الغد 24 خبر الغد تقرأه اليوم

الثروة الشخصية والثروة الوطنية.. بين الطموح الفردي والطموح الجماعي

 
عمر إسرى
 
"الذي لم يستطع صنع ثروة لنفسه، لن يستطيع صنعها لبلده"، مقولة متداولة داخل الكثير من الأوساط البورجوازية وتؤمن بها جهات داخل عدد من الدول، فرضية تنبني على استنتاج مفاده أن الطموح أساس التقدم، والرجل الذي لا يستطيع بطموحه بناء جاه لنفسه لن يمتلك طموحا يستطيع به خلق الثروة لوطنه، لذلك نجد في الكثير من الأنظمة تفضيلا لرجال الأعمال "الناجحين"، أو الذين يعتقد أنهم كذلك، لإدارة المؤسسات العمومية والمناصب الحكومية وغيرها، وربما يدخل تولي شخصيات من عالم الأعمال في المغرب لحقائب وزارية مهمة ومسؤوليات عمومية أخرى، في نفس السياق.
لن نختلف عن كون هذه الفرضية، كما كل الفرضيات، نسبية، تحمل الصواب كما الخطأ، حسب معدن الناس وقيمهم ومبادئهم ومستوى إنسانيتهم، فليس كل رجال الأعمال الكبار الذين صنعوا ثروة لأنفسهم، قادرين على صنعها لفائدة شعوبهم وأوطانهم، قد تنجح على المستوى الشخصي وتفشل في أداء مهام عمومية، وقد تنجح أو تفشل في الأمرين معا، ومعايير النجاح على المستوى الفردي تختلف حسب تصورات كل شخص، فهناك من يعتبر صنع الثروة المادية معيارا للنجاح، وهناك من هو مقتنع بأن بناء مسار مهني أو فكري أو نضالي أو تكريس الحياة لخدمة الناس أو غيرها من الاختيارات، معيارا للفلاح.
 
المسؤول الناجح.. تناغم بين الطموح الفردي والجماعي
 
إن النجاح على المستوى الفردي في خلق الثروة تحكمه اعتبارات وظروف وأهداف واستراتيجيات تختلف عن سياق صناعة الثروة للوطن وتحقيق الرخاء لأبنائه، فكثيرا ما نكون أمام مستثمرين جشعين وأغنياء بنوا ثروتهم من الفساد والريع والتهرب الضريبي واستغلال العمال، لا ريب أن الفرق شاسع بين خلق الثروة الفردية وخلق الثروة الوطنية، وإن كان هناك تقاطع بين الحالتين في أوجه معينة، ففي الحالة الأولى يكون الطموح شخصيا بجرعة أكبر أو بشكل مطلق أحيانا، وتحكمه المنافسة والوازع غالبا ما يتعلق إما بتحقيق الاكتفاء الذاتي وتسهيل حياة الفرد أو الأسرة أو السعي إلى تجاوز الآخرين والإحساس بالأفضلية أمامهم، وربما التحكم فيهم واستغلالهم، وقليلا ما يكون الهدف خدمة الناس ومساعدتهم، أما في الحالة الثانية، فمن المفترض أن يكون الهدف هو تسهيل حياة الناس جميعا وحل مشاكلهم وتحقيق تطلعاتهم دون نسيان المصالح والتطلعات الشخصية دون إفراط أو تفريط، هنا يكون الطموح وطنيا أو بتعبير أدق حينما يتماهى الطموح الفردي مع الطموح الجماعي، فالنجاح في خلق الثروة الوطنية لا يتم أبدا سوى بوجود تناغم بين هذين العنصرين، أو حينما تذوب التطلعات الفردية في هدف أسمى هو خدمة الجماعة وحمل همومها.
في الدول النامية ليست هناك ديمقراطية حقيقية ولا أسسا صلبة لمنافسة شريفة وتكافؤ للفرص بين جميع الناس حتى نقيس قدراتهم ومؤهلاتهم، ونميز بين "الذي يستطيع خلق ثروة" من "الذي لا يستطيع القيام بذلك"، فالكثير من المعذبين فوق أراضي أوطانهم، تمكنوا من بلوغ مراتب مهمة بعدما هاجروا إلى دول ديمقراطية متقدمة منحتهم فرصا متساوية للتعبير عن مؤهلاتهم وتفجير طاقاتهم، في المغرب مثلا نجد أن عددا كبيرا من أغنياء اليوم ليسوا سوى حفدة عائلات معروفة راكمت المال والجاه في مرحلة الحماية وخلال السنوات الأولى بعد الاستقلال، أحيانا بشكل غير مشروع، من خلال النهب والاستغلال، وأحيانا قليلة عبر السبل المشروعة، أموال توارثها جيل عن جيل دون جهد يذكر، لكن هناك كذلك الكثير من الناس ممن لم يولدوا وفي فمهم ملعقة من ذهب، استطاعوا خلق الثروة لأنفسهم منطلقين من الصفر، وبين هؤلاء وأولئك مسافة كبيرة، دون أن نغض الطرف عن فئات شكلت ثروتها بالصدفة، والنجاح في ذلك لا علاقة له دائما بالذكاء والتخطيط ونجاعة العمل والاستراتيجيات ولا حتى باستغلال المال العام، فهناك اليوم رياضيون وفنانون يعيشون الغنى الفاحش ويراكمون الممتلكات خلال بضعة شهور أو سنوات، بل إن هناك من بنى ثروته من القمار والوساطات، وأحيانا حتى من الدعارة التي يصفها البعض بـ"الراقية".
إن العامل الأساسي في إمكانية المساهمة الفعالة في خلق الثروة الوطنية، يتعلق بالإضافة إلى التكوين والكفاءة، وامتلاك تصور شامل حول التنمية وسن سياسات ناجعة لتحقيق الرخاء، بمدى التجرد من الأنانية والاستعداد لخدمة الناس ومساعدتهم على تجاوز محنهم، بالصدق والنزاهة والتفاني وحب الوطن والتحلي بقيم الانضباط والالتزام، وهنا سأحاول سرد بعض النماذج التي تؤكد نجاح تجارب أشخاص تحلوا بهذه القيم، لم يستطيعوا أو ربما لم يفكروا حتى في بناء ثروة لأنفسهم لكنهم تمكنوا من بنائها لأوطانهم.
 
