الغد 24 خبر الغد تقرأه اليوم

أحمد حبشي: مسرحية "عطّاي العزاراة".. عشق على ضفاف نهر

 
أحمد حبشي
 
حكاية استوت في الذاكرة يلفها الإبهام، يتداولها الناس بألف رواية، يمجّدون في سرد تفاصيلها مباهج الحب وخصلة الوفاء. تعفر مكان توالي أحداث وقائعها بنسائم الاشتياق، وأصبحت فضاءاته قبلة كل العاشقين الحالمين بلحظة ابتهال في دفء الأحضان. اختفت معالم الحكاية وبقي ذكر العاشقين يسم المكان بكل معاني الارتقاء. بوشعيب الرداد وعائشة البحرية، رمزان خلّدتهما في الذاكرة قوة المواجهة بين سلطة الاستبداد وصلابة العشق الصادق وصفاء الوفاء، فصارت وقائع أيامهما حكاية عشق توارث الأجيال انسياب تفاصيلها بصيغ يوحّدها صدق العواطف ونبل الإخلاص.
 
عرض الحكاية مسرحيا سمح بكشف جوانب من مرحلة تاريخية اتسمت بالاستبداد، والتعاطي الظالم مع مكونات المجتمع، والتحكم في كل مجالات العيش وتدابير الحياة. تفاعل الفنان عبد المجيد سعد الله مع وقائع تجربة عشق بين عنصرين من أعلام الصوفية في البلاد، محاولة لتسليط الضوء على مرحلة بكل تعقيداتها وتداخل علاقاتها. بوشعيب الرداد بكل وقاره وقدسية شخصيته، كما هي في التداول الشعبي، يصل بلاد أزمور لاستنهاض الهمم وتعميم المعرفة الدينية، كفقيه جليل، ما لبث أن اكتسب مكانة يحفّها التقديس والاحترام، تقوده المشاعر الفياضة التي احتُضن بها من طرف سكان المجال، إلى تجربة عشق لم يقو على صد تراتيل تعبيرها، في تواصله المعتاد بمحيطه الجديد، يلفه شغف عائشة البحرية، الشابة الوديعة التي أشعل مشاعرها بشخصه وغزارة علمه وقوة استقامته، راودته على نفسه فاستغاث بإيمانه على تجنب المحظور، لم يقو على الوقوف في وجه الحاكم الطاغية، الذي سخّر كل نفوذه لجعل عائشة جارية من جواريه. وظف كل إمكانياته بالضغط على والدته وتسخير كل زبانيته لإرغام الفقيه على الابتعاد عن معشوقته، معتمدا في كل ذلك على الهلع الذي لم تقوَ والدة عائشة على صدّه وتجاوز عواقبه. استسلم الفقيه مرعوبا لرغبة الحاكم وعمل على صد البحرية وإقناعها بأن زهده الفائق يحول بينه وبين أي علاقة حب أو روابط زواج. تغالب عائشة تداعيات إخفاق كل محاولاتها، وتصديه القوي لمحيطها ولكل من يقف في سبيل توقها لمعانقة من خصته بكل مشاعرها. حمل بوشعيب وزر تردده وهلعه من قوة السلطان، فتاه في محيطه الواسع يوزع البركات وييسر بدعواته سبل الإنجاب وتكاثر الأنام. ماتت عائشة مكلومة لم تقو على هجر الحبيب وتحمل رهبة محيطها القريب، وتسلط الحاكم المستبد، الذي لم يستسغ رفضها لوصاله ومساكنة جواريه.
 
مسرحية "عطاي العزاراة"، التي استلهمت فصولها من الحكاية، سلطت الأضواء على عوالم تخفي وراءها اعتقادا شعبيا قويَّ التداول، يؤكد على أن مولاي بوشعيب الرداد، الذي لم يرزق بأبناء، أصبحت زيارة قبره والإقامة لمدة بجواره، تمنح الخصوبة والإسعاد بالإنجاب. تقابله على الضفة الأخرى للنهر لالة عايشة البحرية، مانحة الحظ في القران وإقامة أفراح الزواج.
 
أخرج المسرحية الشاب الواعد سامي سعد الله، بأسلوبه الخاص معتمدا كل البهارات التي تجعل المشاهد في عوالم صوفية متعددة المباهج، في استقراء للوقائع وسعي لتركيز اللحظات الموثقة، حيث تتقابل فيها الإرادة الثابتة والتماهي مع كل لواعج الحب الجارف والتردد الخانق بما يحجز الرغبات ويعيق كل تماس بين الحب والغلو في استعمال السلطة والاستبداد.
_________
أكتوبر 2024