتنفيذ والاتفاق عليها عربيا "قد يحيى آمالا عريضة في مواجهة ثقافة الإحباط واليأس التي تجتاح مجتمعات عربية عديدة"، فإن ما يجعلها قابلة للإنجاز، هي "الفرص الموجودة فعلا، وليست تلك التي يمكن إيجادها وخلقها في عالم متغير فحسب"، ومع ذلك، فإن "الطريق لن يكون مفروشا بالورود، فثمة تحديات كثيرة، داخلية وخارجية"، منها رهان هذه المبادرة على بناء مجتمعات المعرفة، والاقتصادات العربية الحديثة والمنتجة التي تتعاون في ما بينها، مع تعزيز المؤسسات الفعالة التي تحمى المجتمعات العربية من النزاعات والهشاشة...