باني دولة عظمى.. نقابي يساري بدأ حياته ماسحا للأحذية
 
لويس إيناسيو لولا داسيلفا الذي يلقبه الكثيرون بـ"أشهر رئيس دولة في العالم"، الرجل الأكثر شعبية في تاريخ البرازيل، ولد وعاش فقيرا، عمل ماسحا للأحذية بشوارع ساو باولو، ثم في محطة وقود، فميكانيكيا، وبائعا للخضر، كان نقابيا شرسا يقارع الرأسمالية المتوحشة وجشع الشركات التي تراكم الثروات الباهظة على حساب حقوق العمال ومن خلال نهب ثروات الشعب، انتخب نائبا عن ولاية ساو باولو سنة 1986 ثم رئيسا للبلاد بين 2003 و2011، الرجل لم يصنع ثروة لنفسه لكنه صنعها لشعبه وجعل من دولته واحدة من أقوى اقتصادات العالم، فلما جاء إلى الرئاسة، كانت البرازيل تعيش أزمة اقتصادية واجتماعية خانقة بسبب تراكم الديون، كانت الدولة آيلة للسقوط ومهددة بالإفلاس، لكن داسيلفا اتبع سياسات ناجعة حقق بها المعجزات، إذ تمكن من سداد جميع مستحقات صندوق النقد الدولي فى أواخر 2005، والتى كانت تقدر بـ15.5 مليار دولار، كما سدد ديون الأنظمة السابقة قبل عامين من موعدها المحدد، بل إنه أقرض صندوق النقد نفسه ما يقارب من 10 مليارات دولار فى 2009، ورغم الأزمة المالية العالمية، فقد سجل الاقتصاد البرازيلى ما بين 2004 و2008 معدل نمو مقداره 5.1%. ولأن النمو الاقتصادي لا معنى له بدون عدالة اجتماعية، فقد سن الرئيس داسيلفا سياسة اجتماعية غير مسبوقة أدت إلى إنقاذ أكثر من 20 مليون برازيلي من تحت عتبة الفقر، حيث وسع نطاق مساعدة الدولة للفقراء من خلال برنامج المنح الأسرية، وقدم المساعدة لـ52 مليون شخص في وضعية صعبة من خلال برنامج "Bolsa Familia"، ورفع الأجور وخفض العجز والتضخم.
 
