المحرقة الواجب تفاديها في ظل أعواد ثقاب تصريحات قصر المرادية الغبية والمستفزة
الكاتب :
يونس وانعيمي
يونس وانعيمي
وأنا أطلع على مضمون بلاغ الرئاسة الجزائرية، الذي صدر عقب آخر اجتماع للمجلس الاعلى للأمن الجزائري، وجدت نفسي غير مصدوم من فحواه العدائي للمغرب.
لكنني تعجبت من السرعة القصوى، التي سارت عليها الدبلوماسية الجزائرية في اتجاه اتهام المغرب بتمويل الإرهاب ضد الجزائر و"الضلوع" في حرق منطقة لقبايل وزعزعة النظام والأمن فيها وفي الجزائر بدعم من إسرائيل.
بلاغ موجز مقتضب، لكنه يتضمن كثيرا من "بلورات" متكسرة:
1- يعيش التواصل بين المغرب والجزائر ربما أوضح مراحله على الإطلاق. ولم يعد هناك مناص لإخفاء الثوم في العسل بينهما، وهو النهج الذي طبع العلاقات الدبلوماسية الثنائية لأكثر من أربعة عقود.
فالمغرب صرّح، لأول مرة، عبر قنوات أممية رسمية، بحق شعب القبايل من تقرير مصيره. كما أن وزير الخارجية المغربي، السيد ناصر بوريطة، أعلن أمام نظيره الإسرائيلي (في آخر زيارة رسمية لهذا الأخير للمملكة المغربية) عن وجود قنوات تنسيق سرية بين الجزائر وإيران من أجل دخول هذه الأخيرة، بتهريب جزائري، وسط رقعة التقاطبات الإقليمية وتمويل حركات الانفصال وتحريك فوضى خلاقة (عبر دعم ميليشيات الانفصال كالبوليساريو وميليشيات النيجر ومالي ودول الساحل وداعش). زيادة على تصريحه بعدم فهم تحفظ الجزائر على تمتيع إسرائيل بصفة "ملاحظ" بالاتحاد الأفريقي، وهي الصفة التي سبق أن قبلها رئيس الاتحاد سيريل رامافوزا الجنوب إفريقي (هناك 87 دولة ملاحظة خارج الاتحاد).
الجزائر، من جهتها، اتهمت المغرب بتمويل "حركة استقلال القبايل" MAK ماليا (2.5 مليون أورو شهريا حسب ما صرح به إيدير جودر المنشق عن الحركة والموالي للنظام الجزائري) وأمميا وديبلوماسيا.. ووصلت إلى حد اتهام المغرب وإسرائيل بالضلوع مباشرة في عمليات التخريب الناري للقبايل La jachère de la kabylie.. بعدما اتهمت المغرب بـ"الاستيلاء العسكري" غير المشروع على المعبر التجاري الكركرات.. وكانت آخر كرة ألقتها الجزائر في هذه الدوامة من لعبة ping-pong هي تصريح وزير خارجيتها رمطان لعمامرة أن بلاده أنهت مؤخرا ترسيم حدودها مع جميع البلدان المجاورة، بما في ذلك مع "الجمهورية العربية الصحراوية الديمقراطية" الوهمية. وهو ما أثار استغرابا أفريقيا ودوليا خصوصا على مستوى المعايير والمساطر والقوانين المتبعة في هذا الصدد مع "دولة-شبح غير معترف بها دوليا".
إذا اكتفينا فقط بسرد التصريحات والتصريحات المضادة بين المغرب والجزائر سنضل حتما طريق فهم ما يجري.. لكن تحليل الخطاب الدبلوماسي للبلدين سيكشف بدقة أكثر الوضع الدبلوماسي لكل بلد في رقعة الصراع، كما سيدلنا على الاحتمالات الديبلوماسية التي من الممكن أن يؤول إليها الوضع في العلاقات بين الدولتين (الأقوى عسكريا في أفريقيا).