موخيكا.. أغنى شعبه وبقي فقيرا
 
في الحدود الجنوبية لإمبراطورية داسيلفا، ولد طفل فقير سيصير واحدا من أشهر رؤساء العالم، ويحمل لقب "أفقر رئيس دولة في العالم"، ولد خوسيه ألبرتو موخيكا كوردانو، المعروف بـ"بيبي" موخيكا، في مونتفيديو سنة 1935، وترعرع في أسرة معوزة، كان أباه يمتلك مزرعة صغيرة أعلنت إفلاسها عندما بلغ بيبي خمس سنوات، كرس حياته للعمل النضالي كأحد أفراد منظمة توباماروس اليسارية التي كان من بين مطالبها التوزيع العادل للثروة، كانت تستولي على البنوك وتقوم بتوزيع الأموال على الفقراء إلى أن هزمت سنة 1973، سجن الرجل لمدة 12 سنة قضى منها سنتين في عمق بئر، انخرط بعد ذلك كما رفاقه في العمل السياسي المؤسساتي، حيث عين وزيرا للثروة الحيوانية والزراعة من 2005 إلى 2008، وصولا إلى انتخابه رئيسا للبلاد عام 2009، تضامن مع الفقراء من خلال تخليه عن 85% من راتبه لفائدتهم، وسمح للمنظمات الإنسانية باستخدام قصور الرئاسة لإيواء المشردين، استطاع خلق ثروة وطنية مهمة وجعل الأوروغواي الدولة الأقل فسادا في أمريكا الجنوبية، عاش ومازال في مزرعة صغيرة متواضعة في ضواحي العاصمة مونتيفيديو.
في عهده وبفضل سياساته الاجتماعية، انخفضت نسبة الفقر من 40 إلى 12 في المائة، وتضاعف الحد الأدنى للأجور بين 2006 و2017، قام بتنويع مصادر الطاقة عبر الاهتمام بالطاقات المتجددة، ليحتل بلده الصغير الرتبة الثانية عالميا في هذا المجال، كما استطاع الرجل من خلال "مخطط معا" ( El Plan Juntos)، بناء 15000 منزل وزعت على الفقراء مجانا، شهور قبل توليه الرئاسة كانت نسبة البطالة تبلغ حوالي 13 في المائة، وفي سنة 2012 عرفت هبوطا تاريخيا إلى 5.6 في المائة، كما انتقل نصيب كل أوروغواياني من الناتج الداخلي الخام من 6000 إلى 17874 دولا سنويا عام 2018 (الرتبة 48 عالميا)، وارتفعت نسبة النمو إلى 6 في المائة خلال سنوات حكمه. خوسي موخيكا نموذج لإنسان أفنى حياته خدمة لشعبه وبقي فقيرا كما كان دوما.
 
مهاتير.. الطبيب الذي نفخ الروح في جسد ماليزيا المريض
 
رجل آخر وضع دولة آسيوية على سكة التقدم والرفاه، إنه مهاتير محمد الذي استطاع أن يحول ماليزيا من دولة فقيرة إلى نمر اقتصادي يوازي التجربة اليابانية، تمكن من إحداث نهضة وطنية لصالح بلده وتحويلها من دولة زراعية تعتمد على إنتاج وتصدير المواد الأولية إلى دولة صناعية متقدمة يساهم قطاع الصناعة والخدمات بنحو 90 في المائة من ناتجها المحلي. خلال فترة رئاسته للوزراء (من 1981 إلى 2003)، انخفضت نسبة الفقر من 52 إلى 5 في المائة، وارتفع متوسط دخل الفرد من 1200 دولار إلى 9000 دولار سنويا، وتهاوت نسبة البطالة إلى 3 في المائة، مهاتير لم يولد وفي فمه ملعقة من ذهب ولم يراكم ثروة كبيرة لنفسه، لكنه صنعها لأهله، اشتغل بائعا للقهوة والموز المقلي والوجبات الخفيفة، قبل أن يصير طبيبا ناجحا ثم سياسيا معروفا، كافح خلال فترة حكمه من أجل حقوق شعب الملايو والدول النامية، واتبع سياسات ناجعة ساعدت على ازدهار الاقتصاد، وكان إصلاح التعليم والبحث العلمي مفتاحا للإنجازات المتراكمة.
 
الثروة الحقيقية هي الإنسان
 
ولأن الثروة يخلقها الإنسان فمن الواجب توجيهها لحل مشاكله وتسهيل حياته، فهناك مقولة لمهاتير محمد كافية لفهم سر نجاح الرجل ومعه الرجلين اللذين ذكرناهما آنفا، لولا دا سيلفا وبيبي موخيكا، قال: "أفضل ثروة في أي دولة هي شعبها"، فحب الوطن والنضال من أجل تغيير أوضاع الناس إلى الأفضل، وحمل همومهم والإحساس بمعاناتهم، من شأنه أن يجعل من الزعيم والمسؤول مساهما كبيرا في تنمية الثروة الوطنية الموجهة دوما نحو تحقيق العدالة الاجتماعية والرفاه لكل المواطنين.
الرجال الثلاثة لم يكونوا خبراء في الاقتصاد أو التدبير ولم يحصلوا على دبلومات عالية في المجال، فالأول غادر المدرسة مبكرا ليعيل أسرته الفقيرة وعاش حياته نقابيا ينافح عن حقوق العمال، والثاني لم يكمل دراسته الجامعية وعاش شبابه حاملا للسلاح من أجل تحقيق العدالة، والثالث طبيب عرف كيف يداوي جسد بلده الجريح، لكن ما يجمع بينهم هو "إرادة التغيير" وحب الوطن والإيمان بالعدل بين جميع الناس.
إن المساهمة في تغيير أوضاع الشعوب وتقدم الأوطان، ليس رهينا بشكل حصري على العمل السياسي، ولنا في محمد يونس أستاذ الاقتصاد ومؤسس بنك الفقراء في بنغلاديش الذي حصل على جائزة نوبل للسلام سنة 2006، نموذجا لرجل بدأ عمله لصالح شعبه الفقير بـ27 دولارا، استثمرها في تقديم قروض صغيرة جدا للمعوزين، ليتطور رأسمال مؤسسته تدريجيا وتتحسن معه أوضاع الفقراء، حتى جعل من المتسولين أصحاب مشاريع يعيلون بها أسرهم، ويساهمون بها في تقدم وطنهم، إنه نموذج حي لتماهي وتناغم المصلحة الفردية مع الجماعية، كما أنه لا يمكن أبدا نكران مجهودات أغنياء ولدوا محظوظين وبنوا ثروات هائلة ساهموا بها في تحسين أوضاع الشعوب والدول، وهو نتيجة عادية لتفكير سوي لا يجعل من الناس عبيدا في ضيعات الإنتاج، أو جثتا نمر فوقها لنبني الجاه، بل بشرا مثلنا يحتاجون لمن يعطيهم الفرصة لتحقيق تطلعاتهم ومن يساعدهم على تحقيق المساواة من خلال التوزيع العادل للثروة.
إن بروز فئات جديدة من رجال الأعمال والسياسيين المتشبعين بالقيم الوطنية والإنسانية، المقتنعين بأن الطمع والجشع يكرس الظلم واللامساواة ويفوّت فرص التقدم على الشعوب والبلدان، وأن توجيه جزء من الثروات الشخصية والثروة الوطنية كاملة لتحقيق العدالة الاجتماعية والرفاه للجميع، أمر في بالغ الأهمية لبناء مستقبل أفضل، بعيدا عن البورجوازية الاحتكارية اللاإنسانية الغارقة في الفساد والريع والاستغلال، هذه الفئة للأسف حينما نضع بين أيديها مستقبل الأوطان والشعوب ستوجهها لإشباع رغبات لا يكفيها مال قارون ولو وصلت إلى التخمة، أولئك الذين يحق فيهم الحديث النبوي "لو أن لابن آدم واديا من ذهب، أحب أن يكون له واديان، ولن يملأ فاه إلا التراب، ويتوب الله على من تاب"، أما الطموح الشخصي البعيد عن الفساد والريع والنهب والاستغلال والتهرب الضريبي، فهو مشروع ومستحب وفوائده تعم الجميع وتساهم في تحقيق الازدهار.
 
صحافي وفاعل سياسي