1- المغرب في تصريحاته يخاطب الدول والمؤسسات ولا يكلم نفسه كما تفعل الجزائر في اجتماعات عسكرية داخلية. لن تجد أبدا ملك المغرب يجتمع داخل مجالس استراتيجية أمنية وتجد كلامه غدا منشورا في صحف ومواقع بطريقة خام وغير مهنية لدرجة "الصبيانية". المغرب دولة مؤسسات ويتعامل مع مؤسسات، فالمغرب يخاطب أجهزة الأمم المتحدة ويخاطب حلفاءه الدوليين في مجالس رسمية. ونعلم ان خطابات المجالس الرسمية تكون مسنودة بقوة الشرعية الديبلوماسية وقوة الدلائل الاستخباراتية مع مراعاة كل تبعات ذلك.
2- المغرب يكشف عن معطيات استخباراتية تورّط الجزائر في ضلوعها في التحضير لأكبر "محرقة قارية"، ألا وهي فتح معابر لقطر وإيران لتنفيذ مخطط تفكيكي للعديد من الدول.. وفي الوقت الذي تتهمنا الجزائر بـ"ضلوعنا" في حرق الأشجار مما أثار السخرية في العالم، فإننا نتهمها بضلوعها في التخطيط لحرق الأنظمة وتوازناتها بتهم مسنودة...
3- مناصرة الجزائر لتقرير مصير "الشعب الصحراوي" استنفذ كل مبرراته ودعاماته الإقليمية لأنها مناصرة كان لها معنى إبان الحرب الباردة.. اليوم وفي الوقت الذي تتقاسم روسيا والصين وأمريكا وإسرائيل مواقعها بذكاء أكبر وبصراع عسكري شبه منعدم، أصبحت الجزائر تعزف معزوفة "الشعب الصحراوي المستقل" كما يعزف ذلك الجندي الكهل معزوفاته السوفياتية القديمة في مهرجان فلكلوري...
4- هناك احتمال كبير أن تبقى الديبلوماسية المغربية صامتة أمام ما تفوّهت به الجزائر في شأن حرائق القبايل. لأن المغرب قال المفيد، وهو استعداده لدعم الجزائر في إخماد نيران الطبيعة، أما ما تشعله الجزائر من نيران لتأجيج وضع إقليمي صعب، فالمغرب يعي أن رجال الإطفاء الكبار لن يسمحوا أصلا بحدوث كذا حرائق.
5- لا أذهب، كما ذهب كثيرون، إلى افتراض نشوب تماس عسكري وشيك بين الجزائر والمغرب، وذلك لاعتبارات جيوسياسية عديدة. هما الدولتان الأقوى عسكريا، والأقرب جغرافيا وسياسيا لأوروبا والأكثر تغلغلا في أفريقيا، إذ لكل منهما مصفوفة دول مناصرة مستعدة للدخول في مواجهات عسكرية بينية. كما أن القوى العظمى تريد لإفريقيا أن تلعب دور "قارة لجوء" continent de recours من الناحية الطاقية والتجارية الواعدة باستثمارات كثيرة ومتنوعة.. فالقارات نوعان في نظري.. هناك حيث نأكل جميعا (أفريقيا) وهناك حيث نتلاكم جميعا (آسيا الوسطى) وهناك حيث نلعب لعبة "الغميضة" (أمريكا الجنوبية)...
أخيرا، وبعد آخر تصريحات قصر المرادية الغبية والمستفزة، كيف سيدبر المغرب تداعيات دعوة العاهل المغربي لمد يده للجزائر؟
أول المؤشرات قدمت من إسبانيا فهي معنية طبعا أكثر من غيرها: دعت المغرب (واستجاب لطلبها) بالحفاظ على مرور أنبوب الغاز الجزائري من المغرب نحوها.. وقبولها (إسبانيا) طلب المغرب بتنبيه الجزائر تنبيها شديدا باعتبارها معقلا و"ميناء" قاريا للهجرة السرية وعدم استعمال هذه الورقة "الإسبانية" ضد المغرب.. اليد الممدودة سترجع قليلا لتسمح بيد ممدودة لإسبانيا وفرنسا ودول أخرى (ربما ألمانيا) لتعيد الجزائر إلى رشدها وعدم مجازفتها بحمل أعواد ثقاب مادام بها نفط وغاز.